الدولة المدنية العربية في سياق صراعها مع المشروع التكفيري
في القسم الثاني من دراسة د. خيرالله يعرض الكاتب تداعيات الثورة المصرية من ميدان التحرير وصولاً إلى انتخاب الرئيس عبدالفتاح السيسي رئيساً للجمهورية، مروراً بمحاولات الإخوان المسلمين أخونة الدولة عبر الدستور والقوانين والأنظمة. ومن ثم يشير د. خيرالله في دراسته إلى مسار الأحداث في الجمهورية العربية السورية منذ اندلاع نار الحرب الدولية على سورية والآخذة بالشعارات الدينية التكفيرية حتى هذه اللحظة التي تشهد الصراع القاسي والمدمّر بين هذه التنظيمات والدولة السورية.
يشير د. خيرالله إلى أن الانتفاضات العربية كافة كانت من دون قيادات حزبية، ما جعلها مطيّةً للإرادات الأجنبية التي أخذت تتدخّل في الشؤون الداخلية. كما يشير إلى المحاولة الخليجية الهادفة إلى خلجنة الدول العربية سياسياً واجتماعياً وثقافياً والتي هي جزء من المشروع الأكبر الصهيو ـ أميركي.
خليل خيرالله
2 – في مصر:
أدت انتفاضات «الشعب يريد إسقاط النظام» في الساحات المصرية منذ كانون الثاني 2011 الى سقوط الرئيس حسني مبارك في 11 شباط 2011 المتهم برغبة التوريث السياسي وإفقار الناس والتسلط. وتصدرت ثنائية العسكر-الإسلاميين المشهد السياسي الذي قام برعاية اميركية بين المشير طنطاوي ومرشد الإخوان المسلمين محمد بديع، قبل أن ينفرد الئيس محمد مرسي بالرئاسة، برعاية أميركية، ويبعد المشير طنطاوي والفريق سامي عنان في 11 آب 2012 وفي المرحلة الأخيرة الانقلاب على مرسي في 3 تموز 2013 ومجيء الرئيس عبدالفتاح السيسي رئيساً للجمهورية في أوائل حزيران 2014 عقب إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية المصرية.
كانت الرياض وعمان وأبو ظبي من داعمي الرئيس السيسي واعترفت به أميركا بعد تردد دام أحد عشر شهراً وكذلك الاتحاد الاوروبي والاتحاد الأفريقي مع تنازلات أثيوبية للقاهرة، لم تفعلها منذ عشر سنوات، بشأن سد النهضة وحصتها من مياه نهر النيل، مع زيارة لها مغاز سياسية حصلت رأساً للجزائر.
إن الصعود الاجتماعي الثقافي التنظيمي للإسلام السياسي قد بدأ أوائل القرن العشرين ووصل الى الحكم ثنائياً عام 2011، رغم أن الإخوان المصريين لم يشاركوا في إضراب 25 كانون الثاني 2011 الذي فجر الثورة وركزوا على الإصلاح فقط. ثم انفرد الإسلاميون بالسلطة مع الرئيس محمد مرسي قبل أن يسقطه الجيش المصري.
وكانت مصر تشهد دائماً صراعاً بين إسلامها السياسي المتمثل بالإخوان المسلمين والحكم، بين الدولة الدينية كمشروع حزبي وبين الحكم المدني المعترف بالشريعة كمصدر أو كالمصدر الرئيس للتشريع.
نص الدستور الاول لعام 1923 في الفقرة «ظ» على أن «الإسلام دين الدولة»، وألغى دستور عام 1952 الحياة الحزبية وركز أفعال السلطة والتشريع بيد الضباط. وقد نص دستور عام 1971، ولأول مرة، على أن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع، وعدلت تلك المادة لاحقاً في عام 1980 لتكون «المصدر الرئيس للتشريع» 1 ، وتعكس تلك التعديلات الحالة المزاجية السائدة وتوازنات القوى داخل المجتمع في ظل تنامي نفوذ التيارات الإسلامية.
