التجريب في النصّ الدراميّ
د. منصور نعمان
ما طبيعة التجريب وما أمكانية اقتحام شخص مجرّب ميدان المسرح وآلياته المختلفة؟ وقد لا يخطر ببال المتسائل، أنّ لبّ التجريب يكمن في النصّ الدراميّ الذي يكتبه المؤلّف في ضوء مؤثرات تدفعه بقوة إنجاز نصّه، سواء كانت المؤثرات: تاريخية أو اجتماعية أو سياسية.
ليس صوت المؤلّف الدراميّ الأكبر في العرض المسرحيّ. إلا أن صوته في النصّ يكون بوصفه يخلق عالماً مكتظاً ومزدحماً ومتصارخاً ومصطرعاً. وتتجلّى براعة المؤلف بدرجة عمق استدراجه منطوق الحياة، وصوغ منطوق دراميّ قد يقترب أو يبتعد عن الأصل. لكنه يحمل في الوقت ذاته صوت المؤلّف الذي يتغذى من رؤية بمنظور جمالي، وسعة اطلاع، ودقة في طرح الآراء، حتى الآراء المناوئة له. بوصف العالم الدرامي الذي يشكله في النص شكلاً من أشكال البرلمانية. يتمتع الأبطال فيه بحقوقهم الكاملة، وإن اختلفوا مع صوت المؤلّف.
إن خاصيّة المؤلف الدرامي، أنه ينشئ عالماً درامياً نابعاً من خلاصة تجارب إنسانية في الحياة، ويعيد خلقها ضمن نسيج يصوغه تفرّد المؤلف وبراعته، والغاية التي يقصدها هي الكشف عن قوانين الحياة في حاضنة العالم المتخيل للمؤلف، إلا أنه قادر على جعل هذا العالم الافتراضي المزدحم، والتأريخ الدرامي العالمي، حافليَن بعدد من النصوص الدرامية التي رسّخت أمام عاديات الزمن، وسرّ بقائها ووجودها أنها عبّرت عن صميم المشكلات التي تؤرّق وجوده، على رغم أنها عالجت في حينه مشكلات الحياة التي انبثقت منها تأريخاً. فالمؤلف يعيش الحياة بكل تفصيلاتها وتداخلاتها ومتاهاتها، يلتقط ذاكرة حياة ويشكّلها، ويحوّل كل المدركات الحسية وغير الحسية إلى مدركات قابلة للإدراك جمالياً.
والتساؤل يطرح من جديد: كيف يكون التجريب في النصّ الدراميّ ووضع المؤلف هو هو لم يتغير؟
وللإجابة نقول: إن التجريب ليس بعبث طفوليّ أو نزق يعبّر عن رغبات سرعان ما تنطفئ ويهفت لهبها. وذلك أن التجريب بحث متواصل ومتصل، والتقاط نهم للحياة وللحاجات التي تفرضها الظروف المتنوّعة، وللمنطق الفلسفي الذي يتبنّاه المؤلف، وهذا يعني أنّ الفلسفة جزء لا يتجزّأ، ليس من المؤلف فحسب، إنما من مفهوم التجريب ذاته بوصفه كسراً مدركاً والإتيان بمدرك جديد. لهذا، فإنّ الجوهري ليس ما يدرك، إنما الصيغة التي سيتم في ضوئها التأسيس عليها. لهذا فإن التجريب لا ينطلق من أرض مجدبة أو أرض بكر. ذلك أن مفهوم التجريب، عملية خرق معرفيّ في المنطلق الفلسفي للمؤلف. لهذا، فقد لا تأتي تجربة المؤلف بجديد وهو يقدّم عالماً درامياً دامياً أو محطماً أو عابثاً. لذلك تضمحل صورة المؤلف، ويخفت صوته، وينتهي أمره. والجدير ذكره، أن التجريب في النصّ قد لا يكون كلّياً في النصّ، بمعنى قد يكون الاشتغال على بعض عناصر النصّ، إلا أن التجريبي المدهش في حينه الذي استطاع أن يضيف الممثل الثاني في النصّ، ألا وهو «إسخيلوس»، إذ كان قبله الممثل الإغريقي «شيبس» الذي كان يسرد حكاية النصّ على لسانه، من دون ممثّل آخر معه. إلا أن «إسخيلوس» من خلال عمق تفكيره ومنظوره، والمناخ الفلسفي على لسانه، استطاع إيجاد الدراما التي استطاع من خلال فرض الممثل الثاني، تعزيز الصراع وتقويته وترصينه، وهو بذلك حوّل السرد إلى فعل، والدراما فنّ الفعل.
