سرد عميق يدخل حياة أفراد وحكاياتهم ومآسيهم في مبنى سكنيّ يجمعهم
ربما كان الروائي جوزيه ساراماغو الأشهر بين الكتاب البرتغاليين 1922 – 2010 وحاز جائزة نوبل للآداب عام 1998، وعاد إلى واجهة الحياة الثقافية العام المنصرم بعدما نشرت رفيقة دربه، زوجته ومترجمته إلى الإسبانية، بيلار دل ريو روايته «المَنوَر» المستعادة من بطن نصف قرن مرّ على كتابتها في البرتغال والبرازيل، وفي الوقت نفسه تقريباً، نشرت الترجمة الإسبانية لها، وما لبثت ترجمتها العربية أن صدرت لدى «شركة المطبوعات للنشر والتوزيع» في بيروت، العام الجاري، ترجمة هيثم لمع.
وردت قصة الرواية المفقودة/ المستعادة في مقدمة كتبتها بيلار دل ريو زوجة ساراماغو للرواية، إذ تقول إن الناشر اتصل هاتفيا بالمؤلف عام 1989 ليبلغه أنهم وجدوا مخطوطة قديمة لروايته وهم يجمعون أغراضهم للانتقال إلى مكان جديد، وكان ساراماغو قدّمها إليهم للنشر عام 1953 وبقيت مركونة لديهم وأهملت لأن المؤلف لم يكن اسماً معروفاً آنذاك، وعرض عليه نشرها عامذاك 1989 لكن ساراماغو رفض ذلك، وعندما سألته زوجته عن سبب الرفض أجابها بألم «لقد انتظرت سطرا منهم، اعتذاراً أو موافقة غير مهمّ، إلا أني بقيت أنتظر يوماً فآخر، وشهراً فآخر إلى أن امتدّ الانتظار نحو أربعة عقوداً»، ثم أبلغ زوجته بقراره الحاسم «لن أنشر هذه الرواية مادمت حياً». وهذا ما كان، إذ نشرت الرواية بعد وفاة ساراماغو بثلاث سنوات ليفاجأ القارئ بتحفة من تحف ساراماغو التي لطالما أمتع بها قرّاءه، واعتبر البعض أن ما حصل لـ»المنور» كان حدثاً سيئاً جداً، لأن ساراماغو صمت بعد إهمال الناشر لها نحو عشرين سنة اشتغل خلالها في الصحافة والترجمة ليعود إلى كتابة الرواية في سبعينات القرن المنصرم، وإذا كانت هذه الرواية نشرت حينذاك وحققت الصدى المتوقع لها لتغيّر نتاج جوزيه ساراماغو لكن بعض النقاد يرون الأمر مختلفاً تماماً إذ اعتبروا أن فترة الصمت الطويلة التي مرّ بها ساراماغو كانت فترة نضج واختمار أفرزت كاتباً كبيراً بعد ذلك، ويستدلون على ذلك بأن شخوص «المنور» وأجواءها توزعت في أكثر من عمل لاحق أنجزه ساراماغو على نحو إبداعي مكتمل في أعماله اللاحقة.
في عتبة النص الأولى لرواية «المنور» يقتبس جوزيه ساراماغو بيتاً من الشعر للكاتب البرتغالي راؤول براندو يقول فيه «في كل نفس، كما في كل بيت، توجد، غير الواجهة، زوايا مخبأة»، وهي حقاً المقولة الافتتاحية لدخول عالم الرواية، فالمؤلف عبر تناوله قصة بيت في منطقة من مناطق الطبقة الوسطى في لشبونة الخمسينات، يجول في عوالم ست عائلات تسكن شقق هذا البيت، وكان يتسلل إلى هذه العوالم من الشباك الخلفي Claraboia المنور أو الكوة باللغة البرتغالية . ومن خلال عوالم تلك العائلات يقدّم إلينا صورة للفئة الدنيا من الطبقة الوسطى في برتغال الخمسينات تحت ظل ديكتاتورية سالازار، ففي هذا البيت المكون من ثلاث طبقات وفي كل طبقة شقتان، تدور حوادث الرواية كلّها.
في الطبقة الأولى، شقة الإسكافي الفيلسوف وزوجته الطيبة ثم المستأجر الشاب، الحالم واللامنتمي الذي يقطع أيّ رباط يخشى أن يقيّده، هذا الشاب الذي يدخل حياتهم عبر استئجار غرفة في شقتهم ومن خلال المناقشات العميقة التي تدور بين الإسكافي والشاب نطّلع على الكثير من تفاصيل محنة الحياة في تلك الفترة حوادث الرواية تدور عام 1952 تحديداً ، وفي هذه الطبقة الأولى أيضاً، شقة مندوب المبيعات السوداوي اليائس من الحياة مع زوجته الإسبانية سليطة اللسان وابنهما الموزع بينهما بسبب الخلافات المستمرّة التي لا يبدو لها حل بسبب سلبية الزوج وتسلط الزوجة.
أما في الطبقة الثانية فتسكن السيدة ليديا التي يزورها عشيقها الثري المتنفذ ثلاث مرات في الأسبوع ليقضي معها أمسيات تمتد إلى الساعة الثانية فجراً تماماً، وهو موعد نزول العشيق من شقتها، وهذه المرأة التي تتمزق بين عشيق يوفر لها مستلزمات حياة معقولة واحتقار السكان لها بسبب سلوكها، لكنه رفض أو احتقار خفيّ من السكان خوفاً أو وجلاً من نفوذ العشيق، تقابله هي بدورها بازدراء ولا مبالاة. أما الشقة الثانية في هذه ال طبقة الثانية فيسكنها عامل الطباعة في جريدة كبرى مع زوجته العليلة. يحيا الزوج حياة الخفافيش بسبب نمط عمله الذي يتطلب منه العمل مساء في مطبعة الجريدة والنوم صباحاً في البيت مع زوجة عليلة نفسياً وجسدياً تعاني أزمة وفاة ابنتها الوحيدة وهي في مقتبل العمر بسبب إصابتها بالتهاب السحايا، لتتركها محطمة تعيش على ذكراها مع زوج عربيد مستفز يعيش خارج البيت أكثر مما يعيش معها فيه.
أخيراً الطبقة الثالثة التي تعيش في شقتها الأولى أربع نساء من فئة «ارحموا عزيز قوم ذل». الخالة والأم وابنتان تجاوزتا سن الشباب، يعشن إحباطاتهن بين صفحات كتب ونغمات موسيقى منبعثة من الراديو في الأمسيات الحزينة التي تنتهي بهن وهن يطوين رغبات أجساد تذوي، أما الشقة الأخيرة في هذا البيت فهي شقة موظف متوسط الحال يكمل مصاريف الشهر بالسلفة وزوجته الفخورة به وابنتهما الشابة الجميلة ذات التسعة عشر ربيعاً والتي ربما كانت الشعاع الوحيد في هذا البيت المظلم، ولربما كانت تبشر بأن الأمل في التغيير نحو الأفضل قادم لا محالة.
يقودنا ساراماغو متسللاً عبر المناور المطلة من شقق البيت على الباحة الخلفية للمنزل، عبر سرد راو عليم متسلل إلى نفسيات شخوص الرواية عبر حبكة أخاذة مليئة بالمتعة القائمة على تحليل عميق لتلك الشخوص لتوصلنا في نهاية الرواية إلى فهم برتغال الخمسينات.