كتّاب عراقيون يحرثون في مجاهل الكتابة حُمَّى البحث عن الهويات في أجناس أدبية غير مأهولة

صفاء ذياب

خروج بعض الكتّاب على الأجناس والأنواع الأدبية الراسخة يعدّ بحسب النقد عموماً، ابتكاراً وإبداعاً من نوع خاص، بدأ هذا الخروج بالكتاب خارج بحور الفراهيدي الستة عشر، في حين كانت العقود الأخيرة من العصر العباسي وأدب العصور المتأخرة وما قبلهما الأندلس، منبعاً للابتكار والعمل على خلق نصوص جديدة، مثل الموشح والبند والمقامة وغيرها الكثير.

خلال السنوات، سعى عدد كبير من الكتّاب العراقيين، شعراء وسرديين ونقاداً، للكتابة في أجناس وأنواع أدبية أهملت منذ قرون طويلة، أو لابتكار أنواع أدبية جديدة في محاولة للخروج من قيود الشكل والأساليب المعروفة، فنشر أحد الكتّاب نصوصاً في المقامة، وآخر أصدر رواية أقرب ما تكون إلى المقالة، أو مقالة بأسلوب القصة القصيرة، وهكذا… فهل يبحث هؤلاء الكتاب للتفرد في الكتابة الأدبية.. أو هو ما يمكن أن نسميه حمى البحث عن الهويات في أجناس وأنواع أدبية غير مأهولة، الهويات التي أخذت أشكالها الكتابية من ثقافات أخرى، أو لغات لا تربط بين الثقافة التي أنتجتها وثقافتنا العربية عموماً والعراقية على وجه الخصوص أي مرجعيات أو روابط فكرية.

تنوير جديد

يرى الناقد باقر الكرباسي أن الكتابة فعل إنساني ونشاط ذهني، بدأ مع تلك الرسومات التي رسم أشكالها إنسان الكهف الأول، وأنها الوعي البشري في محاكاته للعالم المحيط به وهي في أنساقها ودلالاتها تلك هي مجموعة كتابات مختلفة في بنائها المعياري وأنظمتها الإشارية.

وعلى رغم تلك الاختلافات في اللغات بتنوع مسمياتها وأنظمتها واختلاف مواضيعها ووظائفها يظل ثمة قاسم مشترك لكل تلك الكتابات هو الإنسان بوصفه بؤرة مركزية تحوم حولها، فكل ما متعلق بها رهن به، أما الإنسان فيبقى محور الكتابة بما يختلج في نفسه من عوالم ورؤى وهموم وأوهام وأمانٍ وغير ذلك. وهكذا كان الخطاب الأدبي سجلاً للتاريخ البشري ودالة أساسية من دوال الحضور البشري.

ويضيف الكرباسي أن أحد المفكرين قال وهو يصف الكتابة بأنها هندسة ومعمار للوعي البشري، فهي مشاهد للداخل الإنساني ومسارات برهنة لمقولات العقل، كما أنها وعاء الحزن الإنساني ووعاء آماله وأمانيه.

من خلال ما تقدم، يتحدث الكرباسي عن نمط قديم جديد في الكتابة، ألا وهو السيرة أو الاعترافات، فيبرز أمامنا سؤال: لماذا يسرع بعض الشعراء والكتاب إلى تدوين تجاربهم قبل الموت؟ هل يفعلون ذلك دفاعاً عن أنفسهم وتوضيحاً لما قد يلتبس على الآخرين بعد الموت؟ وللإجابة عن ذلك، يقول الكرباسي إن أدب السيرة الذاتية نوع من الكتابة كثيراً ما ينظر إليه على أنه نوع ثانوي، وهذه المسألة مرتبطة إلى حد بعيد بظروف موضوعية لا تخص الكاتب وحده، إنما تخص الجميع، وقد عرف تاريخ الأدب العربي الحديث هذا النوع من الكتابة الاعترافية، لكن من كتبوا سيرهم من الأسلاف احتجبوا خلف ما كتبوا فحسب، فكانت سيرهم ذات طابع معرفي عام تتناول معلميهم وأسفارهم وعلاقتهم بالسلطان.

فهل يمكن أن نعد السيرة الذاتية جنساً أدبياً مستقلاً وقائماً بذاته؟ إنه سؤال إشكالي حقاً، ففي عشرينات القرن الماضي نشر محمد حسين هيكل كتابه «جان جاك روسو حياته وكتبه» حاول فيه الإحاطة المبسطة والشاملة بكل المواضيع الأساسية التي تتناولها كتابات روسو، إذ يرى هيكل في روسو نموذجاً لأفكار إنسانية خالدة، تؤلف ميراثاً إنسانياً عظيماً ومشتركاً، من خلال أسلوبه الفني المؤثر.

