السلفيّة بين تيّارين: سلطويّ مستكين… وعنفيّ تكفيريّ
فؤاد عيتاني
الحديث عن السلفية في السعودية بالغ التعقيد ومتشعب، فالمقاربة التحليلية لعنصر من عناصرها ما هو إلاّ محاولة منا لتقديم وجهة نظر شاملة تعرّف بخطوطها العريضة وما آلت إليه في اللحظة الراهنة.
نبدأ بأحد أهم عناصرها: المعارضة المنبثقة من رحم السلفية، أو ما يُسمى بالصحوة الإسلامية في السعودية خاصة، والتيار السلفي في العالم عامة.
إن تناول المعارضة السلفية أشمل من تناول السلفية على نحو تقليديّ، فالمقاربة الأولى تعني السلفية من الداخل كما من الخارج، بحكم أن معارضة الشيء تبدأ بتفكيك قواعد تكوينه، مع الحفاظ على مسافة معينة.
النشأة والتكوين:
عام 1744 توّج الملك محمد بن سعود والشيخ الديني أو الروحي محمد بن عبد الوهاب تحالفهما العسكري الديني على أساس تكوين ميدان للسلطة. وقسم هذا الميدان بين مجالين، السياسي تحت قيادة ابن سعود والديني تحت إشراف محمد بن عبدالوهاب. وبهذا استطاع الرجلان إنشاء تحالف قوي قامت عليه الدولة السعودية الأولى، واستمر التحالف في إمداد الدولتين اللاحقتين، السعودية الثانية والسعودية الثالثة، بمصدر شرعي بالغ الخطورة والأهمية، ألا وهو الدين.
هذا التحالف يعتبر الأول كتيار مقاتل للمسلمين على اعتبارات دينية، وسبباً في ميلاد دولة ملكية. في الماضي البعيد رأينا مع معاوية بن أبي سفيان ميلاد الملك، ومع الخوارج قتال المسلمين. لكن للمرة الأولى يجتمع قتال المسلمين مع الملك الوراثي، مع آل سعود.
يلاحظ العديد من الباحثين أن فكر بن عبد الوهاب قام على ما يسمى بمنهج السلف الصالح، والمقصود هو الرجوع إلى مصادر التشريع الأصلية، أي القرآن والسنة. ولم يكن عبد الوهاب منقطعاً عن معاصريه منهجاً وممارسة، كما هي الصورة الشائعة عنه، بل كان مطّلعاً على المدارس الفكرية الرئيسية وتوجهات علماء عصره.
هذه الفكرة، مع تعدد التفسيرات لإرث محمد بن عبدالوهاب، يشكلان دليلاً على مرونة فكره وقابليته للتكيف مع أكثر من اتجاه. غير أن الرجوع إلى منهج السلف الصالح، بحسب فكر عبدالوهاب، يعني جعل الاجتهاد مركزاً رئيسياً في الفقه، وذاك ما نراه جلياً في أهم كتاباته، خاصة مؤلفه المشهور «كتاب التوحيد». وبناءً على الفكرة هذه يصبح التقليد مرفوضاً. ولهذا التوجه انعكاسات خطيرة نتتبع بعضها، مع ملاحظة نقطتين في هذا المقام:
الأولى، رفض التقليد عبر مركزية الاجتهاد. ومردّ ذلك أن الاجتهاد حق لكل مسلم يمارسه من دون وصاية من أحد. وبالتالي، وهذا ثانياً، تغدو المساحة التي تفصل عالم الدين عن المجتمع قصيرة جداً، ما يقيد احتكار الدين أو ممارسة الكهنوتية، وفتح الفضاء العام للتعددية الفكرية في الدين من غير الإخلال بالخطوط العريضة بالتأكيد. لكنّ الشيخ محمد بن عبدالوهاب، عبر سعيه إلى التفرغ لأمور العقيدة أهمل الاجتهاد وفضّل اتباع فتاوى بعض من سبقوه، متبنياً المدرسة «الحنبلية» نسبة إلى الإمام أحمد ابن حنبل في المجمل. وفي هذا تناقض واضح بين دعوته إلى الاجتهاد وتقليده المدرسة الحنبلية. ولا نستطيع تحديد الأسباب التي جعلته ينحو إلى ذلك، لكن من المهم استحضار السياق السياسي لتكوين الدولة السعودية الأولى، وهو التوسع والسيطرة على أراض جديدة. ما جعل التركيز منصباً على تعليم العقيدة أكثر من الفقه، بحكم دخول أعداد غفيرة في دعوته.
