نفسٌ جاهلية طريقها الانتحار وتشويه الإسلام
العلامة الشيخ عفيف النابلسي
قراءات مختلفة وتقديرات متعددة لهذا الجنون الإرهابي الذي ضرب طائرة روسية وأمكنة عامة مكتظة بالناس في برج البراجنة، ومؤخراً في قلب العاصمة الفرنسية باريس والذي يجمع بينها إرهاب موصوف يجوز فيه قتل مَن يركب طائرة مدنية أو مَن يمشي في الأسواق لشراء احتياجات حياتية أو من يشاهد مباراة رياضية فالكلّ سواء عند الإرهابيين التكفيريين ولا فرق بين الضحايا إنْ كانوا أطفالاً أو نساء أو في مصر وسورية ولبنان والعراق أو أيّ بلد آخر، فلا قيمة للإنسان والحياة والأخلاق في سبيل الأهداف المشؤومة تلك. حسبنا أن نقول لا حول ولا قوة إلا بالله من هذه الجماعات التي شوّهت الإسلام، لأنه لا قيمة للإسلام إذا انفصل عن مبادئ الرحمة والعدل والحب والاحترام والعقلانية والمنطق. هل يكفي أن نقول عن هؤلاء التكفيريين إنهم لا يمثلون الإسلام وإنّ أفكارهم ترتكز على مزاعم فاسدة وتقديرات سافلة وتطبيق مشوّه؟ هل يكفي أن نندّد بأفعالهم ونوصّف انحرافاتهم، أم علينا أن نذهب لنعالج كلّ الخلل الذي ضرب جسد الإسلام ونحدّد طريقة عملية لوقايته من أعمال التخريب ونزوات المخرّبين؟ نحن نحتاج إلى سياسة لتعيد تقديم الإسلام بأنقى صورة لا خوفاً مما يُقال هنا وهناك عن ديننا فحسب، بل لأنّ هذا الدين هو أمانة في رقابنا ولأننا نريد للبشرية كلّ البشرية أن تعود إلى فطرتها وأصالتها فيجتمع الأسود والأبيض والأصفر والأحمر على الأخوة الإنسانية بلا تمييز وفصل.
وبالعودة إلى تفجير برج البراجنة يمكن القول إنّ مجموعة من الأحداث والأوضاع قد ساهمت في حصول التفجيرات الانتحارية في هذه المنطقة، فالتطورات الأخيرة في سورية والتقدّم الكبير للجيش السوري ورجال المقاومة في منطقة حلب من جهة، والاختلال السياسي السلبي في لبنان ثانياً، الذي جعل التناقضات والمصالح المتعارضة بين القوى المحلية سبباً في هشاشة بنية السلطة والمجتمع، وانتفاضة السكاكين في فلسطين المحتلة حيث كان واضحاً أن لا أحد في العالم غير محور المقاومة داعم لها ودافع لها لمزيد من التصعيد، إلى الحرب المفتوحة بين المقاومة والتكفيريين إلى أسباب أخرى وفرت ظرفاً مناسباً لما حدث.
وأنا لا أستبعد مطلقاً أنّ أجهزة المخابرات «الإسرائيلية» تحديداً دخلت على خط التعقيدات كلها لتنتقم من بيئة المقاومة التي منها خرج منها الأبطال المقاومون ليكونوا عوناً للجيش السوري في إنجازاته الأخيرة وليكونوا سنداً للشعب الفلسطيني بكل مكوناته وفصائله المقاومة.
ضمن هذه السياقات جاء هذا التفجير الوحشي العدواني التكفيري الآثم، ومَن أولى من هؤلاء الجهلة الانتحاريين الحاقدين لينفذوا مثل هذه الجرائم البشعة بحق الأبرياء. فالنفس الجاهلية لا تفخر بالحياة والإصلاح والسلام وإنما تفخر بالقتل والموت والدمار. منظر مؤلم، ولكنّه يفضح هذه الجماعات التي اتخذت من الانتحار طريقاً لجنّة موهومة ولم تتخذ من الشهادة طريقاً لحياة الأمة والإنسان. وهل لنا أن نؤكد مرة بعد أخرى ارتباط هذه الجماعات التكفيرية بأجهزة استخبارات أجنبية وهي فعلت ما فعلت في بلداننا ولم تتألم إلا عندما ضرب الإرهاب في عقر عواصمها. على الكل أن يعلم، أكان شرقاً جباناً ومتهاوناً، أو غرباً متواطئاً متورطاً متآمراً، أن هذه الجماعات المجرمة لا تتورع عن أفعال التوّحش والهمجية لأنها لا تملك أن تعيش في أجواء الرحمة والسلام والحوار والأخوة والتعايش، ولا تعرف إلا لغة القتل لتحقيق أهدافها وتثبت وجودها. هؤلاء الجهلة القتلة الذين تستثمرهم دول من هنا وهناك لمواجهة المقاومة هم أعجز من أن ينالوا من عزيمتها وإرادتها وتوجّهاتها وانتمائها للأمة.
لكن أخطر ما يمكن رصده من هذه العملية الإجرامية هو إلهاؤنا كأمّة وكشعوب عما يجري في فلسطين من انتهاكات وجرائم ضد الفلسطينيين. والأمر الآخر هو إيجاد شرخ بين بيئة المقاومة والفلسطينيين ليزداد السخط والعداء والتوتر في العلاقة ولذلك راجت إشاعات مغرضة لإشعال نار الفتنة المذهبية لإحداث صدام بين اللبنانيين المؤيّدين للمقاومة والفلسطينيين، ولكن هذه المؤامرة لن تمرّ لأن عدونا هو إسرائيل وهم هؤلاء التكفيريون ولن نضيّع البوصلة وستنتقم المقاومة، إن شاء الله، من كل قاتل وفاسد وظالم أراق كل هذه الدماء البريئة.