حديث في الانتفاضة الفلسطينية الثالثة
رامز مصطفى
شكلت الانتفاضة الفلسطينية التي دخلت شهرها الثاني، حلقة في السلسلة الطويلة من السياق النضالي والكفاحي لشعبنا الفلسطيني منذ العام 1919. لكنّ ما يجعلها تشكل اليوم العلامة الفارقة، أنها أتت في لحظة سياسية تشهد فيها المنطقة، بدولها وأقطارها، تطورات وأحداث لم تشهدها منذ مئة عام، ما فرض حالة شبه كاملة من التخلي والتراجع في الاهتمام العربي والإسلامي بالموضوع الفلسطيني، لتتحوّل في سلم الأولويات إلى مرتبة متدنية.
ذاتها اللحظة هي ما شكلت بالنسبة للكيان الصهيوني، التي لن تتكرّر من إتاحة المجال أمامه ومستوطنيه وغلاتهم من أجل الذهاب عميقاً في فرض الوقائع الميدانية على الفلسطينيين، وتسريع الخطوات باتجاه تهويد مدينة القدس والسيطرة المطلقة زمانياً ومكانياً على المسجد الأقصى مقدمة لإشادة «الهيكل» المزعوم كهدف استراتيجي، وفق فلسفة لطالما يتم تردادها بأن «لا معنى لإسرائيل من دون أورشليم، ولا معنى لأورشليم من دون الهيكل»، مضافاً إلى ذلك استفحال الاستيطان، واتساع دائرة الاعتقالات والقتل، ولا سيما على يد ما تسمى بعصابة «تدفيع الثمن» الصهيونية، التي ارتكبت الاعتداءات على دور العبادة الإسلامية والمسيحية في مناطق مختلفة من الضفة الغربية، وممتلكات وأرزاق وأرواح الفلسطينيين، وحرق الفتى المقدسي محمد أبو خضير في أواخر حزيران 2014، وحرق عائلة الدوابشة في نابلس مثال صارخ على العقيدة الصهيونية المشبعة بالإجرام والمحارق والمجازر والعنصرية ضدّ الشعب الفلسطيني.
وبالتالي مثل القهر السياسي والأمني والاقتصادي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، وانغلاق الأفق أمام ما يسمى بـ«عملية السلام» والمفاوضات بين السلطة الفلسطينية و«إسرائيل»، فيما مثله من عوامل ضاغطة باتجاه أن يذهب الشباب الفلسطيني نحو تفجير كلّ ما يكابدونه من ألم ومعاناة وقهر في وجه الاحتلال والمستوطنين.
هذه الانتفاضة التي بدأت إرهاصاتها تتجلى منذ زمن في أعمال مقاومة فردية ومظاهرات قريتي بعلين ونعلين في مواجهة الجدار العازل، كانت تحول بينها وبين مواجهة الاحتلال على الدوام «اتفاقات أوسلو» بملحقاتها الأمنية «التنسيق الأمني». وكانت من الممكن أن تشكل عملية إحراق الشهيد محمد أبو خضير الشرارة التي بدأت نارها في هشيم الاحتلال وحكومة نتنياهو الذي سرعان ما ذهب إلى شنّ الحرب الثالثة على قطاع غزة، هرباً من الهبة الشعبية التي بدأت تتسع دائرتها. ورغم ذلك بقيت روح الانتفاضة حاضرة في نفوس الشباب وعزائمهم وبين أضلع إراداتهم في انتظار اللحظة، التي جاءت قبل شهر لتبدأ باكورتها مع الشهيد مهند حلبي ابن الـ 19 ربيعاً، الذي نفذ عملية وسط مدينة القدس، وعملية مهند حلبي وما سبقها وما تلاها من عمليات الطعن التي تعيد إلى الأذهان أول عملية طعن نفذها مواطن فلسطيني ضدّ الصحافي الصهيوني آشر لازار في حي ماميلا بالقدس، احتجاجاً على قرار التقسيم في العام 1947. وأيضاً سليمان الحلبي ابن مدينة حلب الشهباء الذي قدم من أقاصي الشمال السوري إلى القدس ومن ثم إلى غزة وصولاً إلى القاهرة، حاملاً سكينه وقتل بها الجنرال الفرنسي كليبر قائد الحملة الفرنسية على مصر في العام 1800.
هبّة أم انتفاضة
بغضّ النظر عن توصيف ما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة من مواجهات واشتباك مع قوات الاحتلال الصهيوني في القدس والضفة والأراضي المحتلة عام 1948 وقطاع غزة، من غير الحكمة بمكان أن تشكل نقطة خلافية أو تبايناً بين المكونات الفصائلية الفلسطينية، التي أطلقت معظمها اسم الانتفاضة، من خلفية أنها بدأت في القدس وهي اليوم تعمّ الضفة ونقاط اشتباك في القطاع، والسبب أنّ قوات الاحتلال تقف على تخوم القطاع لا في داخله، ومناطق فلسطين المحتلة عام 1948، بينما يرى البعض القليل فيها هبة شعبية لم تصل بعد إلى مستوى الانتفاضة، لأنها بحاجة إلى عناصر لم تؤمن بعد.
وهنا لا بدّ من التنبه إلى أنّ هذه الإشكالية لها محاذيرها في التوصيفين الهبّة أو الانتفاضة ، ففي الأولى أي الهبّة، المحظور يكمن بأن لا نعطي الاحتلال كسباً سياسياً أو إعلامياً ودعائياً، بمعنى لا يجوز أن نساعد حكومة نتنياهو في تسويق توصيفها بأنّ ما يجري هو حالة احتجاجية ليست ذات أهمية، وهي ذاهبة نحو الهدوء التدريجي وصولاً إلى خمودها وبالتالي نهايتها، وهي لا تشي بأي حال من الأحوال بذلك بل هي في تصاعد وإنْ ببطء وهذا يُعدّ من عوامل نجاحها لا إخفاقها. ليس من الحكمة تطمين الاحتلال بأنها هبة يجب تحقيق بعض المطالب أو التعهدات وتنتهي، وهذا ما يُعاكسه نتنياهو وحكومته، فمشهد اقتحامات المسجد الأقصى لا يزال على حاله، وسنّ القوانين العقابية ضدّ راشقي الحجارة، والإعدامات بحقّ الفلسطينيين مستمرة، واستخدام الرصاص الحيّ من قبل جنود الاحتلال في مواجهة المنتفضين متواصل، وعزل الأحياء العربية في القدس يجري على قدم وساق، والاستيطان وبناء الوحدات الاستيطانية في وتيرة متصاعدة. وبالتالي لا يجب أن نسمح للاحتلال بالنجاح في تسويق ذلك إعلامياً ودعائياً لتطمين حلفائه الدوليين بأنّ الأوضاع لا تدعو إلى القلق، والمسألة مسألة وقت وينتهي كلّ شيء. أصحاب هذا التوصيف لا ينطلقون من خلفية إعطاء الفرصة للمجتمع الدولي والدول النافذة، وتحديداً الإدارة الأميركية من أجل التحرك وإنقاذ العملية السياسية المتصلة بالمفاوضات بسبب السياسات «الإسرائيلية»، وبذلك هم لا يريدون إغلاق الأبواب أمام الجهود السياسية. أما فيما يتعلق في التوصيف الثاني أي الانتفاضة، فإنّ المحظور يكمن في عدم شموليتها واتساعها وانخراط جميع القوى والفصائل وبشكل أساسي حركة فتح ذات الثقل الرئيسي في الضفة والقدس ، وفق استراتيجية وطنية تحدّد هيئاتها ولجانها الوطنية الميدانية، والأهداف والوسائل وفعالياتها اليومية، وهنا ليس بالضرورة أن تشمل كلّ المخيمات والمناطق دفعة واحدة، لأنّ من دون ذلك، وفي ظلّ مساعي الإدارة الأميركية والغرب وبعض دول الإقليم إلى إنهاء ما تشهده الأراضي الفلسطينية من أعمال انتفاضة، والخشية من نجاحها، وبذلك سيكون مصير الانتفاضة في مهب الريح، وهذا سيترك تداعيات خطيرة على الشارع الفلسطيني، ويعطي الاحتلال جرعة قوية في اتجاه المضي في برنامجه وفرض وقائعه الميدانية في التهويد والاستيطان.