التطوّر:
كأيّ فكر في أيّ مكان، تطور هذا المنهج الذي بات يُعرف بالوهابية وسط ذلك المزيج من الاجتهاد النظري والتقليد العملي الحنبلي . ومن المراحل المهمة التي شهدها، بروز تيارين رئيسيين هما التيار الإقصائي والتيار الاحتوائي. ومن الأمثلة على ذلك، موقف العلماء من الغزو المصري للدولة السعودية الثانية عام 1818 واحتلالهم أراضيها فانقسم جمهور العلماء بين مكفر مخرج للمصريين الغزاة من الملة يرى وجوب الهجرة عن أرض يحكمونها، ومسفه لهم ومعترف بخطأهم لكنه لا يكفرهم ولا يخرجهم من الملة، وعليه فلا حاجة إلى الهجرة من «دار الكفر إلى دار الإسلام ». واستمر هذا التطور مع بداية الدولة السعودية الثالثة على يد الملك عبد العزيز آل سعود، غير أن عدة متغيّرات طرأت على ميدان السلطة المحكوم بالقسمة التقليدية: المجال السياسي بقيادة آل سعود، والمجال الديني تحت إشراف رجال الدين ومن أبرزهم أفراد أسرة آل الشيخ، أي أسرة الشيخ محمد بن عبدالوهاب. ومن هذه المتغيرات تلك الموجة التحديثية والتنموية التي ساهمت في بروز مجالات أخرى في ميدان السلطة، مثل المجال الاقتصادي والمجال الثقافي. غير أن تلك المشاريع التنموية ركزت على المكان أكثر من الإنسان، ما جعل التنمية مشوهة. والسبب عدم مواكبة التنمية القيمية كقيمة العمل والثروة والإنتاج للتنمية المادية. ومن هنا برزت تحديات جمة، في مقدمها مصالحة الأصالة بالمعاصرة. وبحكم موقع رجال الدين الاجتماعي ينظر إليهم إلى حد ما على أنهم حراس الأصالة والمؤتمنون على المحافظة عليها.
رافق هذه التنمية المشوهة سياق إقليمي أحدثه تراجع القومية العربية في المنطقة، وأحدث ذلك فراغاً فكرياً كبيراً، وكان في خضم سقوط الحداثة العالمية وبروز ما بعد الحداثة: تقدّم الهامش وسقوط المركز. فبرزت الحركات الإسلامية على الساحة مالئة فراغاً خلفته القومية العربية.
في تلك الفترة، مرت السعودية في تحديات أهمها ترسيخ شرعيتها وإنهاء الصراعات داخل العائلة الحاكمة على العرش ما اضطرها إلى الاستعانة بالمؤسسة الدينية لإضفاء الشرعية على الترتيبات الجديدة «تتويج فيصل ملكاً، وتقاسم السلطة مع المراكز المؤثرة داخل الأسرة الحاكمة».
أفادت المؤسسة الدينية من تلك الظروف لتعزيز سلطتها فتمتعت بامتيازات كبيرة ليس أقلها السيطرة على قطاعات التعليم المختلفة وإشرافها المباشر على المناهج التعليمية وعلى النشء. وبحكم استضافة المملكة العربية السعودية أفراد جماعات «الإخوان»، خاصة من سورية ومصر، احتك الفكر الوهابي السلفي بالفكر «الإخواني» الحركي فأحدث الاحتكاك تطوّرات خطيرة في المفاهيم الرئيسية للفكر السلفي الذي كان سائداً في السعودية.
مفاهيم رئيسية:
من أهم المفاهيم الرئيسية في الفكر السلفي الوهابي طاعة ولي الأمر وله دور مركزي في المحافظة على شرعية الحكم في الدولة السعودية. وبحسب الإرث الوهابي، لا يجوز الخروج على ولي الأمر وتحدي سلطته إلاّ إذا منع الصلاة في المساجد، أي بعد كفره وخروجه من الملة خروجاً بيّناً. وهذا يعطي ولي الأمر مساحة غير محدودة للتصرف في إدارة الدولة كما يشاء، من دون رقابة، على المستوى النظري طبعاً، من أحد. غير أن تواجد «الإخوان» الكثيف في السعودية وحضورهم المهم في مراكز «تعبوية» خطيرة، كأساتذة جامعات وأطباء ومهندسين، كان له بالغ الأثر. وإلى ذلك حصل تواصل فكري ديني بين جيل من شباب الوهابية ومفاهيم حركية «إخوانية»، وفي ذلك توفير لبديل خطير لمفهوم ولي الأمر التقليدي. انعكس التأثر بالفكر «الإخواني» الحركي على مفهوم ولي الأمر كثيراً، إلى حد إدراج شروط متعددة، إذا لم تحترم تسقط شرعية الحاكم، ويستتبع ذلك جواز الخروج عليه. لكن تحديد تلك الشروط، ومراقبة احترامها ثم تقرير ما يلزم حيال الخروج أو عدم الخروج على الحاكم، يبقى كله منوطاً بأهل الحل والعقد. ومفهوم أهل الحل والعقد يعني تقسيم المسلمين قسمين، قسماً تابعاً وقسماً متبوعاً. وامتلاك صلاحية تحديد أفراد كل قسم ينحصر في رجال الدين نظرياً، لكنه يخضع عملياً لشروط اجتماعية كثيرة ومعقدة.
المهم في ذلك كله إمكان تحوير هذا المفهوم ليغدو أكثر انفتاحاً على الجميع، ما يخفض احتكار نخبة معينة للسلطة، وهذا حصل مع تيارات متعددة انبثقت عن السلفية، مثل الصحوة، التي شكّلت ذات فترة معارضة قوية للمجالين الرئيسيين في ميدان السلطة، المجال السياسي والمجال الديني.
يلي ذلك مفهوم الولاء والبراء وهو مفهوم يعني، بحسب وجهة النظر الوهابية، حرمة موالاة الكفار. ونظر محمد بن سعيد القحطاني إلى هذا المفهوم في كتابه «الولاء والبراء في الإسلام». وساعد الكتاب في إعادة الزخم إلى التوجه الأحادي في الوهابية، أي الرأي الأوحد الإقصائي. ولهذه الفكرة أثر بالغ الأهمية فالنظام السياسي الدولي مفروض على المملكة العربية السعودية بحكم مركزية النفط في اقتصادها الارتباط بالاقتصاد العالمي والانفتاح عليه. وهذا يمكن تفهمه لو نظرنا إلى حاجة المملكة إلى من يشتري نفطها، وهذا بالطبع يعني الدول المتقدمة والمتطورة صناعياً. وهنا مأزق آخر على السعودية التعامل معه: مصالحة موقعها الإسلامي المحوري وخطاب شرعيتها المستند إلى الكتاب والسنة وتحالفاتها مع العالم الغربي الذي لا يدين بالإسلام.
كلما عصفت بالمملكة أزمة، أياً تكن، اجتماعية أو اقتصادية أو غير ذلك عبّرت تلك الأزمة عن وجودها من خلال المأزقين الكبيرين: مصالحة الأصالة والمعاصرة، والجمع بين موقعها كبلد للحرمين وحليف رئيسي للغرب. ونستدل على ذلك بعدة أمثلة، كالحرب الأهلية التي قامت بين الملك عبد العزيز و«الإخوان» في أواخر العشرينات من القرن المنصرم. فقادة «الإخوان» الذين يمكن أن نطلق عليهم تسمية «النخبة القبلية» بحكم قيادة شيوخ قبائل مطير وعتيبة للقوة العسكرية الضاربة كانت لديهم طموحات سياسية مثل اقتسام السلطة مع الملك عبد العزيز، وعبروا عن احتجاجهم على احتكار الملك عبد العزيز للسلطة من خلال مفاهيم دينية، مثل الولاء والبراء. ومن أبرز مآخذهم مهادنة الكفار وموالاتهم ومنع الجهاد ضدهم، وكانوا يقصدون العراق والأردن وبريطانيا. انتصر الملك عبد العزيز، لكن المفهوم بقي حياً. ومن الأمثلة أيضاً احتلال جهيمان العتيبي ورفاقه الحرم المكي الشريف، محاولاً قلب الحكم على أسرة آل سعود. ونرى أن التغيرات الاجتماعية الهائلة كانت من العوامل التي ساهمت في بروز حركات مثل حركة جهيمان. فمأزق مصالحة الحداثة مع التاريخ الإسلامي والاجتماعي في السعودية، أي الأصالة والمعاصرة، أثّر في السلم الاجتماعي. ومن الأساليب التي اتبعتها الحكومة السعودية للتعامل مع هذين المأزقين مصالحة الأصالة والمعاصرة. فضلاً عن مأزق الولاء والبراء، إذ كان هناك احتواء للمؤسسة الدينية عبر تأطيرها وتعميق تبعيتها للسلطة السياسية، وظهرت على السطح مؤسسات مثل مؤسسة هيئة كبار العلماء. وأرسلت الدولة أعداداً كبيرة من الشباب إلى الخارج ليحصّلوا المعارف والعلوم الحديثة، لكنهم لم يحملوا لدى عودتهم تلك العلوم فحسب، بل حملوا أفكاراً وتوجهات ذات أبعاد اجتماعية، فشكّلت الأجيال المتعاقبة أرضية لنخبة ثقافية استقلت بمجالها الخاص عن ميدان السلطة. وليس أدلّ على ذلك من بروز حركة الحداثة الأدبية التي حصلت في منتصف الثمانينات والتي تمتعت بإطار نظري متقدم وإنتاج نقدي وأدبي ثري. وأبرزت هذه التغيرات مجتمعة تيارات متعددة داخل السلفية الوهابية السعودية، كرد فعل على تلك المتغيرات كافة.