وعلى رغم بُعد عصرنا عن عصره واختلاف وسطنا عن وسطه، إلا أن روسو جرى تلقيه عربياً ودراسة هذا التلقي بشكل عام على أساس انتمائه إلى الفكر التنويري الفرنسي أو الغربي في القرن الثامن عشر، فأخذ عنه كتابة السيرة مجموعة من الكتاب العرب على غرار اعترافاته، وهذا دليل على أن كتابة السيرة جنس أدبي جديد على الأدب العربي دوَّن أصحابه سيرة واعترافات ومذكرات خاصة عند كتابنا في العراق.

قماط السرد

ومن وجهة نظر الروائي خضير فليح الزيدي، فإن أنماط الكتابات في السرد العربي الحديث تشكل ظاهرة يختلف بخصوصها معظم الدارسين والمهتمين لتنميطها أولاً، ثم تجنيسها ثانياً. فيما الأدب الغربي لم يتوقف كثيراً عند ظواهر التجنيس كثيراً، يتضح ذلك في تجارب رولان بارت وإمبرتو إيكو وغيرهما كأمثلة مهمة في الخروج من اشتراطات قسرية يفرضها أدب الروايات والقصص.

ويضيف الزيدي: تجربتنا في هذا الاتجاه تعد تجربة فتية على رغم أن الإرث العربي في أدب المقامات وبعض ما كتبه الجاحظ أمثلة ارتكاز تعد مهمة أيضاً بهذا الاتجاه. لكن السرد العربي الحديث غالباً ما يكون محكوماً بنتاجات السرديات الأجنبية خارج الحاضنة العربية ولغتها التي تعتمد البلاغة والإطناب فيها كركيزة أولية، حتى غابت الهوية السردية لأنواع كثيرة وتجارب مهمة في الأدب السردي العربي.

«على المستوى الشخصي وقد سحرتني التجارب الغربية في هذا الاتجاه، لقد أنتجت خمسة كتب لم تجنس كونها رواية أو قصصاً أو أدب سيرة أو يوميات. تجد الأمكنة في هذه الكتب وتجد الشخوص، لكن معظم اشتراطات الرواية الأخرى غابت عن قصد ووعي حذر، مثل نمو الشخصيات والتسلسل المنطقي للحكاية وفضاء السرد في تتبع الحدث والأحداث، لكنها لاقت رواجاً محلياً جيداً من جمهرة القراء مع غياب تام من الحقل النقدي الذي لا يستجيب لهذا النوع من التجارب الوليدة محلية».

ويتحدث الزيدي عن كتابه «تاريخ أول لسلة المهملات» الذي «تتبعت سردياً شخصية أحد الجنود وهو يكتب رسالة نمطية إلى أهله في المدينة، ومن الضروري في هذا النوع من الكتابات أن يلقي الكاتب بعض الرؤى الثقافية على نمط الظاهرة التي يتحدث عنها، وهذا الفضاء الذي لا تحققه له الرواية». وفي كتاب «عبودية الكراكيب» للكاتبة كارين كينجسون وترجمة مروة هاشم، يشتغل فيه عن جزئية مهملة من الحياة وهي ما تطلق عليه بالكراكيب، والمقصود بها ما هو متروك ومهمل من أثاث البيت، لكن الطريقة السردية التي تحدثت فيها الكاتبة كانت مقطوعة سردية جاذبة مع طرح نظريتها في هذا الموضوع.

ويختتم الزيدي حديثه قائلاً: الكتب السردية العربية، خاصة ما ينتجه الكاتب المصري قد تخلصت من جدولة وتصنيف السرد، وأظهرت لنا سرديات مهمة، من حدوتات التكسي إلى كراس التحرير لمكاوي سعيد، مع متابعة نقدية من الأكاديمية النقدية المصرية ورصد واعٍ لهذه الظاهرة التي تحقق الانفلات من القماطات السردية المجحفة لتصنيف السرد وجدولته ضمن قائمة التجنيس.

