أزمة أوكرانيا… موسكو تتقدم وواشنطن تتراجع

بالنسبة إلى واشنطن، العراق همّ أمني إقليمي. أوكرانيا همّ استراتيجي أوروبي. الانشغال الطاغي بالأول، لا يلغي الاهتمام الأميركي بالثاني. لذا وجد الرئيس الأميركي باراك أوباما الاثنين الماضي الوقت الكافي للاتصال بنظيره الروسي فلاديمير بوتين «لدعوته إلى التعاون مع الرئيس الأوكراني بترو بوروشنكو، بغية نزع فتيل الأزمة».

الدعوة في جوهرها ليست أقل من تسليم غير مباشر بأجندة بوتين، الموجودة خطوطها الرئيسية ولو بصورة ملتوية، في خطة بوروشنكو التي عرضها الأسبوع الماضي.

وكان هذا الأخير تقدّم بمشروع من 15 نقطة، تتمحور حول ثلاث نقاط رئيسية: وقف إطلاق النار لمهلة محددة تنتهي في 27 الجاري أمس ، تفاوض مباشر مع الانفصاليين في شرق البلاد ومنح منطقة هؤلاء المزيد من الحكم الذاتي.

الأول يشكل المدخل للمطلبين الأساسيين لموسكو، الثاني والثالث. وهو شكلي على رغم ربطه بمدة أسبوع وبشرط إلقاء الانفصاليين لسلاحهم. موسكو سارعت وأفرغته من شروطه، من خلال مطالبة بوتين بأمرين: تمديد المهلة. والأوروبيون متفهمون للتمديد. الرئيس السويسري الذي يترأس حالياً منظمة الأمن والتعاون الأوروبي أعرب صراحة عن تأييده لاستمرار وقف النار «لفترة أطول كي نتمكّن من البدء في حوار حقيقي» وواشنطن لم يصدر عنها اعتراض.

الأمر الثاني، «نزع سلاح المسعورين في عدائهم لروسيا كي تستقيم المطالبة بنزع سلاح الانفصاليين»، على ما قال. بذلك عمل بوتين على قولبة وقف النار وفق ما يخدم أجندته. أو على الأقل نقله من باب الشرط المسبق إلى بند يناقش في المفاوضات.

أما النقطة الثانية، أي التفاوض المباشر الذي عقدت أولى جلساته، فقد جاء ليلبي أحد المطالب أو بالأحرى الشروط الرئيسية التي وضعتها موسكو منذ البداية. ولو أنها أجريت وسط جوّ مشحون ووقف إطلاق نار هش تخللته خروقات من الجانبين. وبذلك انتزعت موسكو من كييف اعترافها بوجود نزاع مع فريق أوكراني آخر يرفع مطالب استقلالية.

اعتراف يؤسس لحكم ذاتي يتمتع بقدرة اعتراضية روسية ضمناً على السياسات والقرارات العليا للدولة. خصوصاً الخارجية منها المتعلقة بالعلاقات مع أوروبا. وبالأخص مع حلف شمال الأطلسي «الناتو» الذي تخشى موسكو احتمال دخول أوكرانيا في عضويته والذي بات في حكم غير الوارد، بإقرار حتى الصقور الأميركيين. فهذا أمر صار خارج البحث إلى حين.

الحكم الذاتي شبه المستقل هو بيت القصيد من مجمل التحركات الروسية منذ ضمّ القرم. فهو يعطّل أي توجه من هذا النوع تزمع كييف القيام به. وقد بات دخول أوكرانيا الحلف متعذراً أصلاً، لأن هناك مناطق منها يدور حولها نزاع القرم. وبحسب ميثاق «الناتو» لا يصح قبولها في مثل هذه الحال.

على أرضية هذا التوجه، قام بوتين بخطوات ومناورات عدة تساعد في تسهيل بنود أجندته. طلب من مجلس الدوما إلغاء القانون الصادر في آذار الماضي والذي يخوله غزو أوكرانيا لو لزم الأمر. بدا من خلال طلبه أنه جاد في مسألة الحوار والتوصل إلى حلّ سياسي في أوكرانيا. طبعاً طالما يحفظ له الكفة الراجحة في الصيغة العتيدة.

وهو في موقع يخوله تحقيق مثل هذا الترجيح. كذلك وافق وشجّع الانفصاليين على التفاوض الهادف، بعد أن كان قبل أيام يقول إنه لا مونة له عليهم.

بهذه الصورة ضمن ترحيباً ولو صامتاً من جانب الاتحاد الأوروبي الذي لا يبدو أنه في وارد فرض عقوبات إضافية خلال اجتماعه يوم الجمعة في بروكسيل. أبعد ما ذهب إليه الاتحاد هو من استيراد بضائع روسية مصنّعة في القرم، لا أكثر.

وكذلك واشنطن لا تبدو أنها متحمسة لعقوبات جديدة الآن، جلّ ما تسعى إليه، في ضوء الواقع كما في ضوء أولوياتها الراهنة، هو تقليل خسائرها من خلال ضبط مكاسب بوتين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى