راقبوا الألمانيّ جيداً
طاهر محي الدين
تعتبر ألمانيا القوة الاقتصادية المحرّكة لأوروبا، وقائداً بارزاً في الاتحاد الأوروبي، والدولة الوحيدة تقريباً التي لا تعاني الأزمات الاقتصادية الخانقة أوروبياً، وهي التي تدعم الدول الأوروبية الآيلة إلى السقوط مادياً كي لا تنهار وتُسقط معها الاتحاد الأوروبي المالي الذي بدا أوهن من بيت العنكبوت، إذ كانت أزمة اليونان إحدى الدول الصغيرة اقتصادياً في أوروبا تتسبب بانهيار منظومة اليورو.
تاريخياً، تعتبر ألمانيا نفسها مسؤولة على نحو مباشر أو غير مباشر عن دول أوروبا الوسطى المتحررة حديثاً من أنظمتها والتي قادتها ألمانيا، لذا تعتبر ألمانيا نفسها مالكة الحق الشرعي في تمثيل المصالح الأوروبية مع روسيا، بفضل موقعها الجغرافي الذي يفصل أوروبا الشرقية التابعة تاريخياً للجيش الأحمر الروسي عن دول أوروبا الغربية.
ننطلق من هنا للقول، ترقبوا الألماني جيداً في صوغ معادلات التوازن العالمية مجدداً، فالعقل الألماني يدرك جيداً أن روسيا بوتين هي المارد العالمي الجديد، وتدرك ألمانيا بعقلها الأوروبي أن السقوط الاقتصادي الأوروبي قد يتيح الفرصة ثانية لسيطرة روسيا، في الأقل على أوروبا الشرقية. كما أخذت ألمانيا العبرة من استعادة القرم، وتدرك جيداً أن روسيا هي أكبر دولة منتجة ومصدرة للنفط والغاز في العالم، وهي شريان الطاقة الرئيسي لأوروبا الصناعية التي تعتبر ألمانيا الرائد الصناعي الأكبر والأقوى فيه، وتعلم جيداً أن أي خطأ في العلاقة مع روسيا سيؤدي إلى رفع أسعار الطاقة التي تستعملها أوروبا في التدفئة والصناعة، ولو تعنّت الروسي ووقف الإمداد فسيؤدي ذلك إلى انهيار في اقتصاديات الدول الأوروبية الكبرى فكيف بالصغرى، وعندئذٍ سينقض الدب الروسي على معظم جسد الفريسة الأوروبية المنهارة تحت وطأة الضغوط الاقتصادية الهائلة التي سترزح تحت انحدار الانتاجية الصناعية، وهذا الانحدار سوف يولّد بطالة كبرى في أوروبا ويخرجها من السوق الصناعية العالمية بسبب ارتفاع أسعار التكلفة الإنتاجية في حال خنقت روسيا أوروبا بأسعار الطاقة وأغلقت صنبور مرور الطاقة الغازية التي تتدفأ بها أوروبا شتاءً وتستخدمه في كثير من الصناعات، خاصة في ألمانيا.
ألمانيا هذه تحديداً تعلم أن سبب عودة روسيا إلى القطبية العالمية هو النهج الجبار الذي اتبعه بوتين بتقوية شركة غاز بروم الروسية التي تشكل نحو 60 من دخل روسيا القومي، وأي محاولة لإضعاف هذه المنظومة الروسية قد تدفع بوتين إلى خوض حتى حرب عالمية رابعة لحماية مصالح روسيا الاقتصادية التي تتقدم بوتيرة مرتفعة، كما تعلم يقيناً أن في إمكان روسيا ليس إحداث انهيار اقتصادي في أوروبا فحسب، وإنما تدمير الاقتصاد الأميركي إلى غير رجعة في حال تزايد اللعب الأميركي في حقل الطاقة الروسية. كما تحاول أميركا المهزومة في الحروب التي خاضتها إلى زيادة الضغط على روسيا عبر التلاعب بأسعار النفط وخفضها من خلال أدواتها الخليجية للإضرار بالمصالح الروسية.
هذا الأميركي الغبي الذي أغفل التحالف الوثيق والاستراتيجي والمصلحي، ربما مع الحليف الإيراني النووي المتقدم على نحو متسارع وملحوظ على الصعد كافة، والذي يستطيع إغلاق مضيق الهرمز بالتعاون مع سلطنة عمان الاستراتيجية المتحالفة مع إيران، ما سيؤدي إلى رفع سعر برميل النفط المصدّر من دول مجلس التعاون الذي تقع عليه موانئ التصدير الخليجية كافة في الكويت والإمارات وقطر والعراق والسعودية فيصل سعر برميل النفط إلى ما يزيد على 300 دولار أميركي، وهذا يتيح فرصاً أكبر للعراق وإيران لغزو أكبر في شرق آسيا، وتغدو أوروبا برمتها تحت وطأة الصنبور الروسي الذي يمر إليها عبر أوكرانيا التي تبدو في طريقها إلى العودة تحت لواء الجيش الأحمر الروسي إذا ازدادت الضغوط الأميركية على روسيا القيصرية البوتينية.
إن اللعب الأميركي بالورقة الأوكرانية كان أغبى خيار للسياسة الأميركية، إذ لم يدرك العقل الروسي جيداً، وهو ضرب جديد من ضروب غياب ثعالب السياسة الأميركية عن مراكز صنع القرار، ما عزّز موقف روسيا، بالإضافة إلى ما أنجزه صمود جنود الجيش العربي السوري ورجال الله في المقاومة الإسلامية في حزب الله وإسقاط مشروعهم في سورية والمنطقة بدءاً من العراق بالتحالف والتعاون والتنسيق مع الحليف القوي الثابت والمبدئي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإلحاق الهزائم بالأميركي تباعاً. ذلك كلّه قوّى الموقف الروسي وجعله يظهر مجدداً في مجلس الأمن، وأمسى الروسي هو من يدير هذا المجلس ولا يمرّ أي قرار ما لم يكن راضياً، كما هي الحال مع القطب الصيني، القاتل الصامت، والذي يملك بيده سندات الخزينة الأميركية.
عرف الألماني جيداً أن اتكاءه على الأميركي وبقاءه ظلاً له هو أكبر خطأ استراتيجي وتكتيكي، وإن المصالح الجيوبوليتيكية والجيوسياسية تحتم عليه بلا أدنى شك عدم اللعب مع الروسي على الأقل، ولاحظنا ذلك جيداً في التباين الواضح بين أسلوب التعامل الألماني مع الأزمة الأوكرانية، وأسلوب ذوي الرؤوس الحامية، البريطانية والفرنسية وهم أذيال أميركا في أوروبا.