إن ذلك حقّق للمؤلف مساحة في التعبير واسعة بالمقارنة بما قبله من حكايات تروى على لسان بطل واحد، وجاء بعده «سوفوكليس» الذي أضاف الممثل الثالث، والأخير عمّق المواقف الدرامية، وجعلها سلسلة متماسكة. وخير شاهد نسوقه، مسرحيته الخالدة «أوديبوس ملكاً». وقد يرى البعض أنّ ذلك لا يعني الكثير بعدما قطع المسرح شوطاً بعيداً، إلا أنّ نمو الدراما وتطوّرها انطلقا من خلال تلك المتغيّرات التي شكلت فعلاً قوياُ مؤثراً، بحيث صارت الدراما متقدّمة. وحثّ الفيلسوف والناقد «أرسطو» لوضع نظرية الأدب، وخصّص للدراما ركناً كاشفاً عن دلالاته وعناصره وخصائصه بالمقارنة مع الأنواع الأخرى.
إن التجريب على النصّ الدراميّ الإغريقي، ساهم في إرساء قواعد وأسس تتعلّق في كيفية إدراك النص ذاته وتذوّقه. لذا، فإنّ التجريب ههنا يُعدّ خلقاً إبداعياً لمحرّكات الحياة ومستجدّاتها، فتح نوافذ الفكر الإنساني لمساحات أكثر انفتاحاً وعمقاً، وتجلى ذلك في نصوص المؤلف الإغريقي «يروبيدس» الذي لم يضف إلى النصّ شيئاً، إنما شكلت إضافته في كيفية معالجة الموضوعات، وهذا يعني أن التجريب الذي سبقه على يدي الكاتبين «إسخيلوس» و«سوفكلس»، ساهم بمساحة جديدة تتعلق بصيغة طرح الشخصيات العادية والبسيطة، لترقى إلى مرتبة الأبطال. وهذا بحدّ ذاته توجّه يُعَدُّ جديداً في النصّ الإغريقي الذي عكف على تناول شخصيات مرموقة وقوية.
ويلاحَظ أن سخونة الموضوعات والأحداث، جاءت تلبية للحياة الاجتماعية العاجة بالأفكار والمبارزات الكلامية والمقولات الفلسفية المتحركة في أكثر من اتجاه. لهذا، فإن الإضافة والتطور في بنية النص يعنيان الكشف عن إدراك جديد، أي هنالك عمليات هدم وبناء لا بوصفها تجربة خارجة عن نطاق الوعي، بل العكس، أنها تتمركز في صميم الحياة وتزلزل أسسها الأيدولوجية.
أما النصوص الدرامية في عصر النهضة، فقد اتجهت صوب البطل الدرامي، والمؤلف صار ينشر بؤر النصّ في تعددية الشخوص، أو في الكشف المستمر لشخصية من الشخصيات، بحيث نقرأ تلك الخلخلة في روح البطل، وتلك المساحات شبه الضائعة، استماتة البطل وهو يبحث عن تحقيق ذاته ومصيره وأفكاره، واصطدامه المستمر مع العقبات والحواجز، التي ينهض بها البطل المناوئ له.
إنّ النصّ ههنا يعدّ من أشكال امتصاص روح العصر المتسمة بالتوثب والفاقدة أسسها العقائدية والنفسية لإنسان العصر. ففقد إيمانه بالماضي، مثلما فقد طمأنينته الواضحة للمستقبل الذي بدا لا يؤتمن، لهذا جاءت نصوص المؤلف «وليم شكسبير» وعلى وجه التحديد «هاملت، عطيل، الملك لير». التعبير الأكثر نضجاً لواقع يتحرك ولإنسان ذلك الواقع الذي لم يعدّ واضحاً ولا واثقاً بما يراه ويحيا في ظله. وخلق مجموعة بؤر تتحرك وتحرك البطل. فـ«أوفيليا» تشكل بؤرة، والملكة، والملك، و«لايرتس»… إلخ، توزّعت البؤر وانتشرت في سياق الحدث الدرامي، تشكلت التماعات الوجود البشري، الذي اختزل وأعيد إنتاجه جمالياً، بحيث نجد التنوع الغزير والتفرد واستماتتهم من أجل تحقيق أهدافهم، إلا أنهم يصدون ويتحطمون.
إن هذه القدرة الدرامية الهائلة والمصاغة على زعزعة العالم وهزّه من خلال خلق مساحات جديدة في بنية النصّ الدراميّ، تعدّ شكلاً فنياً تجريبياً متقدّماً على بنية النصّ الإغريقي، فضلاً على شكل النصّ الذي صار بخمسة فصول. ويلاحظ أيضاً، أن التجريب في كتابة النصّ لم يتوقف، فسرعان ما نشطت حروب المؤلفين. ففي النصوص التعبيرية، ظهر البطل المتفرد الذي ينعكس العلم من خلال رؤيته، ولم يعد العالم هو عالم الواقع والحياة اليومية المدركة، إنما العالم من وجهة نظر البطل الذي بدا مشوشاً ومضبباً وأحياناً مهشماً. لهذا، فإن مؤلفي النصّ التعبيري عكفوا على إظهار المساحات النفسية والهزّات العاطفية والخلجات التي تكتنف البطل الذي لم يعد يُرى غيره، والشخوص المحيطون به مجرد أرقام أو صفات، أي دخلت النمذجة وإسباغ الصفة على ما يقع خارج ذات البطل المركزي. وهو انعكاس واضح للحرب، وما خلقته من دمار وتحطيم وتشويه. إن المؤلف أدرك الحياة وما تخلفه، بالتالي عبّر عن ذلك من خلال إزاحة الأسس والقواعد التقليدية للنصّ الدرامي، وسلّط الضوء على كيفية مغايرة في خلق النسيج الدرامي ذاته، ولهذا انجرف العالم تحت عباءة البطل المركزي، بعدما تعدّت ذات البطل مساحة أوسع، وأضحت الذات البشرية الصارخة في وجه ما أصاب الحياة من دمار وتحطيم وخراب. وربما كانت مسرحية «في انتظار كودوت» لمؤلفها «صموئيل بيكت»، أكثر النصوص الدرامية قلباً للقواعد والأسس. فقد تقهقر الحوار وأضحى مفككاً، وتهشّمت قاعدة حبكة النصّ، فلم تعد الحبكة المنضدة ذات البداية والوسط والنهاية، هي ما يحفل به نصّ «بيكت». وفضلاً عن ذلك، صار التكرار جزءاً لا يتجزأ من تكوين النصّ الجمالي.
وعليه، فإنّ النص حطّم القاعدة الأرسطية واجتهد بتكوين قاعدة جديدة، بعدما أدرك المؤلف طبيعة الخراب والوضع المزري لبني البشر، وفقدانهم قدرة التواصل وانتظارهم القادم الذي لا يأتي. إلا أن البشرية تضع عصارة عذابها على مشجب الانتظار، وكان المؤلف أراد السخرية من تردي الوضع البشري في دماره وتحطمه وضياعه وخوفه وقلقه، من أن لا شيء يحدث، ومع ذلك يحيا البشر حياتهم، وكأنه تعبير عن آلية في الوجود الذي استلبت منه الروح. ومع ذلك يبقى عسى أن يتغير العالم.
إن تفكّك النصّ وتكراره، وفقدانه الحدث الظاهري لا يلغيان بنيته الرصينة والعميقة. فقد أخفى المؤلف حديثه مثلما أخفيت الحقيقة عن بني البشر في جدوى بقائهم ومعناه. وبقي الإحساس بالعدمية انعكاساً لحالة التصدّع التي أصابت الإنسان في حضارة أسسها. إلا أنها نهشته حَدَّ العظم.
إن النصّ الدراميّ زلزل الصيغ التي صارت مألوفة في كتابة النصوص، وأوجد صيغاً أخرى غير مألوفة أو سائدة، إلا أنه أسّس لها وفق عقل استراتيجي، ووفق منظور فلسفيّ استطاع من خلاله تكثيف دلالات الحياة والوجود في نصّ بدا متخلخلاً وفجّاً. إلا أن حقيقته تتّسم بالرص والعمق والقدرة والحنكة على مواجهة الحياة.
إنّ التجريب في النصّ الدراميّ ما هو إلا كشف عن الحياة، وخرق للسائد والمألوف، وإماطة اللثام عن الجديد والمعبّر عمّا يحتاج إليه الإنسان من هول ودمار.