وفي ما يتعلق بمرحلة الانتفاضة، فقد ظهرت في مطلعها بقوة الأفكار الداعية لضرورة كتابة الدستور المصري بما يتفق مع التطورات والواقع السياسي فأصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة الإعلان الدستوري في 30 آذار بعد استفتاء عليه جرى في 19 مارس 2011 2 ، وعملاً بالإعلان الدستوري قامت الجمعية التأسيسية بوضع دستور مصر 2012 بعد انتخابات الرئاسة المصرية التي أتت بالرئيس مرسي. والواقع أن الإخوان المسلمين شكلوا بسرعة لجنة قانونية كما يرغبون لإعداد المشروع «اختصاراً للوقت ولتسهيل الأمر على الهيئة التأسيسية…»، وقد أثار مشروع دستور مصر 2012 حواراً وجدلاً عميقاً استمر مدة ستة أشهر وانتقدته قوى المعارضة بشدة وتم إقراره في أيلول 2012 بعد استفتاء شعبي حاز فيه على 64 في المئة من الأصوات واعتراض 36 في المئة من أصل 32 في المئة من المقترعين.
والواضح أن الإخوان المصريين استغلوا تفوقهم الانتخابي لإعادة تشكيل المجتمع وهيكلته وفقاً لرؤاهم المتباينة، والمثال على ذلك ما طرحه السلفيون حول المادة الثانية من الدستور من اقتراح إقامة محكمة شرعية عليا للبتّ في مدى مطابقة القوانين والدستور لأحكام الشريعة الإسلامية. كما أنهم رفضوا تعيين نائب قبطي للرئيس وطالبوا بحقائب وزارية بعينها.
وفي إطار أخونة الدولة، طرح الإخوان تحويل نظام البلاد من رئاسي إلى برلماني بحيث يسود رئيس الجمهورية ولا يحكم ويتولى رئيس الوزراء ممثل الغالبية الإخوانية مسؤولية الحكم كاملة، وهكذا يلغي الإخوان سلطات رئيس الجمهورية ويستولون على البرلمان كغالبية وعلى السلطة التنفيذية.
وتضمّن دستور الإخوان تعديل طبيعة الدولة بحيث تصبح دولة مدنية «ذات مرجعية إسلامية» لأن هذا ما توافقت عليه «الأمة» من خلال الغالبية البرلمانية المنتخبة.
رفضت أحزاب المعارضة هذا الدستور وأثار حزب الدستور» 44 سبباً لرفض دستور الإخوان المسلمون» 3 من أهمها: أن الدستور تم سلقه باحتراف وأن أفكارهم، من دون وجود مادة تشير للإخوان، هي في كل مادة خاصة المواد الانتقالية والمواد التي تسمح بتقييد الحقوق والحريات وتكريس الحكم الاستبدادي. ويضيف حزب الدستور أن الدستور قنّن العزل السياسي من دون محاكمة عادلة في المادة 232 وتم عزل 8 من قضاة المحكمة الدستورية في المادة 233 . وأنه يؤسس دولة دينية في إطار الدولة المدنية، ليس من باب تطبيق الشريعة فهي تطبق منذ زمان بعيد، بل من باب اشستراط ممارسة حقوق وحريات المواطنين الأساسية في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية بما لا يخالف فهم الفقهاء للشريعة الإسلامية بدل أن يحميها الدستور، وفهم الفقهاء متفاوت من تشدد الى تسامح!
وقد لاحظ حزب الدستور أن الصراع السياسي ليس بين القوى الإسلامية والقوى العلمانية التي يحاول الإسلاميون تكفيرها، بل بين القوى التي تسعى الى إقامة دولة القانون والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والقوى التي تسعى إلى الهيمنة باستغلال الدين والديكتاتورية بالدستور على نسق نظام مبارك والحزب الوطني.
وبالنسبة للمسيحيين فقد لاحظ حزب الدستور أن حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية كانت في دستور 1971 وتكفلها الدولة من دون قيد أو شرط بينما نص مشروع دستور 2012 في المادة 43 على كفالتها وفقاً لقانون يتم إصداره، طبعاً بقيود وشروط.
وتوجب المادة 4 أخذ رأي هيئة كبار علماء الأزهر في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية، وهذا الالتزام يسري على السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية ويشكل نوعاً من الوصاية على هذه السلطات ووضعها تحت «ولاية الفقيه». ومن الملاحظات أيضاً أن الدستور لا يمنع زواج القاصرات ولا يساوي بين المواطنين لأن المادة 33 المتعلقة بالمساواة وعدم التمييز شطبت ليلة التصويت «لفتح فخ يسمح بالتمييز» والتعبير لحزب الدستور .
ومن الملاحظات أيضا أن دستور 2012 لا يلتزم بالمواثيق الدولية التي صدق عليها مجلس النواب كما تفعل دساتير العالم قاطبة. وهذا الدستور يظلم المرأة لأنه ألغى المادة 69 التي تنص على التزام الدولة بضمان المساواة بينها وبين الرجل في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كما ألغى المادة 33 التي تنص على «عدم التمييز بسبب الجنس والأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة» ما يسمح للفقهاء بإعطاء مشروعية للتمييز… ومن الملاحظات أيضاً أن الدستور لا يحقق أهداف الثورة في العدالة الاجتماعية، وإنه يقيد الحريات والحقوق في المواد 35 و48 و76 و81، وهذه تشترط لممارسة الحقوق والحريات الاساسية عدم تعارضها مع رأي الفقيه الديني.
وهكذا، فإننا لا نحتاج الى تدقيق كبير كي نرى تجاه الإخوان المصريين الى إقامة الدولة الدينية بكامل مواصفاتها، ونزاعها مع الدولة المدنية. فبعد قيام تظاهرات 30 تموز 2013 وإنهاء حكم محمد مرسي ثم تعطيل دستور 2012 وتشكيل لجنة من عشرة خبراء ثم لجنة الخمسين لتعديل المواد الخلافية في الدستور، لم يشارك فيها الإخوان المسلمون بينما شارك فيها حزب النور السلفي بما في هذه المشاركة من دلالة على الصراع التنافسي الإبعادي ضمن الفكر الديني المدعوم من دول خليجية متناحرة. وقد تضمنت التعديلات أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الاساسي للتشريع لكنها نصت على منع منع تأسيس الاحزاب على أساس ديني أو عرقي أو جنسي.
حاز الدستور في كانون الثاني 2014 على 98.1 من أصوات المقترعين ونسبتهم 38.6 . والمهم أن الدستور، ومن دون البحث في تفاصيله، أنه أتى باتفاق سائر الأطراف المشاركة . ونصت الوثيقة الدستورية التي أتت به على استكمال بناء دولة ديمقراطية حديثة حكومتها مدنية وتلتزم الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية وتحترم الحريات والمساواة وعدم التمييز « نحن المواطنات والمواطنين، نحن الشعب المصلاي، السيد في الوطن السيد، هذه إرادتنا وهذا دستور ثورتنا»… وتبقى العبرة في التطبيق وفي تحقيق مصالح المجتمع التي تبدت في مطلب الاستقرار أولاً والقبول بمن يحققه ويعيد للاقتصاد، وخاصة للسياحة، ألقها من دون إغفال بعض أسباب قيام الانتفاضات.
الحالة السورية
3 – الجمهورية السورية:
في الجمهورية السورية بدأت ولما تنتهِ أو تستقر. كانت تكفيها شرارة من نفط في حطب طال يباسه وضمن محيط ملتهب… وسريعاً تحولت « السلمية» ومطلب «إسقاط النظام» و»رحيل الرئيس» إلى فوضى عارمة فاجأت النظام والمجتمع. وتحركت لدى السلطة اليات الدفاع عن النظام بعد مرور زمن كاف على انتفاضات اعتمدت على الإعلام الغربي والجزيرة القطرية بخاصة حتى بدت في ظروف معينة أنها بوقها الأمين ونافخة أوارها. لا ينفي ذلك أن الساحة السورية عرفت معارضة سلمية، ولكن هذه المعارضة سرعان ما هاجرت الى الخارج أو أيدت إصلاحاً داخلياً في الدستور والنظام، ما أفسح المجال أمام اشتعال الساحات بين مليونيات مؤيدة للنظام ومظاهرات تنطلق من المساجد لتأخذ طابعاً دينياً طائفياً بهتافات علنية، وفق اشتراط دول الخليج المموّلة، في ما سماه جورج مالبرونو أسلمة الثورة ومساهمة فرنسا بذلك 4 أو تجري في الليل أو في أحياء داخلية خوفاً من القمع.