اختلاف الرؤى

في حين ينظر القاص والروائي ياسين شامل إلى هذه المحاولات من خلال التطور الحاصل في مفاصل الحياة، الذي يشمل التطور في الأجناس الأدبية أيضاً، «أي أن الأدب يتوالد وله عدة تطبيقات»، وفي ظل خطى التطور المتسارع في التقنيات والتواصل الواسع والسريع. فمن الصعوبة العودة إلى الوراء، وهذا لا يعني قطع الجذور مع الموروث الثقافي، وإن دعا البعض لذلك، لكن تبقى اللغة هي الحاضنة لأي منجز إبداعي مرتبط بالتجربة المعرفية والحياتية. مضيفاً أن المثقف الذي يريد أن يتفرد في الكتابة الأدبية في أجناس وأنواع أدبية غير مأهولة، لابد أنه سوف يواجه الصعوبات، وربما سيسقط في أتون الرفض. فضلاً عن أن الكثير من الأجناس الأدبية التي استمرت عبر التاريخ وطالتها التغيرات والأجناس الأدبية الأخرى المستحدثة، متاحة ولها مرجعياتها، وهي التي أخذناها من ثقافات أخرى والمفروض ألا تكون مقتلعة من أصولها، وهي التي أصبحت مجالاً للجدل في ما يخص الهوية الثقافية، وغيرها، بعوالمها المتعددة التي أغنت البنية الدلالية، وأسهمت في تعدد المستويات، هي التي تساهم في إغناء التجربة الإنسانية، فلا ضير على الكاتب أن يكون في عداد المساهمين في ذلك العالم المتعب اللذيذ، إلا أن ذلك لا يأتي بسهولة. مبيناً أن اختلاف الرؤية الفنية المحددة من كاتب إلى آخر، يمكن تجسيدها من خلال نصوصه المختلفة، والتطور في الشكل يرتبط بمستوى الوعي لدى الكاتب بالتقنيات وموقفه من الوجود وما يدور من حوله في العالم، وهذا الشكل الذي يقترحه الكاتب سوف يكون ملاصقاً للمضمون، آخذاً بنظر الاعتبار قواعد وإجراءات النوع الأدبي الذي ينتجه. ومن ثمَّ فإذا كان الكاتب لا ينساق مع ما هو سائد، ولا يمتلك القدرة في الارتقاء بمنجزه الأدبي، ولا يحاول في ممارسة العمل الأدبي بجدية وقناعة تامة من خلال الأجناس الأدبية المتعارف عليها، قد يكون خارج السرب، بمعزل عما يدور في هذا العالم وما يحيط به. لعله لا يحقق حلمه الأثير ويسقط في حمى البحث عن هوية ثقافية في أجناس أدبية غير مأهولة.

تقليم الأجناس

ويتحدث الروائي هيثم الشويلي قائلاً إن أغلب الكتاب يبحثون عن لون مميز وجنس جديد يحاولون جهد الإمكان ابتكاره ليكون لهم السبق في تصدر قائمته، على الرغم من أن هذه الأجناس حتى إن ابتكرت لا ترتقي إلى مستوى الطموح لأنها لا تلبي الهوية الحقيقة للجنس الأدبي، وها نحن نشاهد بين الفينة والأخرى بزوغ جنس ربما لا يميل إليه سوى من يستسيغ بساطته، في وقتٍ ليس بالبعيد سمعنا عن جماعة تدعي أنها تروج لـ»الشعرية السردية» وهي بذلك تحاول الخروج عن الضوابط الأصلية للشعر العربي، وهذا ما لمسناه جلياً وواضحاً بعد بزوغ قصيدة النثر وتحررها من القصيدة العمودية، نظراً لصعوبة نظمها لوزنها وقافيتها وكثرة اشتغالاتها، وبناءً على هذا الأساس وجدنا الكثير من المصفقين لهذا الجنس حتى أصبحت له هوية مميزة، وفي المقابل أيضاً تحول السرد بشقيه، حيث انسحبت الرواية إلى الروايات القصيرة جداً، إذ أعلنت الشاعرة فليحة حسن أنها سيدة السبق في ذلك في روايتها «نمش ماي» التي كتب عنها عبد الإله الصائغ، ورواية «مكرو نوفل» لسلام كاظم فرج التي كتب عنها عبد الرضا علي قائلاً: «هذه الـ مكرو نوفل أو الرواية القصيرة جدّاً التي كتبها فرج قد بُنيتْ رمزيّاً، حبكة ً وأبطالاً وموضوعاً، فاختصرت أربعين سنةً من عمر البطل وتأريخه النضالي في خمسةٍ وعشرين سطراً ليس غير، من خلالِ صعوده لحافلة النضال، ونزوله منها. . » لكنني أقول إن الرواية القصيرة جداً لا يمكن عدها جنساً جديداً، بل ربما تصلح أن تكون قصة طويلة، لأن الرواية تحتاج إلى نفس مطول وخيال خصب وقلم ينبض بالحرف، لكنه إن عجز عن هذا تقزمت الحروف بين أنامله وشُل خياله، الأغلب الآن يعترض على رواية الـ نوفيلا لأنها قصيرة فكيف بها إن أضيف لها جداً، وكذا الحال بالنسبة للقصة فكانت مطولة ثم أصبحت قصيرة، وبعد برهة صارت قصيرة جداً لتستقر في نهاية المطاف الأقصوصة، عملية تقليم الأجناس وقصها وتقزيمها بهذا الشكل تأتي نتيجة للواقع الذي يعيشه المجتمع، فمع التطور التكنولوجي وعزوف الناس عن القراءة وانشغالها بزغت هذه الأجناس لسهولتها وسرعة قراءتها فنجد القصة القصيرة جداً والأقصوصة وفي المقابل الومضة في الشعر التي تعتمد الاختزال والتكثيف.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى