اللغة تحاصر الذات وتوسّع مجال هيمنتها ويعود الإنسان مثلما كان مجرّد كائن بين الكائنات
جورج كعدي
تؤكّد الصفحات الأخيرة من كتاب ميشال فوكو «الكلمات والأشياء» ما ظلّ يتردّد ضمناً وصراحة في جميع فصوله تقريباً: إنّ هذا الإنسان الذي لم يكن موجوداً حتى نهاية القرن الثامن عشر، والذي احتلّ فجأة موقع الصدارة في القرن التاسع عشر إثر تحوّل طرأ على نسق المعرفة، بات الآن على وشك الاختفاء تماماً. إنها حقّاً مفارقة غريبة تلك التي يحاول فوكو إثبات بداهتها، فمن العصر الكلاسيكيّ إلى فترة الحداثة كأنّنا ننتقل من مرحلة لم يكن الإنسان موجوداً فيها، إلى مرحلة أخرى أضحى فيها قاب قوسين أو أدنى من الاختفاء!
لكنّ حدّة هذه المفارقة قد تتضاءل لو تذكّرنا ما سبق أن أكّده فوكو قبلاً من أنّ الإنسان ليس أقدم معضلة طرحت على المعرفة البشريّة، ولا الموضوع الخالد الذي ظلّ يشغل بالها باستمرار، فحدث ظهوره في المجال المعرفيّ الحديث ليس ناتجاً من تقدّم حصل في الوعي المعرفيّ، أو من تحرّر الفكر من أوهام لازمته أزماناً طويلة بحيث تمكّن في النهاية من أن يُخضع للدراسة الموضوعية ما ظلّ قروناً عديدة في ميدان الفلسفة والمعتقدات محوطاً بالعتمة والغموض. كذلك لم تظهر فكرة دراسة الإنسان علميّاً بفضل الاهتمام الأخلاقيّ به، بل على العكس، المواضيع الأخلاقيّة ذاتها ومواضيع النزعة الإنسانيّة هي التي ظهرت نتيجة جعل الكائن البشريّ موضوعاً للمعرفة.
كشفت «أركيولوجيا» فوكو إذن أنّ الإنسان ابتكار حديث العهد تحقّق ظهوره إثر تحوّل مفاجئ حصل في الأجهزة الأساسيّة للمعرفة في القرن التاسع عشر، وأنّه ليس أكثر من مفهوم من المفاهيم الموقّتة والعائمة، ووجه أو بالأحرى قناع ثقافيّ كان صالحاً للاستعمال فحسب في الفترة التي استدعاه فيها النسق المعرفيّ. وبعدما انقضت فترة الترقية إلى الوجود الإبستمولوجيّ حان وقت تمزيق القناع وتلاشي قسماته ومعالمه، ليعود الإنسان مثلما كان، مجرّد كائن بين الكائنات.
يقرأ فوكو في أفق الثقافة المعاصرة علامات وبشائر تسمح باستكشاف السمات لعهد إبستمولوجيّ جديد ربما لم تتميّز فيه بعد بما يكفي، لكنها ترتسم بالتدريج على راهن تلك الثقافة وقد تهيمن على مستقبلها أيضاً. ولعلّ أولى تلك السمات بداية الاستغناء عن الإنسان في المعرفة والتفكير. أمّا العلامات المقصودة فتتجلّى في الاهتمام الكبير الذي أضحت الثقافة المعاصرة توليه للغة وللاشعور في أحواله وتجلّياته. أضحت اللغة تحاصر الذات من جميع الجهات. تلك الذات التي احتلّت إلى الأمس القريب موقع الصدارة ومركز العالم، أضحت اللغة تقول الحقيقة عنها. تلوح في أفق الإمكانات القصوى للغة النهاية الوشيكة للإنسان الذي بعدما حاول كلّ كلام ممكن واستنفد كلّ إمكان للكلام لم يزدد إلاّ اقتناعاً بأنّه أسير للغة ومغمور بها حتى قبل أن ينبس ببنت شفة. ولم يصل إلى أعماق ذاته ولا إلى صميم نفسه مثلما كان يأمل، بل أشرف في النهاية على حافّة ما يحدّده، أي على تلك المنطقة التي يحوم حولها الموت وتخمد فيها جذوة الفكر.
فضلاً عن اتّساع مجال هيمنة اللغة وبروز كينونتها، بل ربمّا بفضل ذلك، تبلور في الثقافة المعاصرة ضرب جديد من التفكير، بعيد عن الديكارتيّة، وحتّى عن الكانطيّة، يطرح ربما للمرة الأولى، بحسب فوكو، معضلة وجود الإنسان من زاوية اهتمام الفكر بسبر أعماق اللامفكّر فيه، والإنصات إلى همساته، وكشف الحجاب عن بعض أحواله. أصبح الفكر يدرك أنّ موضوعه الرئيسيّ هو اللاشعور أو اللامفكّر فيه الذي يشرطه ويحدّده. يقول فوكو: «إنّ ما أصبح يخترق الفكر الحديث كلّه هو قانون التفكير في اللامفكّر فيه».