وبدأ العنف يهزّ أمناً عاش عقوداً، مع استثناءات محدودة، وتدخلت الدول الغربية بإعلامها وسياسييها وسفاراتها ومخابراتها، ولعبت الجامعة العربية دوراً مرسوماً وتدخلاً غير مسبوق، لا يجيزه نظامها، في شؤون دولة مؤسسة لها. وساد عنف داخلي طال الدولة ومكونات المجتمع، وأصبحت الانتفاضة مسلحة برزت أولاً في الأرياف وفي الأحياء الداخلية لبعض المدن ثم توسعت، واتخذ معظم رموز المعارضة المسلحة الفنادق الفخمة مقار لهم في الدول الإقليمية التي انفضح تدخلها والتي كان للسفارات الغربية دور بارز في مؤتمراتهم وخططهم، إلى أن اتضحت سياسة الأحلاف والمصالح الدولية. وغرقت الساحة السورية في جحيم من الدم والنار والدمار، بفعل حرب عالمية تقليدية وذكية، وصمد النظام واندلعت المعارك على جميع الصعد العسكرية والاقتصادية والإعلامية والأخلاقية والإنسانية والطائفية.
ثم أخذ الجهاد الديني بألف اسم واسم يظهر الى العلن ويحل مكان الاعتراض الداخلي، فأصبحت الأرض السورية دار جهاد يؤمها عشرات الألوف، من مختلف أصقاع الأرض، ممن تحضّرهم وتدرّبهم وتمولهم وترسلهم مئات المراكز الإخوانية والسلفية ومخابرات الدول المنتشرة في أكثر من ثمانين دولة. وهكذا ضاعت المعارضة وضاع الربيع وضاعت الانتفاضات وصمد النظام بفعل الجيش بل صمد الجيش ليختصر الدولة ويحرّر أرضه شبراً بعد شبراً.
وإذ رأينا في تونس ومصر كيف وصلت الدولة الدينية عبر الإسلام السياسي الإخواني الى السلطة، ولو لمدة قصيرة، فإن في الجمهورية السورية اليوم عشرات «الدول» الدينية لجماعات تنتشر وتتقاتل على مساحة البلاد كلها، بل أبعد، وتلتهم بعضها بعضاً وحيث تهيمن تفرض مناهجها التربوية الدينية على الطلاب في سباق لتجنيدهم في صفوفها، ففي محافظة الحسكة، على سبيل المثال، تسيطر «داعش» على 754 مدرسة يتعلم فيها 68742 طالباً وتلميذاً في ريفي الحسكة الجنوبي والشرقي وقد ألغت التربية القومية وعدّلت في التربية الدينية وفصلت الذكور عن الإناث ودوامهن بعد شهر من دوامهم 5 .
وفي معركة الحقوق والحريات الأساسية، فقد قابلت الدولة مطالب الانتفاضة، بعد سنة من اندلاعها، بتعديل في الدستور أو بحزمة اصلاحات، وصدر الدستور الجديد بالمرسوم رقم 94 في 27 شباط 2012. أهم ما في هذا الدستور أنه يلغي المادة الثامنة التي تنص على أن «حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية.
شكّل إلغاء هذه المادة أحد المطالب الأساسية للمعارضة في الإصلاح والحرية وعدم التفرد في رسم سياسة الدولة، وأصبح النظام السياسي للدولة في المادة 8 الجديدة يقوم على مبدأ التعددية السياسية. وينظّم القانون إجراءات تكوين الإحزاب السياسية التي لا يجوز قيامها على أساس ديني أو طائفي أو قبلي أو مناطقي أو فئوي أو مهني، أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون. وما يميز الدستور السوري عن بقية الدساتير العربية هو أن دين رئيس الجمهورية هو الإسلام وأن الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع مادة 3
وتكفل المادة 19 الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وتعطي المادة 23 للمرأة جميع فرص المساهمة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتنص المواد 33 و34 و42 و43 على الحريات الشخصية والمواطنة وتساوي المواطنين في الحقوق والواجبات والمساهمة في الحياة السياسية وحرية وسائل الإعلام واستقلاليتها… وتبقى العبرة دائماً في التطبيق.
تبقى العبرة في التطبيق، لأن الحريات العامة التي نص عليها الدستور أغلبها كان منصوصاً عليه في دستور 1973 من دون أن تعرف تطبيقاً يعطي النص معناه الكامل. ويعود ذلك الى صدور 5 قوانين جعلتها معطلة وهي: قانون الطوارئ لعام 1963 الذي يحظّر التظاهر ويتيح الاعتقال التعسفي والتنصت، وقانون حماية الثورة مرسوم تشريعي رقم 6 لعام 1965 ، وقانون المحاكمات العسكرية رقم 109 لعام 1968 الذي شرّع تقديم المدنيين للمحاكمات العسكرية، وقانون إحداث محاكم أمن الدولة مرسوم تشريعي رقم 47 لعام 1968 ، وقانون إعدام كل منتسب أو ينتسب للاخوان المسلمين رقم 49 لعام 1980 على خلفية أحداث ثمانينات القرن العشرين وذروتها في حماه عام 1982 حين جوبه بعنف كبير وباعتقالات ضخمة في جميع أنحاء البلاد.
خاتمة
بدأتها تونس ولحقتها مصر وطالت بلدانا عربية أخرى. انتفاضات من دون قيادات حزبية، خضّت مستنقع الأنظمة العربية المتسلطة بمطالب حقوقية خبرتها الشعوب الغربية وتدرجت إليها بتطور فكري-مادي حرر العقل والفرد ووصل الى مفهوم المواطنة، بكل ما تعنيه من حقوق وحريات للفرد والجماعات ينتظمها الدستور والقانون ويكفلان احترامها ويقوّمان اعوجاج الحكام إن انتقصت منها، وذلك من دون اعتبارات لاختلاف الدين أو الجنس أو العرق أو الوضع الطبقي.
وقد بينت الانتفاضات العربية، بما رافقها من تداعيات، أن البلدان العربية تعاني من أشكالات مزمنة تتعلق بالهوية وبمفاهيم المجتمع والدولة والديمقراطية ومختلف حقوق المواطنة، وهذا ما تجلى في دساتير «الثورات». وهذا يعني أن مجرد قيام الانتفاضات لا يحل مشاكل المجتمع والدولة، رغم ضرورتها التاريخية، بل قد يفضي الى فوضى تصلح لتدخل الخارج واستثماراته أو لحلول الأحزاب الدينية البعيدة عن مطالب الانتفاضات والبعيدة عن حقوق المواطنة، بدليل اشتراكهم بها عن بعد، بحيث يصبح همّ الشعب البحث عن استقراره واعتماد التوافق بين مكونات المجتمع السياسية وفي طليعتها القوى التقليدية. وهذا ما يفسر أن أحزاب الانتفاضات في دول مثل تونس ومصر لم تحصل في الانتخابات على نصيب يعادل من قريب أو بعيد حجم نضالها في الشارع، وبقيت على تشرذمها تجاه تنظيم خصومها، وبالتالي على هامش النتائج. وكان هم الساسة في تونس «إيجاد التوافقات السياسية والعبور بالمجتمع نحو برّ الأمان… ولذلك بدت الثورة هناك «أقلّ الثورات راديكالية» وأكثرها تعبيراً عن الميول التصالحية للمجتمع.» 6
إن خض مستنقع الحزب الواحد القائد، جعل مشكلات المجتمع والدولة تطفو على سطح الأحداث، بل تزداد حدة، لجهة البطالة والفقر وضرب الاقتصاد واختلال الأمن وصعود الجماعات السابقة لوجود الدولة والمؤسسة عصبياتها على الطائفية والعشائرية والعرقية والتي أشغلت جيوشنا وكشفت هشاشة الاسس التي قامت عليها دولنا في الجمهورية السورية، أصبحت الانتفاضات معارك حربية وسياسية دخلتها كل مكونات المجتمع وكل دول الإقليم ومعظم دول العالم حتى خرجت عن كونها انتفاضة شباب لحريتهم وكرامتهم وظهرت تنفيذاً لخطط وحشية مدمّرة للدولة وللمجتمع ومدمّرة للدين حين مرّغته بوحل السياسة والتخلف والإرهاب المنظم غير المسبوق.
يقول نصري الصايغ: «غلب الإسلام السياسي بأزماته الدينية عروبة مدنية قست على عروبييها فاحتلّ الفراغ الفكري الأمكنة. الربيع العربي الحراك المدني شوّهه الاستعصاء المذهبي، اختطفه الإسلام الرسمي بالاية والنفط ودمره الاستبداد العسكري..» 7 .
ويرى ناهض حتر أن: «مشكلة الفاشية الدينية الإرهابية التي حلت ببلدان الربيع العربي هي مشكلة أمنية وسياسية كما هي مشكلة فكرية وأخلاقية. وسيطرة الفاشية الدينية تتخطى في عنفها حتى أنظمة الاستبداد لأنها لا تقمع المعارضين السياسيين فقط بل تتدخل في تفاصيل حياة الفرد ومسلكه وضميره فتخضعها لنمط رجعي صارم دونه عقاب النص المنتقى. والمشروع الذي رأيناه يتبلور في ما سمي «الربيع العربي» لا يتعدى كونه مشروع خلجنة البلدان العربية جمعاء، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، وإخضاعها كليا للمركز النفطي الخليجي» 8 .
إن مراقبة سياسات الدول اللاعبة في الساحة السورية وتصاريح مسؤوليها يدرك كيف يتم زرع «الفوضى الخلاقة» وتدمير العراق والجمهورية السورية، والعمل على تفتيتهما الى مكوّنات «شرق أوسط جديد» لم يحلم بها لا سايكس ولا بيكو، بما يضمن مصالح أعدائهما.
وتتفرد الجمهورية السورية بصمود جيشها ومؤسسات دولتها، رغم تضرر مرافقها الحيوية، كما بالتفاف شعبي حول رئيسها أظهرته الانتخابات الأخيرة، ما يطرح سؤالاً مبكراً عن بقائها كدولة فاعلة قادرة حالياً أو مستقبلاً على تطبيق حقوق المواطنة والسماح بإشاعة ثقافة المواطنة في فكرة الحرية وتكافؤ الفرص والمساواة والتي لا يمكن إدراكها إلا بالديمقراطية الدستورية التي تنظّم العلاقات في المجتمع وتحتم تطبيق مبادئ دستورية صارمة تحصّنه بشكل فعّال، ويتم ذلك عبر مراجعة عميقة للدستور، وفق ما بلغته المنظومة الفكرية والحقوقية في العالم، وليس بمجرد تعديلات جزئية أو فوقية.
أخيراً، انكفأت الانتفاضات الليبراليّة وحل مكانها المدّ الديني المنظّم المدعوم من دول الغرب وحلفائها الإقليميين والممول من الخليجيين، فاستدرك الشعب والجيش، في تونس ومصر، العودة الى الدولة المدنية ومحاولة تطويرها بينما تغرق الجمهورية السورية في عراك يطرح على المحك مصير الدولة المدنية الحاضنة لجميع المكونات الشعبية والتي أثبتت صمودها أو «دولة الخلافة» النافية لكل تعدد أو إيمان مختلف.
«أثر الانتفاضات العربية على المواطنة في العالم العربي»… مؤتمر دولي بجامعة البلمند
في حضور نخبة من الباحثين والأكاديميين من كل أنحاء العالم آسيا، أفريقيا، أوروبا وشمالي أميركا، افتتحت كليّة الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة البلمند مؤتمراً دولياً بعنوان «أثر الانتفاضات العربية على المواطنة في العالم العربي».
تكلم في الجلسة الافتتاحية منسّق المؤتمر الدكتور سامي عفيش، مشيراً إلى الأنظمة السياسية التي تولي الأهمية للواجبات على حساب الحقوق في العلاقة بين المواطنين والدولة. ثم تطرّق إلى عملية التغيير التي تعصف بالعالم العربي منذ بعض الوقت في محاولة لتحديد العلاقة بين الانتفاضات – التي طالبت بالكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية – والمواطنة في العالم العربي من خلال دراسة الجوانب المتعدّدة الأبعاد للمواطنة.
أما عميد كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة الدكتور جورج دورليان، فتكلّم على غياب المواطنة ومفهوم الدولة، والعلاقة بين الانتفاضات والمواطنة التي يشوبها الغموض، مشيراً إلى أن مسار الانتفاضات لم يبلغ هدفه المنشود، فالانتفاضات لم تؤدّ إلى ترسيخ دور الفرد و فكرة المواطنة بل غرقت في متاهات الصراعات حيث تفرّق المنتفضون أفراداً وجماعات، فاسحين في المجال لقوى لا تقيم للمواطن مكانة ولا للمواطنة موقعاً أن تنتهز المناسبة وترتفع على أكتاف المواطنين. وختم قائلاً إن مجتمعاتنا لا تزال مكوّنة من «جماعات»، والجماعات هي الصفة المخفّفة التي نطلقها على المجموعات البشرية التي تعود بناها إلى القبائل.
ثم كانت الكلمة لخطيب المؤتمر الدكتور جيلبير الأشقر، الذي طرح موضوع الانتفاضات العربية، مشيراً إلى أن الإحباط الحالي لهذه الانتفاضات هو على قدر التفاؤل المفرط الذي ساد في السنة الأولى في عام 2011. وأضاف إلى أنه تمّ إسقاط نموذج الثورات الملوّنة على الواقع العربي، ولفت إلى إلى أن هذا النموذج يتنافى مع خصوصية المنطقة. كما وأضاف أن «الانفجار الثوري التي شهدته المنطقة العربية ناتج عن إعاقة اقتصادية لعدة عقود أدّت إلى الغليان والانفجار الذي حصل». واختتم مداخلته قائلاً إننا أمام سيرورة ثورية طويلة الأمد بسبب الحركات الرجعية الدينية التي باتت في تناحر مع النظام القديم.
اختتم اليوم الأول بحلقة نقاش شارك فيها الدكتور مضر قسيس، عبر السكايب، الذي قال إن الدولة في العالم العربي تحولّت من حامية لحقوق المواطنين إلى حامية للنظم النيوليبيرالية، ولمقاييس التجارة العالمية، حيث أصبح معنى المواطنة غير واضح.
بدوره، عرض الدكتور غسان خالد إشكالية المواطنة في الفكر السياسي العربي، مشيراً إلى طغيان مفهوم القبليّة السياسية، حيث استمرّت الأنظمة في استخدام مفهوم متناقض مع فكرة المواطنة وهو فكرة الرعيّة الموروثة من الفكر الديني.
أما الدكتورة نجلا حمادة، فتطرّقت إلى وجود فكر رجعي ضدّ فكرة القومية والمواطنة. من ناحيته، ربط الدكتور خليل خير لله كلمة المواطنة بمفاهيم الحقوق في ما وصفه بالدولة-الأمّة، وميّز بين الدولة الدينية والدولة المدنية مشيراً إلى أن مفهوم الدولة المدنية الضامنة للمواطنة قد غاب أو غُيّب في الانتفاضات لمصلحة دولة دينية.
وفي حلقة النقاش الأخيرة، تكلمّت كل من الدكتورة كارولين سنغنبش والدكتورة نورا عسّاف على تأثير الانتفاضات على المواطنة في لبنان.
دكتور في الحقوق
هوامش
1. مصر تجربة ديمقراطية وتشريعية غنية، أشرف حمدي سفير مصر في لبنان ، صياغة الدساتير في التحولات الديمقراطية-المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم، منشورات المكتبة الشرقية/ بيروت 2014 ص 103
2. www.egypt.gov.eg/arabic/laws/constitution/
3. http:// www.aldostourparty.org
4. MALBRUNO Georges, CHESNOT Christian, Les chemins de Damas : le dossier noir de la relation franco-syrienne, dit. Robert Laffont, 9 octobre 2014
5. أيهم مرعي، ثلاثة مناهج في مدارس الحسكة وتعدد الزوجات ممنوع، جريدة الأخبار العدد 2440، الاثنين 10 تشرين الثاني 2014
6. ورد كاسوحه، تونس: أسئلة الانتخابات الاخيرة، جريدة الاخبار، العدد2440 ، الاثنين 10 تشرين الثاني 2014
7. نصري الصايغ، فصل النهايات: ولادة البيع المتوحش، السفير، 16/10/2014
8. ناهض حتر، جريدة الأخبار، عدد 2430، الثلاثاء 28 تشرين الاول 2014