حرب المذاهب بين الوهم والواقع
جمال العفلق
من المؤلم أن نتحدث في القرن الحادي والعشرين عن المذاهب وحروب المذاهب. وعدم الحديث عن مثل هذا الموضوع لا ينفي وجوده، كما أنّ الحديث عنه لا يؤكد وجوده. فهل ثمة حرب مذاهب على الأرض؟ أم أنها وهم فرضه الإعلام على المشهد السياسي العام؟
منذ هجمات الحادي عشر من أيلول، التاريخ الذي فرض نفسه بقوة على الساحة العالمية لقوة الحدث وضخامته واستثمار أميركا له بطريقة جعلت كلّ من ينتمي الى العالم الإسلامي عامة والعربي خاصة متهماً، عملت هذه الماكينة الإعلامية على تشويه صورة الإسلام إجمالاً، ولم تفصل بين مذاهبه، ربما لجهل القائمين على المشروع الإعلامي آنذاك بوجود مذاهب إسلامية متنوّعة، أو لرغبة في تصوير الإسلام بالعنوان الشامل على أنه لغة إرهاب ولا يمكن قبوله. ونتيجة لذلك التضخيم الإعلامي المسعور غزت أميركا أفغانستان واحتلتها لتدمير الكيان الإسلامي الأصولي، طالبان و«القاعدة»، علماً أنّ التنظيمين يُعتبران صناعة أميركية وبمال عربي.
بدأت العمليات الانتقامية لـ«القاعدة» في السعودية منذ آذار 2003 رغم أن السعودية تعرّضت لهجمات إرهابية قبل ذلك التاريخ بكثير، غير أنّ هجمات ما بعد احتلال أفغانستان وتبنّي «القاعدة» تلك العمليات أمر ذو خصوصية، فمن كان يقوم بتلك العمليات دعمته السعودية، وهو من السنة، أيّ المذهب الذي تقول السعودية إنها تتبعه من خلال المذهب الوهابي. والمناطق التي استُهدفت وكذلك الاعتقالات كانت سنية بامتياز، إذن لم يكن الشيعة وراء تلك العمليات، والسياق المنطقي إذا كانت هناك حرب مذاهب ألاّ يكون الشيعة هم وراء تلك العمليات!
السعودية أو لنقل أكثر العالم العربي «السني» دعم أميركا في حصارها للعراق، ثم دعم احتلالها له ودخولها إليه، وعراق صدام حسين باللغة المذهبية هو سني ولم يكن شيعياً.
العرب السنة أنفسهم باللغة الإعلامية المفروضة لم يحرّكوا ساكناً حيال فلسطين التي فيها بيت المقدس أولى القبلتين وثاني الحرمين، بل وقفوا ضدّ حزب الله في حربه مع «إسرائيل» عام 2006. وما الحرب الكلامية بين تركيا والسعودية ومصر إلاّ صورة أخرى عن حرب سياسية لا مذهبية، والتقارب التركي ـ الإيراني هو نموذج آخر لالتقاء مصالح سياسية بين مذهبين رئيسين، فحكومة أردوغان الإسلامية تجد في طهران الشيعيّة منفذاً سياسياً لها، رغم وجود عنوان مذهبي على صورة البلدين.
اليوم تحارب «داعش» الأصولية تحت اسم مذهبي صرف، لكنها تهدد الأردن والسعودية وإيران وسورية ولبنان على حدّ سواء. فالمناطق التي تسيطر «داعش» عليها في العراق وسورية فيها غالبية سنية لم تَسلم من التنكيل والتعذيب والقتل، مثلها مثل باقي المذاهب أو متبّعي الديانات الأخرى. وفي المقابل ثمة تعاون بين النصرة وكتائب إسلامية أخرى مع «إسرائيل» التي تحتلّ فلسطين وتعمل على تدمير المسجد الأقصى.
بهذا المرور السريع والمختصر، نرى أنّ حرب هذه الجماعات ليست مذهبية على النحو الذي يرسمه الإعلام، ولا هي إسلامية ترفع راية الإسلام مثلما تدعي هي وكما يسوّق لها عبر محطات غسل العقول والأموال التي تسيطر على جزء من الإعلام العربي، ورغم تبني الذين يتحدثون باللغة الثورية لتلك الأعمال وذاك الخطاب المذهبي، خاصة ما يُسمّى «ائتلاف الدوحة»، فإنّ واقع الأمر يظهر أنّ حرب المذاهب لا وجود لها على الأرض بين غالبية سكان المنطقة على الأقل. فلبنان الذي عاش حرباً طائفية استمرت خمس عشرة سنة وجد أهله طريقاً إلى التفاهم والتعايش، وهناك مَن خرج ينتقد وبشدة تلك الحالة العبثية التي شارك فيها أو عاشها. ولا يتذكر السوريون أنهم عاشوا حرباً طائفية في ما بينهم، رغم أنّ سورية هي صورة مكبّرة عن لبنان بعدد المذاهب والأديان المتعايشة تاريخياً. فأين حرب المذاهب التي يتحدثون عنها ليل نهار ويسخّرون لها جميع الإمكانات الخطابية والإعلامية؟
حقيقة الأمر أن هدف هذه اللغة المذهبية تعميق انقسام المنطقة جغرافياً وسياسياً، وتعميق دور حالة الخلاف تحت عنوان مذهبي وعرقي لا يمكن إخفاء دور أميركا والذين تشغّلهم فيه، وكذلك «إسرائيل» الساعية إلى إعلان يهودية دولة ما يُسمّى «إسرائيل»، فهذه الجماعات تقدم المبرّر إلى «إسرائيل»، لأن إعلان دويلات سنية، شيعية، مسيحية، إلخ… يعطي شرعية لا تحتاج إليها «إسرائيل» أصلاً لإعلان يهودية دولتها المزعومة.
يكفي القارئ أن يتذكر أنّ الذين دافعوا ويدافعون عن المنطقة لم يتحدثوا عن حربهم بأيّ لغة طائفية عندما يكون الحديث عن حماية الأرض والعرض، منذ الاحتلال العثماني مروراً بالبريطاني والفرنسي، وفي الحرب القائمة قبل أكثر من ستين عاماً مع الكيان الصهيوني.