تقرير

كتبت مجلة «آتلنتك»: لم يستجب المرشّح الرئاسي الأميركي ماركو روبيو لهجمات باريس بالمطالبة بقبول الولايات المتحدة للاجئين المسيحيين فقط، بينما طالب مرشّح آخر هو تيد كروز بذلك. ولكنّ استجابة السيناتور ماركو روبيو ـ المعروف في دوائر الحزب الجمهوري بانخراطه الشديد في السياسة الخارجية ـ تستحق النظر تفصيلاً في مدى سخافتها.

بدأ روبيو حديثه قائلاً: «الهجمات التي وقعت في باريس هي منبّه»، سامحني على تحذلقي، ولكن هذا يعدّ من أغبى الكليشيات في مجال السياسة، فالمنبّه أمر تخطّطه بنفسك لأنّك تريد أن تستيقظ من إغفاءتك في وقتٍ محدّد، أمّا هجوم باريس فكان مفاجأةً مروّعة نظّمها أعداء فرنسا، فهو لم يكن «منبّهاً»، إلّا إذا أردت اعتقاد أنّ فرنسا نفسها كانت وراءه.

وتستمر الغرابة اللغوية في الجمل التالية، فيعلن روبيو أنّ «هذه ليست مسألة جيوسياسية قد يريدون فيها غزو قطاعٍ ما ويكون فيها الأمر حرباً بين دولتين. إنما يريدون الإطاحة بمجتمعنا حرفيّاً واستبدال رؤيتهم الإسلامية السنّية المتطرّفة للمستقبل به. فهذا ليس صراعاً مبنيّاً على ظلمٍ ما، إنّما هو صدام حضارات». لاحظوا أنّ روبيو لم يحدّد بوضوح من «هم»، فـ«داعش» وراء هجمات يوم الجمعة الماضي وفقاً للحكومة الفرنسية، بينما قال روبيو إنّ ما حدث في باريس «صدام حضارات».

ولكنّ «داعش» ليس حضارة، فهو قد أعلن نفسه دولةً في أجزاء من العراق وسورية، ولكنّ هذه «الدولة» غير معترف بها، وفي الأماكن الأخرى هو عبارة عن شبكةٍ من الجماعات الإرهابية التي تربطها أيديولوجية مشتركة. «الحضارات» هي تجمّعات ثقافية، يستدعي روبيو عبر وصفه هجوم باريس بأنّه «صدام حضارات» مقال صامويل هنتنجتون الشهير الذي نشر عام 1993 في مجلة «Foreign Affairs» بالعنوان نفسه. عرّف هنتنجتون «الحضارة» في ذلك المقال بأنّها «أوسع مستوى يتمتّع به الناس من الهوية الثقافية» وقال إنّ العالم يحتوي على سبع أو ثماني حضارات رئيسية هي: «الغربية، والكونفوشية، واليابانية، والإسلامية، والهندوسية، والأرثوذوكسية السلافية، والأميركية اللاتينية، وربما الأفريقية».

ثم أنّ الطريقة المباشرة لتفسير عبارة روبيو، أنّ الحضارة التي هاجمت باريس هي «الإسلام»، وهذه رؤية شائعة بين المحافظين الشعبيين الذين يتودّد إليهم روبيو في حملته الرئاسية. إذ يوضّح استفتاء حديث في ولايات مثل آيواه وكارولينا الشمالية أنّ أكثر من ثلث الجمهوريين يريدون تجريم الإسلام في الولايات المتحدة.

لقد تلاعب المرشّحان الرئاسيان بن كارسون ودونالد ترامب بهذا الشعور بفجاجة، ويفعل روبيو الأمر نفسه بطريقةٍ أكثر براعةً. ولكن الإشارة إلى مدى اختلاف تحليله تماماً مع تحليلات الرئيسين الأميركيين في فترة ما بعد 11 أيلول هامة جداً. قال بوش إنّ أميركا في حرب مع أيديولوجية «سيطرت عنوةً على الإسلام» تماماً كما فعلت النازية في ألمانيا أو الشيوعية في روسيا. بينما قال أوباما إنّ حتى هذا التقييم يعطي الجهاديين العنيفين مكانةً لا يستحقوها. ولكن روبيو، على عكس أوباما، يتجاوز بوش، ويفعل ما يريده «داعش» بالضبط، فهو يساوي «داعش» بالإسلام نفسه.

ثم تأتي نهاية تصريح روبيو: «لا يكرهوننا لأنّ لدينا قواعد عسكرية في الشرق الأوسط، إنّما يكرهوننا بسبب قيمنا، يكرهوننا لأنّ الفتيات الصغيرات يذهبن إلى المدارس، يكرهوننا لأنّ النساء يقدن السيارات، يكرهوننا لأنّ لدينا حرية تعبير، لأنّ لدينا تنوّعاً في المعتقدات الدينية، يكرهوننا لأنّنا مجتمع متسامح».

