القوى والفصائل ليست لعنة وشراً مستطيراً… ولكن!

راسم عبيدات

الكثير من الانتقادات القاسية وجهت إلى الفصائل والأحزاب ولقياداتها ولدورها في الهبات الشعبية المتلاحقة، وكلها انتقادات تصب في خانة أن الفصائل في ذيل الحركة الشعبية، أو أنها منفصلة عن حركة الواقع والجماهير، أو هي متسلقة على أكتاف نضالات هذا الشعب، وهي لا تقوم بواجباتها ومسؤولياتها تجاه الجماهير وهمومها واحتياجاتها…الخ. وبأن دورها فقط مقتصر على استثمار نضالات وتضحيات هذا الشعب والتسابق إلى تبني الشهداء من أجل ضمان وجودها وبقائها وإثبات الذات وضخ الدماء في عروق قياداتها المتيبّسة والمجدبة، أو لتعزيز حضورها ودورها غير الحقيقي والفاعل.

وهناك انتقادات أقسى من ذلك وتصل إلى حد التجريح والتهجمات «والشطحات» و»الفانتازيا»، و»التحشيش» الفكري من قبل «متفذلكين» على أرصفة النضال، أو أشباه المثقفين أو قل مثقفي الجملة الثورية من يصفون الفصائل والقوى والأحزاب بأنها عبء على الشعب الفلسطيني، وهي المسؤولة عما يحل به من كوارث ونكبات، وضاعت التخوم والفواصل في مرحلة الجزر والتراجع والانقسام ما بين النقد البناء والهادف وما بين التجريح والتهجمات غير المنطقية والواقعية، وكأن الفصائل والقوى ليست مولودة من رحم هذا الشعب، ولم تقدم القوافل من الشهداء والجرحى والأسرى، وتخرّج القادة والمناضلين.

نعم علينا أن نعترف أنه في ظلّ رداءة المرحلة وكارثة أوسلو وما تلاها، كان هناك زلزال مدمر طال كل مناحي حياة الشعب الفلسطيني، زلزال بحجم النكبة أو أكثر، لعب دوراً رئيساً في تقسيم الأرض والشعب الفلسطيني وأحدث تصدعات وانشقاقات عمودية وأفقية، ليس على مستوى الحركة الوطنية والسياسية فقط، بل هتك وفكّك ودمّر النسيج المجتمعي.

ولذلك هذه المرحلة داهمت الفصائل والأحزاب، وخلقت حالات واسعة من الإرباكات في صفوفها، وفقد العديد منها تجاه البوصلة، ولونه السياسي وهويته الفكرية، وحتى الوحدة التنظيمية والسياسية في التنظيم تعرّضت للاهتزاز والتفكك، وجرى تعويم الهوية الفكرية، بحيث ضاعت التخوم والفوارق ليس على صعيد المواقف والبرامج السياسية بين القوى والفصائل، بل على صعيد هويتها الفكرية، وجرت تحوّلات في بنية وقيادة القوى والأحزاب، بحيث لم تعد الملهم وقوة المثل للجماهير في النضال والتضحية والمسلك والموقف.

ما كادت الفصائل تلملم أوضاعها بعد اتضاح حجم الدمار والخراب الذي أحدثه أوسلو في الواقع الفلسطيني، وعمليات الذبح للمشروع الوطني، حتى داهمتها الانتفاضة الثانية، تلك الانتفاضة التي لم تقتصر على الهبات والمشاركة الشعبية، بل نجح الاحتلال في جرّ الحركة الوطنية الى عسكرة الانتفاضة، وفي وقت لم تستعد القوى عافيتها، وتصلب أوضاعها وحلقتها وبنيتها التنظيمية، كان الاحتلال يقتلع ويدمر البنى والهياكل التنظيمية للقوى، ويغتال ويقتل العشرات من قاداتها وكادراتها، وكذلك الزج بالمئات منهم في السجون، ولم تنجح لا السلطة ولا الفصائل في استثمار ما تحقق في الانتفاضة الثانية، كما حدث في الانتفاضة الأولى، كانت كارثة أوسلو، وفي الانتفاضة الثانية، كانت جدران الفصل العنصري، وعودة الاحتلال بشكله المباشر الى كل مناطق الضفة الغربية.