ينطلق أصحاب هذا التوصيف من خلفية أنه آن الأوان لقلب الطاولة في وجه الاحتلال، وإنهاء العملية السياسية العقيمة والتي جاءت على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية الثابتة والمشروعة وفي مقدمتها حقّ العودة.
لذلك يجب أن تُوضع التسمية والتوصيف في ميزان الحسابات الوطنية الدقيقة، وإلاّ تتحول هذه الإشكالية إلى نقطة خلاف وسجال سياسي وإعلامي، وأن تبقى على راهنها، وأن تذهب الفصائل والنخب إلى الأساسيات بما يتعلق بالانتفاضة.
المحاذير والمعوقات
بعد مضي حوالى الشهرين على اندلاع الانتفاضة، يجب الحذر والتنبّه إلى ما يلي:
ـ عسكرة الانتفاضة التي هي بحدّ ذاتها فعل مقاوم، وإبقاء تحركاتها في إطارها الشعبي والجماهيري، وترك موضوع التوافق حول الأساليب والوسائل للفصائل، وهذا لا يعني إسقاط الكفاح الشعبي المسلح.
ـ التصعيد العسكري في قطاع غزة، حتى لا يُعطى نتنياهو وجنرالاته فرصة الهروب إلى حرب جديدة ضدّ القطاع، وإبقاء التحركات في إطار الإسناد من خلال التظاهرات والفعاليات الجماهيرية، وفق برنامج تحدّده القوى الوطنية والإسلامية في القطاع.
ـ القيام بفعاليات فصائلية خاصة، وإبقاء هذه الفعاليات في إطار الجهد الجماعي الموحّد للفصائل، تحت راية الفصائل والقوى الوطنية والإسلامية.
ـ استمرار السجالات السياسية والإعلامية في الساحة الفلسطينية، وتجميد كافة الخلافات الناجمة عن الانقسام، إذا لم يكن في المقدور إنهاؤه وهو المطلوب، وبالتالي الوقف الفوري لعمليات اعتقال الناشطين من مختلف الفصائل، تحت حجج وتهم لا تستند إلى مبررات أو مسوغات قانونية، وذلك لصالح إبقاء التناقض والصراع الأساسي مع العدو الصهيوني ومستوطنيه.
ـ تشكيل قيادة موحّدة للانتفاضة، أقله في المرحلة الراهنة، واقتصار الأمر على لجان متابعة محلية، وذلك لسببين: الأول أنه لا يجوز إعطاء الاحتلال عناوين تُسهل عليه توجيه ضربة إليها من خلال الاغتيالات أو الاعتقالات، والثاني طالما أنّ الانقسام لم ينته فقد تتحول القيادة الموحّدة منبراً جديداً للتراشق السياسي والإعلامي، ما ينعكس سلباً على الانتفاضة.
ـ إبقاء الانتفاضة في مناطق محدّدة، الأمر الذي يستوجب اتساع رقعة انتشارها لتشمل كافة المناطق، وإن تدريجياً، والعمل على وضع آليات تنظيمها.
ـ أن تلعب السلطة وأجهزتها دوراً محايداً بين شبان الانتفاضة وقوات الاحتلال، ووقف التنسيق الأمني مع الاحتلال من جهة، ومن جهة أخرى أن تلعب السلطة ومعها الفصائل دوراً في توفير الرافعات الوطنية للانتفاضة، من خلال احتضانها وشهدائها وجرحاها ومعتقليها.
ـ عدم إبقاء سلاح المقاطعة الفلسطينية مقتصراً على المنتجات الصهيونية المستوردة من المستوطنات، بل لكلّ السلع والمنتجات الصهيونية القادمة من داخل الكيان إلى مناطق السلطة.