التيارات السلفية وعلاقتها بالسلطة:
نكتفي بالحديث عن طرفين رئيسيين يعارضهما التيار الصحوي وهما السلفية التقليدية والجامية. إنما علينا تعريف هذا التيار الصحوي وتحرير بعض مصطلحاته، إذ طغى الجو الإسلامي الحركي أو الإسلام السياسي على الساحة الإقليمية. وبرز الإسلاميون في كل من فلسطين وسورية ومصر وإيران، وشكّلت فترة ما أطلق عليه الجهاد الأفغاني مرحلة مفصلية في تاريخ السلفية السعودية فاشتد عود هذا التيار عبر مواجهتين: الأولى داخلية والثانية خارجية. فالهدف الرئيسي للحداثة الأدبية هو مسخ الهوية الإسلامية للمجتمع السعودي. وشنت معركة ضارية اضطرت جامعة أم القرى، على سبيل المثال، إلى الامتناع عن منح سعيد السريحي وهو ناقد أدبي حداثي معروف، شهادة الدكتوراه. واضطرت أيضاً عبدالله الغذامي، مؤلف كتاب «الخطيئة والتكفير»، إلى ترك جامعة الملك عبدالعزيز في جدة والانتقال إلى الرياض. وحاولت السلطة الحفاظ على توازن معين بين الفريقين، كي لا يفني أحدهما الآخر، وربما لخلق توازن بينهما فلا تخلو الساحة لأحدهما ولا يشكل مصدر إزعاج للسلطة. أما العدو الخارجي فكان ما يطلق عليه الاتحاد السوفياتي الذي غزا أفغانستان، وكان لا بد من إعلان الجهاد عليه «ودحر عدوانه». ووافق ذلك هوى الحكومة السعودية التي كانت ترى في وصول الجيش الأحمر إلى أفغانستان مقدمة لغزو الخليج، ودعم القوى اليسارية العربية، على حساب الملكيات والأنظمة المحافظة. ولاقى ذلك ترحيباً غربياً عامة، وأميركياً خاصة، لتوجس الغرب من الاتحاد السوفياتي وطموحاته التوسعية في الخليج العربي بحسب ما صوره الغرب وكرسه في عقول رموز الحركة الوهابية والعادات المالكة. وكان محصلة ذلك تبني الحكومة السعودية الجهاد في أفغانستان عبر الدعم المادي والمعنوي، فقامت حملات التبعئة في المملكة على مستوى المال والرجال، وكانت تلك مقدمات لبروز تنظيم القاعدة من رحم الحركة الوهابية ورحم جماعة «الإخوان المسلمين» في العالم. وبعدما سحب الجيش السوفياتي قواته من أفغانستان، عاد معظمهم إلى بلدانهم وبينها السعودية، ما أدى إلى نشوء ظاهرة جديدة كان لها بالغ الأثر لاحقاً وهي ظاهرة البطالة التكفيرية التي أطلق عليها زوراً وبهتاناً الجهادية وتشبه إلى حد كبير الغزوات في عهد الجاهلية القديمة التي ما أن تنتهي حتى يطالب قادة الجاهلية بالتحضير لغزوات جديدة تمكنهم من السرقة والاستيلاء على مغانم جديدة. وبعد عودتهم من أفغانستان واكتسابهم مهارات قتالية وتنظيمية كبيرة على يد خبراء عسكريين من أميركا أشرفوا على إعداد تنظيم القاعدة تحت مسمى أنهم «مجاهدون في سبيل الدين والعقيدة ومحاربة الفكر الشيوعي في بلاد المسلمين»، وعانى هؤلاء المقاتلون التكفيريون السابقون من غياب «المعركة الكبرى»، في ما أطلق عليه «بطالة جهادية»، فلم يعد رغد العيش والصالات المكيفة يعوّضهم عن هامات الجبال في تورا بورا أو بطون الأودية الأفغانية المليئة بزراعة المخدرات الذي أخذ قسم كبير منهم يتعاطاها، وذاك ما يظهر راهناً في أمراض قادتهم. استطاع هؤلاء العائدون أن يستثمروا خبراتهم التنظيمية لاستكمال مسيرتهم في «خدةمك مشروع تنظيم القاعدة»، ولم يكن ينقصهم إلا سبب، أو أمر مثير، ليتم التحرك وتفعيل دور تلك البنية التحتية التعبوية. ومع غزو العراق للكويت، واضطرار السعودية إلى الاستتنجاد بالغرب، توافر السبب وحانت الفرصة، فبدأت التعبئة ضد «الغزاة الأميركان» في أرض «الحرمين».
غداً حلقة ثانية