هذا الكلام ببساطة خاطئ، ربما يكره «داعش» التسامح والحرية وحقوق المرأة، ولكنّ هذا ليس سبب مهاجمة كوادرها باريس. وقد توضّح مراجعة بسيطة لتاريخ المنظّمة هذه النقطة، فقد بدأ «داعش» عام 2004 بوصفه فرعاً لـ«القاعدة» في العراق، ليس بسبب اكتشاف أبي مصعب الزرقاوي قائد التنظيم آنذاك، أنّ راكبات الدرّاجات البخارية يشغلن الطرق السريعة في أميركا، إنما لأنّ أميركا كانت قد غزت العراق للتو. عندما بدأت الولايات المتحدة في سحب قواتها من البلاد، لم يتبعهم فرع «القاعدة» في العراق إلى بلدهم، بل خاض بدلاً من ذلك حرباً ضد حكومة العراق ذات القيادة الشيعية.

وعندما بدأت «الانتفاضة» ضد الرئيس السوري بشار الأسد عام 2011، بدأ التنظيم في محاربة نظامه العلوي أيضاً، وأعلن الخلافة في المنطقة التي يسيطر عليها. يقول دانيال بيمان خبير الإرهاب في جامعة «جورج تاون» ومعهد «بروكينغز»: «ركّز داعش أولاً على مسرح عملياته المباشر لما يزيد عن عقدٍ».

لن يكون هذا التركيز منطقيّاً وفقاً لمنطق روبيو، إذا كان ما يحرّك «داعش» فيتمثل بكراهية الديمقراطية الليبرالية، فلماذا قضى سنوات في محاربة الأنظمة السلطوية في سورية والعراق؟ ولماذا أسقط ـ كما يزعم ـ الطائرة الروسية الشهر الماضي؟ فروسيا في عهد فلاديمير بوتين لا تشتهر بالتزامها بالديمقراطية الليبرالية على أيّ حال.

الإجابة الواضحة أنّ «داعش» يحارب أولئك الذين يسدّون طريقه نحو السلطة، سواء كانوا ديمقراطيات ليبرالية أم لا، إذ هاجم روسيا فلأنّ روسيا انضمّت إلى الحرب في سورية في صفّ الأسد، فـ«داعش» يرى الروسيين الآن أعداءه في أرض المعركة بالتأكيد، على رغم تركيز الكثير من ضربات موسكو الجوية على مجموعات أخرى من «المتمرّدين السوريين». وترى فرنسا عدوّتها أيضاً، فقد وسّعت فرنسا في أيلول من ضرباتها الجوية ضدّ «داعش» من العراق إلى سورية، وفي الأسبوع الماضي أعلنت عن إرسالها حاملة طائرات مقاتلة من أجل إطلاق غارات على المنظّمة من الخليج الفارسي. استشهد «داعش» تحديداً بمشاركة فرنسا في «الحملة الصليبية» على سورية في بيانه الذي يعلن فيه عن مسؤوليته عن هجمات باريس.

لا يحدّد «داعش» أعداءه فقط على الأساس العسكري، فقد أشار في بيانه إلى أولئك الذين «تجرأوا على سبّ نبيّنا»، في إشارةً إلى هجمات كانون الثاني الماضي التي أعلن فرع «القاعدة» في اليمن مسؤوليته عنها ضدّ مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية لنشرها رسوماً تسخر من النبي محمد. ولكن بقدر ما كان هجوم «شارلي إيبدو» بشعاً، إلا أنّه لم يكن كما يقول روبيو بدافع كراهية الديمقراطية الليبرالية في حدّ ذاتها، فلو كان الجهاديون يريدون مهاجمة التسامح وحرية التعبير فقط، لكانوا هاجموا أيّ جماعة أو مكتبة أو جريدة فرنسية، ولكن القاتلان سعيد وشريف كواشي، اختارا «شارلي إيبدو» لأنّ في نظرتهم المشوّهة إلى العالم السخرية من محمد تمثّل شكلاً من أشكال الحرب على الإسلام، فيقول شريف: «نحن ندافع عن الرسول».

إنّ تفسير هجمات «داعش» لا يعني تبريرها بأيّ طريقة، فلا يرى في الرسوم عدواناً حربياً سوى الشموليون، والنظر إلى هجمات يوم الجمعة باعتبارها ردّاً على السياسة الخارجية الفرنسية، في مقابل كونها ردّاً على الليبرالية الفرنسية، لا يجعل من السياسة الخارجية الفرنسية خاطئة. إذ إنّ اعتداءات «داعش» على الأقلية الإيزيدية بغرض التطهير العرقي في آب 2014 كانت هي ما دفع الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين إلى الدخول في حربٍ مع هذه الجماعة في المقام الأول. فتقييد سيطرة «داعش» الكابوسية على ملايين البشر ـ والقضاء عليه في النهاية ـ يبرّر الحرب من الناحية الأخلاقية والاستراتيجية.

ولكن الحرب العادلة ما زالت حرباً في النهاية، فالصراع مع «داعش»، على عكس ما يقوله روبيو، هو «جيوسياسي» تماماً، ويتعلّق تماماً بـ«القواعد العسكرية في الشرق الأوسط». النساء يقدن السيارات في كوستاريكا أيضاً، ولكن «داعش» لن يهاجمها على الأرجح، لأنّ كوستاريكا لا تنازع «داعش» في سيطرته على الشرق الأوسط. أمّا الولايات المتحدة وفرنسا فتتحدّيان تلك السيطرة، وسيظلّ «داعش» يحاول مهاجمتهما طالما ظلّا يتحدّيانه. والحرّيات الأميركية المحلّية، على رغم قيمتها الثمينة، لا علاقة لها بالأمر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى