كيف يكون لـ«إسرائيل» يدٌ في التفجيرات؟
ناصر قنديل
– يشكل انتقال تنظيم داعش للعمليات النوعية الكبرى خارج نطاق ساحة الاشتباك الوجودي للدفاع عن «أرض دولة الخلافة»، بتخصيص موارد قيادية وتنظيمية وتخطيطية وبشرية ومادية على مدى زمني غير قليل لتحقيق ثلاثة أهداف متلاحقة، بحجم تفجير الطائرة الروسية وتفجيرات الضاحية ومذبحة باريس، إلى حدّ أنه يكفي أن يكون التنظيم كله متفرّغاً للنجاح بزمن متقارب لعمليات بهذا الحجم حتى يكون الإنجاز كافياً، دون أن تكون لديه جبهات قتال يهتمّ بها.
– عادة يحدث مثل هذا الانتقال عندما يكون التنظيم قد أحكم سيطرته على الجغرافيا التي تشكل نقطة الانطلاق ومركز التدريب ومقرّ القيادة، وبدأ يرسم خطط التوسع الجغرافي أو السياسي، أو بدأ التفاوض على ساحة إقليمية دولية حول أهداف يستخدم الضغوط الإرهابية والمفاوضة على وقفها لفرض القبول بها، أما عندما تكون القاعدة الرئيسية للتنظيم مهدّدة، كما هو الحال في ضوء تخلخل سيطرته على الجغرافيا السورية والعراقية أمام الهجمات التي تستهدف مواقعه وتحقق كثيراً من التقدّم وتهدّد بتحقيق المزيد، فيصير للهجمات وحجم الاهتمام بها وتخصيص المقدرات الكبيرة التي تستلزمها، فرضيات أخرى لا بدّ من تفحّصها.
– إمكانية أن يكون لهذه الهجمات دور في خلق توازن ضغط يفتح باب التفاوض لوقف التهديد الوجودي، وهو ضغط يمثله ثلاثي روسيا وحزب الله والتحالف الغربي الذي تشكل فرنسا أحد أبرز أطرافه، باعتبار العداء مع سورية لا مناصَ منه، ولا حلّ له، وباعتبار أنّ التنظيم يعلم أنّ التحوّل في الوضع العسكري ناجم عن دخول عناصر جديدة يسعى لمعالجتها، والثلاثي المستهدف بالتفجيرات هو فعلاً الثلاثي الذي يعني قيادة «داعش» في الحرب الوجودية، فتكون الرسالة هي أوقفوا الهجمات وإلا سنذيقكم مرارة أعمالنا، لكن المشكلة هنا هي أنّ قيادة «داعش» تعلم أنّ الضغط بالتفجيرات سيرتب زيادة الضغط على الجغرافيا، باعتبارها المكان الوحيد لردّ يمنح الذين تعرّضوا للتفجيرات، فرصة استرداد معنويات أصيبت بالتفجيرات، ولا يمكن أن يرد في حساب أيّ عاقل أنّ هذه التفجيرات ستثني روسيا وحزب الله اللذين يقاتلان في سورية لاعتبارات مصيرية عن خيار القتال خشية التعرّض للتفجيرات، أو أنّ فرنسا وحلفاءها في الغرب هم كدولة الإمارات التي تستطيع الانسحاب دون أن يحسّ بها أحد، بينما انسحاب الغرب من المسرح السوري يعني تركه لروسيا وسورية وإيران وحزب الله، وهذه استحالة.
– توصل التفجيرات رسالة قدرة ومعنويات، في الحرب الوجودية التي يواجهها التنظيم وتستهدف معاقله، لكنها لا تغيّر في وجهة الحرب، ولا تصلح كورقة ضغط تفاوضية، فماذا عساها تريد أن تقول، ولماذا يضعها التنظيم أولوية؟ هنا تبقى فرضية ثانية وهي أن تكون معطيات التنظيم قد أوصلته إلى أنّ معركته في الدفاع عن معاقله خاسرة لا محالة، وأنّ المسألة مسألة وقت قبل أن تسقط تحت ضربات المهاجمين، وأنّ عليه بالتالي تغيير استراتيجيته وساحات عمله، فاختار التمهيد التدريجي للتعايش بين نوعين من القتال، واحد في الجغرافيا إلى حين سقوطها، والثاني الذي سيصبح البديل وهو الانتقال مرة أخرى إلى الصيغة التي كان عليها تنظيم «القاعدة» الأمّ، منتشراً ومتخفّياً في العديد من الساحات وقوته الضاربة هي هذا النوع من العمليات، ويصير مهمّاً في هذه الحالة فهم الخريطة السياسية والأمنية والديمغرافية التي يريد «داعش» رسمها من خلال عملياته.
