مختصر مفيد
مختصر مفيد
حروب كبرى تعصف بالعالم منذ عام 2000، وفي الخلفية حدثان موجّهان: واحد يتصل بإثبات نهج المقاومة الشعبية فعاليته وقدرته وأهليته على تحقيق النصر، بعد نجاح المقاومة اللبنانية بتحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال من دون مفاوضات ومن دون قيد أو شرط. وما اختزنه هذا النصر من تغيير منهجي في الحياة السياسية الدولية، بما هو أعمق من انتصار الثورة الفييتنامية التي أطلقت مدّاً شعبياً ثورياً مزلزلاً، فالمقاومة تتمّ في بلد ضعيف صغير ممزق وبجزء من شعبه، وتواجه القوة الأعظم في الشرق الأوسط وواحدة من القوى والجيوش والدول الصانعة للسياسة في العالم، بقوة اللوبيات الفاعلة والمؤثرة وهي «إسرائيل»، والنتيجة فتح باب جديد لن تتوقف تداعياته عند صناعة تغيير جيو ـ استراتيجي في الشرق الأوسط، يغيّر مناطق القوة وتوزّعها بين الأنظمة والحكومات والدول من جهة وشعوبها من جهة أخرى، وبين الأجنبي بكل ما ترمز إليه معاني معارك الاستقلال من جهة ثانية، وفي ما بين دول المنطقة المنقسمة بين محورين متقابلين هما محور «الاعتدال» كما كانوا يسمّونه ومحور المقاومة والممانعة كما لا يزال يسمى، من جهة ثالثة، سيخرج أحدهما منتصراً بحصيلة النصر والآخر مهزوماً بخلفية الهزيمة، كل بحسب الضفة التي كان يقف عليها، في تلك الحرب التي كانت تضع أوزار حملتها الأولى، لتفتح العصر الجديد مع الخامس والعشرين من أيار عام 2000، عصر سمّاه قائد المقاومة «زمن الانتصارات».
سيبقى هذا الحدث موجهاً للحروب اللاحقة، من غزو أفغانستان إلى احتلال العراق، والعدوان على لبنان في حرب تموز 2006، إلى حربَيْ غزة، وصولاً إلى الربيع العربي وتفاهمات الغرب مع حكام الخليج وتركيا و«إسرائيل» والأخوان المسلمين، لمصادرة أي نهضة أو صحوة شعبية عربية، وتسييلها في خانة التدجين والترويض، والأهم كان في الحلقات المتساسلة تحت إيقاع هذا المسار المتمادي، السعي إلى إسقاط قلعة المقاومة ورابط خزانها الإيراني بشريانها اللبناني عبر الحرب على سورية، وليس بعيداً عن هذا المسار أبداً قراءة التغيير النوعي في الموازين الذي يراد تحقيقه عبر ما يجري في العراق، فكل شيء محكوم بالسعي إلى تغيير المعادلة المستعصية التي أنتجتها وجذرتها ثقافة المقاومة وانتصاراتها، والمحاولة المستميتة بالمقابل لإعادة إنتاج معادلة ما قبل تحرير الجنوب.
على الضفة المقابلة كان نظام عالمي قد سقط بنهاية الحرب الباردة، ونظام مقابل لم يستطع أن يولد من حرب يوغوسلافيا، سقطت الثنائية القطبية ولم تولد أحادية القطبية، والحروب يجب أن تحسمها، فكانت أحداث الحادي عشر من ايلول عام 2001 بوابتها وذريعتها، والخلفية ليست مجردة نزوة تسلط وتحكم وميل لاستعباد الشعوب والتسلط على مواردها، فقد صدر عام 2000 تقرير الطاقة الأميركي عن الكونغرس بمجلسيه، ومثله صدرت وثيقة زعامة القرن الحادي والعشرين لعشرات نخب السياسة والاستراتيجيات في أميركا، وفي أكثر من ألف صفحة أجمعت الوثيقتان على رسم صورة قاتمة لمستقبل الرفاه الأميركي، ومعه مستقبل الاقتصاد وربطهما بمستقبل السيطرة الأميركية على موارد الطاقة العالمية، خصوصاً النفط والغاز، ويحدّد التقريران الجغرافيا التي سيتقرّر فيها هذا المستقبل، ويولد منها بالتالي نمط النظام العالمي الجديد بما يسميانه حوض قزوين الذي يمتد من كازاخستان وخط النفط والغاز منها إلى تركيا وصولاً إلى أوروبا، وإيران وصولاً إلى الخليج وهرمز، وخصوصاً العراق، وانتهاء بأفغانستان كقاطع جغرافي لخطوط النفط والغاز الروسية نحو الهند والصين وبوابة لخطوط معاكسة من كازاخستان لكليهما، وفي العراق الإحتياط الأعظم في العالم، ومن هرمز الذي تحرسه إيران يعبر كل يوم عشرون مليون برميل من النفط تشكل تقريباً نصف السوق العالمية وربع استهلاك العالم اليومي للنفط.
هكذا كانت حرب أفغانستان و كانت حرب العراق، ولذلك كانت الصلة بين حرب تموز 2006 ومد خط نفط وغاز من نقطة وصول خط كازاخستان خط نابوكو في تركيا عند مرفأ جيهان التركي وصولاً إلى حيفا فأشدود وعسقلان، لتأمين بديل عبر البحر الأحمر لنفط الهند والصين إذا ما أغلق مضيق هرمز في مواجهة ما مع إيران، ولذلك كانت حروب «إسرائيل» على غزة ولبنان مشفوعة أيضاً بخريطة تقاسم موادر لبنان وفلسطين البحرية من النفط والغاز، وكانت لحرب سورية فوق كل أبعادها، أبعاد تتصل بحروب النفط والغاز لعلها الأهم والأخطر، فمن يفز بسورية تمر أنابيبه لتفوز بالسيطرة على أسواق العالم. سورية في الحلف مع سورية وإيران وانسحاب اميركي من العراق وأفغانستان، يعني أن أنابيب تربط إيران والعراق نحو الصين والهند مروراً بأفغانستان ستبصر النور، ومثلها أنابيب نحو البحر المتوسط عبر سورية ستصير أمراً واقعاً، ومقابلها خطوط تعبر تركيا أو قزوين فإيران والعراق نحو سورية من روسيا وصولاً إلى البحر الأحمر، ومقابلها خطوط روسية إلى الصين والهند، وإن فاز الحلف الأميركي الأوروبي التركي القطري السعودي «الإسرائيلي»، فمعادلات أنابيب أخرى ستنتصر، أنابيب قطر للغاز والسعودية للنفط ستعبر سورية وتركيا نحو أوروبا، وأنابيب كازاخستان عبر سورية فالأردن إلى البحر الأحمر، وفي حرب العراق اليوم بعد نفطي إضافي لمكانة الجغرافيا العراقية في تعويض الفشل في اقتطاع الجبنة السورية، لمكانة محافظات الوسط العراقي التي تحتلها داعش في قطع الصلة بين البحر المتوسط ونفط وغاز إيران من جهة، ونفط البصرة العراقي من جهة اخرى، ومقابلهما تمكين «إسرائيل» وكردستان من تحقيق استراتيجية نفطية نوعية بإعادة تشغيل خط كركوك حيفا.
من يقرأ توازنات حروب المقاومة ومعادلات حروب الطاقة، يملك مفاتيح فهم ما جرى وما سيجري، إذا تيسرت له قدرة الربط والضم والفرز وتفكيك السياقات وتركيبها على مروحة الزمن، بين تطابق استحقاقات الحربين ومعادلات التقدم والتراجع بين المتحاربين.