هل لبنان فعلاً… دولة مستقلة؟!
د. سلوى الخليل الأمين
لبنان حالياً دولة بلا رأس، والاستقلال يأتي هذا العام مريضاً بصفائح خريفية مهترئة، مع العلم أنّ تاريخ 22 تشرين الثاني مكتوب في أجنداتنا تحت مسمّى: عيد الاستقلال، وللعيد دائماً بهجته وأفراحه، لكن عيد بأية حال عدت يا عيد، كما قال الشاعر منذ مئات السنين، حيث للأسف، ما زال لبنان مرتهناً للغريب، بمعنى أنه لا يملك حقه في الاستقلال الناجز، أيّ باستقلال قراره، لأنّ رجالات السياسة فيه توزعوا بين شرق وغرب واتجاهات مختلفة، تحرّك مساراتهم، وترسم جغرافية أفكارهم وتحركاتهم وتطلعاتهم وحتى مناكفاتهم التي تأمرهم بالامتثال إلى مضامين التعليمات المقبلة من خلف الحدود، التي تستفزّ فئات الشعب اللبناني الوطني الحرّ والمستقل.
ما يجب تسليط الضوء عليه، ونحن نمرّ بمناسبة الاستقلال المؤلمة والحزينة، هو أنّ هذا الوطن ما زال مستعمراً ومكبّلاً لا يملك إرادته وحق شعبه في ممارسة الحرية باتخاذ القرارات الوطنية التي تحدّد المسار والمصير ومنها الحفاظ على السيادة من المعتدين والمتسلطين والخونة والفاسدين، إضافة إلى حق الجميع في الاحتفال بالاستقلال حتى لو كان لكلّ طريقته في التعبير وأسلوبه في إظهار البهجة التي ارتسمت في أذهان الجيل الجديد من خلال كتاب التاريخ الذي لتاريخه لم يتمّ التوافق على إصداره بصيغة موحدة، خصوصاً أنّ للاستقلال عند شعوب العالم قاطبة المكانة الأرفع والأبهى لأنها ذكرى لا تسقط مع مرور الزمن مهما حاول المغرضون الذين ما زالوا يفكرّون في من سيكون رئيساً للجمهورية اللبنانية التي نالت الاستقلال في العام 1943.
لقد أصبحت عبارة الاستقلال في هذا الزمن المزنّر بالغضب والتلوّث، مضموناً بلا معنى، بحيث لا لون لها، ولا خطوط تصونها، ولا ضمائر تحدّد معاييرها وأبعاد مساراتها الآمنة، حين الكلّ تنازل باختياره عن الاستقلال والسيادة، حين سلّم الوطن بعد حرب أهلية إلى زعماء الميليشيات، الذين عاثوا في الأرض فساداً ما زال مستشرياً حتى يومنا هذا، وعلى ازدياد، مغلّفاً بصراعات وانقسامات واتهامات، وفتن دينية مذهبية وحزبية ضيقة، شعارها الفوضى والاضطراب المستمرّ، المتسربل برداء الوطنية المزيفة، التي تجعل مصالحهم هي الهدف المرتجى، بحيث بات قبول الوصايات أمراً واقعاً، لا يخجل منه إلا كلّ حرّ مؤمن باستمرار النضال… من أجل رسم الاستقلال الحقيقي للبنان.
ما لفتني في ذكرى يوم الاستقلال وأنا أشاهد التلفزيون، تلك التظاهرات الشبابية والحزبية التي تحمل الأعلام اللبنانية واليافطات المندّدة بمن سلب لبنان استقلاله التام، تابعت تعليقات مندوبات المحطات التلفزيونية المختلفة، وإذ بصوت يأتيني من ابنتي الصغيرة «كنده» المتخرّجة منذ عامين من الجامعة اللبنانية الأميركية LAU ، وهي خريجة «كوليج لويز فكمان» أيضاً، بمعنى أنها نالت العلم من أرفع وأقوى المدارس والجامعات التي جعلتها متمكّنة من اللغات الثلاث الإنكليزية والفرنسية والعربية باتقان تامّ، ولتاريخه لم تجد وظيفة لأنها غير مدعومة سياسياً، لا من زعيم مذهبها ولا من أيّ جهة أخرى، وتؤمن إيماناً مطلقاً بوطنها واستقلاله، تقدّس حرية التعبير كمواطنة لها ملء الحق بأن تبقى في وطنها من أجل خدمته انطلاقاً من قدراتها وكفاءاتها التي تملكها علماً وأخلاقاً وتربية نالتها من عائلة كريمة، لقد استفزّت كنده مشاعري بسؤالها المضطرب والقلق والمحق بقولها: ماما أنا لست حزبية، ومع هذا أنا أؤمن بلبنانيتي وعروبتي وبانتمائي للبنان الوطن الحرّ المستقلّ كما تعلمنا في الكتب، لكن كيف لنا ترجمة هذا الاستقلال حين أبناء جيلنا أيّ جيل المستقبل المستقلّ، لا مكان لهم في أجندة المسؤولين السياسيين في بلدنا؟ وكيف يطالب هؤلاء الشبان والشابات ببناء الوطن والتغيير إلى الأفضل، ومعظمهم ينتمون إلى الأحزاب وتشيكلاتها المتنوعة؟ ثم ماذا تعني هذه اليافطات التي يرفعونها؟ وتلك الشعارات التي لا تمثل أهدافهم الحزبية؟ أليس من الأفضل التظاهر أمام قصور رؤسائهم قبل احتلال الساحات والشوارع لمطالبتهم بإصلاح الوطن؟! ثم كيف لرجالات السياسة في لبنان أن ينقذوا لبنان من أزمته وهم لا يملكون القدرة على انتخاب رئيس للجمهورية، وكلّ ما يفعلونه التمديد ثم التمديد ثم التمديد لسلطاتهم وفسادهم وفساد أعوانهم؟! ثم لماذا يحق لابن الزعيم الفلاني» اعتذر عن ذكر اسمه» وهو زميلي في الجامعة ومن عمري أن يتخرّج والمال الوفير في جعبته من مال الناس المعتّرين ومن سرقة أموال الدولة، وأبي الذي خدم الدولة بوفاء وإخلاص لا يملك سوى ما ورثه من أراض من أبيه، إضافة إلى راتبه التقاعدي الذي لا يكفيه حتى آخر الشهر؟ أنا يا ماما نزلت إلى التظاهرات في بيروت انتفاضاً على هذه السطة الحاكمة، ولست تابعة لأحد سوى إلى وطني لبنان، كنت متفائلة بصرخة الناس كلّ الناس، وقلت حان الخلاص ويمكن أن نتوصل إلى بناء وطن حقيقي، والاتفاق على محاربة عدونا الدائم «إسرائيل»، الذي ربيتمونا على مقاومته، لكن للأسف استطاعوا تنفيس الانتفاضة الشبابية عبر إرسال مرتزقتهم من أجل إفشال الحراك الذي بسحر ساحر تحوّل إلى حراك وطني لا تشوبه شائبة وهذا ما أغاظهم لأنّ سياستهم قائمة على شعار: «فرّق تسد» الاستعماري، كم كنت أتمنى لو نزل معنا أولاد المسؤولين زملاءنا في المدارس والجامعات منتفضين، ربما كنا نجونا من خراطيم المياه وكنا نجحنا في الوصول إلى ما نطمح إليه؟ ثم لماذا عليّ أن أقف مستجدية الوظيفة من الزعيم السياسي الذي أنتمي مذهبياً إليه، وأنا أؤمن بدستور بلادي الذي يعطيني الحق كمواطنة بأن أكون عنصراً مسؤولاً في بناء الوطن؟ لا أريد وظيفة من أيّ مسؤول سياسي دمّر استقلال وطني، ويحاول حالياً شطبه من لوائح يومياتنا، بدفعنا إلى تركه والهجرة إلى أوطان أخرى نحمل هويتها ونخدمها وننجح على أرضها والغصة في القلب كما يحدث مع أخي الدكتور العالم المتفوّق في أميركا؟! وأكملت كنده صغيرة البيت التي لم انتبه يوماً إلى تطلعاتها وأفكارها الكلام بغصة آلمتني: ماما وعدي لك، أنني لن أهاجر وسأبقى قربكم في الوطن، ما دمتم أنت ووالدي رمزاً للعطاء وللكرامة والتمسك بلبنانيتكم، عبر تطوّعكم الدائم للخدمة العامة دون دعم أو منة من أحد… أنتما النموذج والمثال لي، ومثلكم كثر في هذا الوطن الذي اختزله هؤلاء الحكام بشخصياتهم الديكتاتورية.
أقول ما أقوله ليس فخراً بابنة حفظت التربية الوطنية والأخلاقية في شكلها والمضمون، مع أنّ كلامها المتحشرج المغلّف بالغضب أبكاني وجعلني انتبه إلى تطلعات شابة من وطني لبنان، تعاني كما زميلاتها وزملائها من الظلم والقهر الذي يمارسه المسؤولون في الوطن، ولأقول: افسحوا المجال لهذه الأجيال ولهؤلاء الشباب والشابات كي يصنعوا من جديد الاستقلال الحقيقي لوطنهم لبنان، قبل أن نخسرهم كطاقات نالت المستوى التعليمي العالي الجيّد، وتملك القدرات الهائلة كي تعطي وطنها بلا منة وتزلف أو ارتهان.
أيها الساسة العظام في وطني لبنان، انظروا إلى المستقبل وإلى التاريخ الذي سيلعنكم كما تلعنكم صرخات هؤلاء الشباب والشابات سراً وعلانية، واحرصوا على ألا تستفيقوا يوماً لتجدوا أنفسكم في وطن بلا شعب شبابي يحسن البناء والعطاء، فالمحيطون بكم من جماعة النفعيّين والمتزلفين هم رأس الفساد المالي والإداري، لأنّ حمايتكم لهم مكّنتهم من سرقة مقدرات الوطن، من مال الضمان الاجتماعي إلى أملاك الدولة البحرية إلى مستحقات رواتب الموظفين إلى أموال الوزارات الخ… الذي نتج عنه مسح الطبقة الوسطى من الوجود، التي هي العماد الأساس للمجتمع الاستهلاكي، والركيزة الأساس للبنان الوطن المزدهر والمشعّ في ما مضى.
لقد باتت الأمور مكشوفة في نهب مالية الدولة، وكذلك تعبئة الخزائن الخاصة! فمن أين لهذه الفئة من الناس ما هي عليه من بهرجة وثراء ودور وقصور وناطحات سحاب وشركات ومشاريع تجارية وصناعية وغيرها، مما ورد عنه ملفات وملفات في إحدى الصحف اللبنانية، وعلى إحدى شاشات التلفزة اللبنانية، أضف إلى كلّ هذا أنّ هذا البلد صغير الحجم والمساحة، والكلّ يعرف الكلّ حسباً ونسباً وغنى وفقراً، فبالله عليكم من أين لكم ما أنتم عليه؟ وهل باستطاعتكم لو كنتم أبرياء أن تضعوا قانون الإثراء غير المشروع برسم العدالة بهدف المحاسبة: من أين لك هذا؟ علناً وأمام الناس أجمعين؟؟
ثم هل الإسراف في البذخ والترف والغرف من محاصيل الدولة هو معيار حربكم ونضالكم من أجل استقلال الوطن وسيادته؟؟ علما انّ في المحطة الأخرى في هذا الوطن، هناك إناس يدفعون الدم ضريبة استشهاد من أجل الحفاظ على سيادة الوطن واستقلاله، ومنهم قائد لا يملك سوى عمامته وعباءته التي تتسع لتغطي كلّ الطاهرين المجاهدين والشرفاء من أبناء هذا الوطن، الذي أصبحت فيه القيم والمبادئ تشترى بالمال، وحتى العدالة أصبحت في خانة تعيين الأنسباء والأقارب والمقرّبين في وظائف الدولة والمناصب العليا، دون التطلع إلى الكفاءة والمؤهلات الضرورية التي تلحظها، ليست فقط الشهادة العليا والتخصص الجامعي، وإنما حسن الأخلاق والسلوك المرتبط باللياقة واحترام القوانين التي يجب أن تكون فوق الجميع.
رئيسة ديوان أهل القلم