رغم أن علوم الإنسان ارتبطت دوماً بالسياسة والأخلاق، فإنّ الفكر المعاصر أمسى عاجزاً عن اقتراح أخلاق. بالنسبة إلى هذا الفكر «لم تعد ثمّة أخلاق ممكنة»، إذ بات يتقدّم أساساً في اتجاه التعرّف أكثر ما يمكن إلى ذاك «الآخر» الذي يسكنه ويحرّكه. إن توضيح اللاشعور أو اللامفكر فيه وإنارته، أي تلك القوى الخفيّة أو الهزيع الحالك من الليل الذي يغمرنا ونتحرّك داخله، هو ما يعبّر اليوم عن شكل الأخلاق ومضمونها في الفكر الحديث.
حيال هذا البروز الكبير لكينونة اللغة، وتلك الهيمنة المطلقة للاشعور في الفكر الحديث، يتساءل فوكو بنوع من السخرية: هل لا يزال هناك مجال ممكن لمواصلة الخطاب عن الإنسان؟ إنه ينظر الآن بعين الشفقة والتهكّم إلى جميع أولئك الذين لم يقتنعوا بعد بضرورة التخلّي عن مسلّمات خطاب النزعة الإنسانيّة، أولئك الذين يتّخذون من الإنسان نقطة الانطلاق للوصول إلى الحقيقة أو يُرجعون إليه جميع الحقائق، ويواصلون بلا كلل أو ملل الحديث عن الإنسان وعن ملكوته وتحرّره، ولا يستطيعون التفكير خارج أن الإنسان هو الذي يفكّر، ويأملون في إمكان تأسيس أخلاق وممارسات إنسانية جديدة، ويعتبرون الفكر نوعاً من الفعل السياسي الواعد بالتحرّر، ولا يزالون يؤمنون بأنّ لا حياد في الفلسفة، ولا وجود لفلسفة من دون اختيار سياسيّ، وبأنّ كل فكر هو إمّا «تقدّمي» أو «رجعيّ». يواجه فوكو بالتهكّم والضحك «الفلسفيّ» جميع تلك الأشكال الخرقاء والساذجة من الفكر، بل يمضي إلى حدّ نعت أصحابها بالغباء والسخافة إذ يستغرقون في سباتهم «الأنتروبولوجيّ» العميق الذي ليس إلاّ صيغة جديدة وبديلة للسبات الوثوقيّ الذي حاولت فلسفة كانط إيقاظنا منه. ولإيقاظ الفكر من هذا السبات وتذكيره بإمكاناته المحدودة ومهمّاته الأولى، لا بدّ من تكدير صفو راحة هؤلاء «الإنسانيّين» وتقويض دعائم الارتياح والتفاؤل التي استكانوا إليها. وليست هناك وسيلة أخرى لتحقيق ذلك سوى هدم أسس الخطاب الإنسانيّ.
بعد الإعلان عن قرب «نهاية الإنسان»، حان وقت إلغاء التاريخ! ويصحّ القول إنّ جميع خطوات فوكو في طريق التمهيد لإعلان قرب اختفاء الإنسان عبّرت عن إرادة واضحة وصريحة لإقصاء التاريخ. بدلاً من أن تكون الأركيولوجيا بحثاً في أحد ميادين التاريخ كما يدلّ إسمها، اقترحت نفسها بديلاً منه يقوم على أنقاضه ويسعى إلى تحريره من سائر القيود الأنتروبولوجيّة. ألم ينفِ فوكو أن تكون هناك أيّ لحظة أنتروبولوجية في سيرورة المعرفة وتاريخها؟ ألم يصرّ مراراً على التأكيد أن اهتمامه الأكبر موجّه أساساً إلى ظاهرة الانفصال والانقطاع، وأنّ الشكل الوحيد من التاريخ الذي يعتقد فيه هو ذاك الذي يتحرّر من كل ذات و«يفتح على زمانيّة لا تعد ببزوغ جديد لأيّ فجر»؟
لكن هل في الإمكان إلغاء التاريخ بقرار فلسفيّ؟
إنّه حقّاً سؤال محرج وشائك، وجواب فوكو عنه يائس: يمكن إلغاء التاريخ بالتأكيد، إنّما فحسب عن طريق عدم التفكير فيه وتجاهله، وإقصائه إن لم يكن ذلك ممكناً من الواقع، أو على الأقلّ من مجال المعرفة. فالنتيجة التي انتهى إليها فوكو على ضوء تحليله العلاقة بين النزعة الإنسانيّة والفكر التاريخيّ هي أنّهما «وجهان لنسق فكريّ واحد»، وأن محاولات إحياء الفكر التاريخيّ في الثقافة المعاصرة ليست سوى ردود فعل يائسة على ما أصاب الذات من اهتزاز وخلخلة بفعل اكتشافات العلوم البنيويّة… يتبع .