– الواضح أنّ العناوين المستهدَفة، لا تحمل ساحة مرشحة لتكون ساحة عمل رئيسي بديلة لـ«داعش» عن سورية والعراق إلا فرنسا، وربما هذا ما يفسّر حجم الجهد المرصود بصورة مميّزة لعمليات باريس عن عمليتي الضاحية والطائرة، رغم أنّ فرنسا هي الطرف الأقلّ تسبّباً بالألم لـ«داعش» بين المستهدَفين، فلن تكون روسيا الساحة البديلة ولا لبنان، رغم إمكانية تشكيلهما ساحات عمل مستمرة ورئيسية لـ«داعش»، لكن في فرنسا يبدو واضحاً أنّ التكوين الديمغرافي الذي يشكل النسيج الإسلامي نسبة غير قليلة منه وتتحدّر بأغلبها من مهاجرين عرب يعانون من التمييز العنصري والروح العدائية، يقدّم فرصة ذهبية لما هو أبعد من تمكّن «داعش» من إيجاد بيئة حاضنة ومصدراً متاحاً لخزان موارد بشرية لا ينضب، بل في ظلّ تهرّب الدول الغربية من تحمّل فواتير الدماء التي تترتب على المواجهات، وهو ميدان تفوُّق لـ«داعش»، يمكن لقيادة التنظيم أن تفترض أنّ مواصلة الضرب بقوة بالطريقة ذاتها ستستنهض مئات وألوف الشباب في أحياء المهاجرين لحماية أحيائهم من هجمات عنصرية رسمية وشعبية سيتعرّضون لها، وتكون جماعات «داعش» هي القوة الحامية بضرباتها الموجعة، التي تنجح بأخذ فرنسا إلى حرب أهلية يتقاسم فيها «داعش»، ولو بصورة سرية، مع الدولة الفرنسية بعضاً من جغرافيتها.
– الواضح أيضاً أنّ هذا الهدف الاستراتيجي لـ«داعش»، لا يحمل بعداً تكتيكياً ولا تفاوضياً، لا مع روسيا ولا مع فرنسا، وليست له رسالة تكتيكية من تفجيرات الضاحية، فمردود عمليات باريس تدريجي وتسلسلي وطويل، ومردود عمليات الطائرة والضاحية إظهار القدرة والقوة وإلحاق الأذى، لكن هذا يطرح عدداً من الأسئلة، من نوع: لماذا يسارع تنظيم «داعش» بعد عملية الضاحية الإعلان عن أنّ فلسطينيّيْن كانا وراء التفجيرات الانتحارية، وما كان يفترض أن يرتّبه ذلك من ردود فعل غاضبة على مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين، وماذا يستفيد التنظيم من فتنة بين الضاحية والفلسطينيين؟ وهل هي قضية مركزية على جدول أعماله؟ وما دام التنظيم ليست لديه أجندة تفاوضية من وراء العمليات، فمن كان يقدّم نفسه للتفاوض نحو روسيا وفرنسا بقوة ما حملته العمليات، وتصبّ الفتنة الماء في طاحونته، ليظهر كشريك ضمني، أو مشغل خلفي، لـ«داعش»؟
– خرج رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في اليوم الثاني لمذبحة باريس ليقول إنّ مخابراته كانت على علم بالتفجيرات عبر اختراقات وأعمال تنصّت، والأهمّ أنها قادرة على المساعدة، والأشدّ أهمية أنّ هناك عمليات لاحقة ستتمّ، والرسالة هنا ذات مضمون واضح، نحن علمنا بالطائرة الروسية وتفجيرات الضاحية ومذبحة باريس، ونستطيع تجنيبكم المزيد إنْ تعاونتم معنا، وسواء كانت معونة نتنياهو ناجمة عن كونه «يمون» على «داعش» لوقف الأعمال اللاحقة إذا تحققت أهدافه، أو عن قدرته على تعطيل هذه الهجمات من داخل التنظيم عبر اختراق هو الذي قال إنه أوصل إليه المعلومات، ويمكن له عبر تسريبها مسبقاً ربما المساعدة في الاستعداد لها وكشفها، في أدنى الأحوال.
– مقاربة الفتنة في الضاحية من باب «إسرائيلي» سهلة القبول، لكن شيطنة صورة الفلسطيني تبدو أهمّ، فهو الذي يقوم بانتفاضة الطعن والدهس، التي بدأت تلقى تعاطفاً دولياً واسعاً، وتؤسّس لضغوط جدية تعاني منها «إسرائيل»، تستدعي تقديم صورة الفلسطيني القاتل المتوحش حتى على البيئة الأقرب للدفاع عن قضيته التي تمثلها الضاحية الحاضنة لحزب الله، فيصير التعامل مع هذا الوحش المتعطش للدم بغير الطريقة «الإسرائيلية» حماقة، والتعامل بطريقة التشجيع تشجيعاً للإرهاب، تحويل تهمة الإرهاب في المناخ العالمي الهستيري نحو «داعش»، باتجاه الفلسطينيين قضية «إسرائيلية» بامتياز، فلماذا تتبرّع بها قيادة «داعش» لحساب «إسرائيل»؟
– زار بنيامين نتنياهو موسكو وطرح قضيتين، لم يحصل على الجواب الذي يريده عليهما، هما مواصلة غاراته في سورية ضدّ ما يسمّيه شحنات السلاح لحزب الله، أو التعاون على بديل هو وضع ضوابط متفق عليها لنوع وكم السلاح الذي يصل للحزب من جهة، ومن جهة مقابلة، تقديم ضمانات لـ«إسرائيل» أنّ حجم تزايد قوة سورية بعد تعافيها لن يكون باباً لحرب جديدة على «إسرائيل»، تعيد مشهد حرب العام 1973 وبصورة مضاعفة في مخاطرها الوجودية على «إسرائيل» ولو بعد سنوات، وأعاد نتنياهو طرح الأمرين مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، وعملية الطائرة، كانت بقيت ضمن إطارها كردّ إرهابي لـ«داعش» على الدور الروسي في الحرب، لولا كلام نتنياهو أنه قادر على المساعدة وأنّ أعمالاً مثلها آتية، وبالتالي فهو يعلن قدرته على المساعدة على منعها، وهذا عرضٌ يقدّمه لدولة جدية ووازنة وذات مؤسسات مخابراتية عريقة لا يلعب بعقول قادتها الكلام، وقادرة على تفحّص أبعاده والتحقق من جديته، فإذا كان هذا هو عرض نتنياهو، على موسكو فماذا يطلب في المقابل، هل يكرر طلباته ذاتها أثناء زيارته موسكو مؤخراً، فتصير الرسالة، أعطونا ضمانات لحجم ونوع تسلّح حزب الله ولعدم تعرّضنا لحرب مقبلة من سورية فنُعطيكم ضمانات بعدم تكرار عمليات «داعش»، وهل يكفي الاختراق لـ«داعش» لتقديم هذا العرض وضمان تنفيذه؟
– واضح أيضاً وأيضاً، أنّ اتساع التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية يقلق «إسرائيل»، وأنّ وصول هذا التضامن حدّ تقدّم الحكومة الفرنسية بمقترح نشر مراقبين دوليين في المسجد الأقصى، تسبّب لـ«إسرائيل» بصداع أدّى إلى فجور أميركي في رفض مجرد مناقشة المقترح الفرنسي أمام مجلس الأمن الدولي والتهديد بالفيتو الفوري حال طرحه. والكلام لأعلى مستوى ديبلوماسي أميركي هو وزير الخارجية جون كيري. والمقترح الفرنسي بقدر ما يستند إلى ذاكرة فرنسية ديبلوماسية أسّس لها الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول بطرحه وضع القدس تحت الحماية الدولية بعد احتلال شطرها الشرقي من قبل «إسرائيل» في حرب العام 1967، هو المقترح نفسه الذي تتبناه الانتفاضة ويصيب مقتلاً من «إسرائيل» باعتباره واقعيّ التطبيق ويبدو بسيطاً بساطة المطالبة بحق الحياة، ولا يبدو متصلاً بالحقوق السياسية المعروضة في التفاوض بين الفلسطينيين و«إسرائيل» مثل حلّ الدولتين وسواه، لكنه يسقط نظرية الدولة اليهودية التي تستند إلى القدس كهوية، بالضربة القاضية، ونتنياهو يقول لفرنسا نحن نعلم أنكم ستُضرَبون مجدداً ونحن قادرون على المساعدة، أيّ يمكن أن تتجنّبوا المزيد مقابل… أن تسحبوا مقترحَكم الذي لم تقوموا بسحبه بعد، رغم الضغوط والمناشدات، لأنكم تخشون معركة رأي عام إنْ فعلتم، حسناً ها هي المذبحة وخطر تكرارها تمنحكم العذر لتفعلوا، فهل تشكل مبرّراً وعذراً للتراجع أمامكم، وربما بصمت، فيتمّ تمريرها مقابل ضمانتنا لكم بعدم التكرار، وكيف سيضمن نتنياهو؟
– يمكن للمرء أن يقرّر أن يكون ساذجاً، كي يعتبر تصريحات نتنياهو مجرّد عمل استعراضي غبي وأحمق، لكن السذج أحرار بأنفسهم وما يفكرون، أما من يشغّلون عقولهم، فمن حقهم التساؤل عما إذا كان كلّ ذلك ممكناً دون أن تكون خطة «داعش» للتفجيرات قد تمّت بالتعاون مع «إسرائيل» ما لم يكن لليد «الإسرائيلية» مهام وظيفية في ضمان حسن التنفيذ، وسوابق «إسرائيلية» تقول إنّ تفجير كنيس يهودي ليس مشكلة إذا كان يجلب لـ«إسرائيل» مصلحة، فيكون ما شهدناه فصلاً من فصول تقاسم المافيات والعصابات للمهام مقابل تقاسم الغنائم، لـ«داعش» نصيب ولـ«إسرائيل» نصيب.