من بعد ذلك جاء الانقسام المدمّر المستمرّ والمتواصل، والذي خلق حالة واسعه من الإحباط واليأس في صفوف الجماهير، وراكم المزيد من الاحتقان وفقدان الثقة ما بين الجماهير والفصائل، وخلق حالة ليست بسيطة من الانفضاض عن الفصائل والعزوف عن العمل الحزبي والسياسي، وأصبحت تنمو وتولد مجموعات شبابية وقوى مجتمعية،تقوم بأنشطة وفعاليات مجتمعية وسياسية تطالب بإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، ولكن حائط وجدار الصد عند القوى القائمة على الانقسام والمستفيدة من بقائه واستمراره كان أقوى من قدرة تلك الحراكات والقوى المجتمعية، وحتى الفصائل الأخرى على اختراقه.

الانقسام كان يتعمّق ويتكرس ويتشرعن والاحتلال يتغول ويتوحّش، والسلطة تمسك بخيار وبنهج تفاوضي لم يقدم للفلسطينيين سوى المزيد من الضعف والتشرذم وضياع الأرض، والفصائل لم تعد تشكل حاضنة حقيقية قادرة على استيعاب طاقات الشباب وتأطيرها وتنظيمها، حيث أوضاعها الداخلية هلامية، وقياداتها وبرامجها نمطية ومتكلسة، ولم تعد قادرة على قراءة حقيقة وجدية للمتغيرات ليس فقط في الواقع ولا في المجتمع الفلسطيني، بل المتغيرات والتطورات المحيطة بهذا الواقع.

ولكن رغم كل ذلك لم تخلع الفصائل ثوبها الوطني ولم تتخلَّ عن حقوق شعبنا ولا ثوابته الوطنية، وبقيت رغم كل ما أصاب أوضاعها من ضعف وتراجع سواء لأسباب ذاتية أم موضوعية تدافع عن شعبنا في وجه آلة القمع الصهيوني، ودفعت أثمان الغالية في الحروب الثلاث التي شنت على شعبنا ومقاومتنا في قطاع غزة، وكذلك في الضفة الغربية، حتى أن الاعتقالات طالت رموزها وقياداتها، وكذلك الشهداء منهم الرموز والقادة.

صحيح أنّ القوى والأحزاب تعيش أزمات وتراجعات، وتعاني من حالة من الضعف، ولكن رغم كل ذلك نجد أنها ما زالت تشكل درعاً وسياجاً لحماية المشروع الوطني، وهي بذلك ليست رجساً أو لعنةً أو شراً مستطيراً، عليها الكثير من النقد في إطار التقاعس وعدم القيام بدورها وواجباتها ومسؤولياتها وتنمط وتكلس وشيوخة قياداتها وبرامجها، وإخفاقها في إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية والصراع على سلطة منزوعة الدسم، وتقديم طرفي الانقسام حماس وفتح المصالح الفئوية والتنظيمية والحزبية على المصالح العليا للشعب الفلسطيني، ولكن هذا لا يعني أن نبقى مشهرين لسيف الجلد بسبب أو من دونه لهذه الأحزاب والفصائل، فالفصائل ليس بديلها العشائرية والجهوية، فهذا خيار سيكون أسوأ بمليون مرة من خيار الأحزاب والفصائل، ولا منظمات «الأنجزة» صاحبة المال السياسي المشروط والتي تحمل أجندات وأهداف، لا تصب في خدمة مشروعنا الوطني.

العمل على دمقرطة الأحزاب والفصائل وإحداث تغيّرات جوهرية في برامجها وهياكلها وقياداتها، بحيث تقف على رأسها قيادات شابة، والفصائل عليها أن تتخلى عن فكر «تخليد» الأزمة من خلال قدرتها على استنبات قيادات متجددة ومعاصرة بالقدر المأمول، تضمن القدرة على التواصل. وغالباً ما تتوهّم الفصائل أنّ المحافظة على استمرار القيادات حتى ولو أصبحت عاجزة نوع من الوفاء، الأمر الذي جعلها تتجمّد، وتتحنّط، وتتكلّس وتتحوّل لتقتات بتاريخها، وإنجاز القادة السابقين. وقد نسيت القوى والأحزاب بأنّ الثبات إذا كان واجباً، فإنّ التغيير ضرورة.

gmail.com 45

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى