ثمة بعض الحقيقة حول تحرير فلسطين!
صادق النابلسي
سمعنا وما نزال نسمع أنّ تحرير فلسطين وطرد الصهاينة الغزاة منها يحتاج إلى وحدة عربية أو إلى وحدة إسلامية. والوحدة، عربية كانت أم إسلامية هي ما يطالب بها أنصار القومية العربية أو أنصار الأمة الإسلامية كمدخل لتحقيق هذا الهدف. وكلّ الأطروحات العقائدية، التي سادت في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وما زال بعضها قيد التداول إلى اليوم بأشكال ومعان متفاوتة، زعمت أنّ الوحدة شرط لا بدّ منه لكسب المعركة مع العدو.
ومثل هذا الزعم يلزمه بحسب النخب التي تساند هذه الإيديولوجيا أو تلك، ثورة عميقة في الأصول والمفاهيم، وإجراءات تطال كلّ شيء فينا نحن العرب والمسلمين لنمتلك قوة عسكرية لاقتلاع «إسرائيل» وإزالتها من الوجود، وما التأخّر في عملية استعادة فلسطين إلا لكون العرب والمسلمين فشلوا في بناء منظومة حضارية وحدوية، متماسكة التركيب، قادرة على فك طلاسم الشرذمة والتخلف والانحطاط والنزاعات والنزوات، وموصلة لناتج جديد تلمسه الأنامل وتراه الأعين. والنخب هذه تربط بين تدهور الأحوال الفكرية والثقافية والسياسية والواقع الحالي الذي ينطوي على قدر كبير من الخطورة والمأساوية، حتى كانت النتيجة، أمام سلسلة الصراعات الطائفية والمذهبية والعرقية التي تغرق بها شعوب المنطقة في اللحظة الراهنة، فقدان الإحساس بالهدف أو الحلم الجمعي المشترك الذي يُفترض أن تتجمّع حوله الشعوب العربية والإسلامية. في توصيف الماضي سنجد ما يلي: أمة عربية وأخرى إسلامية استشرى فيهما مختلف أشكال التمزق والانقسام وانعدام الوعي بالاتجاه والمصير. المناخ السياسي ترك بصماته القاسية تفسّخاً بين الدول والشعوب والطوائف والمذاهب والأحزاب. حروب أهلية وعرقية وطبقية وحدودية. فقر وتخلّف وأمّية ومجاعات. تبعية وارتهان وخضوع وولاءات لدول استعمارية. نخر داخلي ضرب القدرة على التحليل السليم والخيال الفعّال. عجز متواصل عن اكتشاف منطق التاريخ في الأحداث التي تقع. أما الحاضر فهو شبيه الماضي أو أشدّ منه ضراوة. وبدلاً من الاقتراب خطوات إلى الأمام على طريق الوحدة يمضي العرب والمسلمون بسرعة قياسية إلى الجنون في الحركة، وإلى الفتنة في السياسة، وإلى التكفير كشِرعة، وإلى الفِرَق كمنهاج، وإلى القتل كوسيلة، غير عابئين بما يحاوله الباطل، الذي أصبحت له جذور راسخة، من إطفاء نور العقل والسماحة والرحمة، أو تزوير الوقائع، أو تضليل الناس بالوهم والأكاذيب.
وبعد هذا كله وعند هذه النقطة من تاريخنا يجدر بنا أن نتساءل: ماذا حققنا من موجبات الوحدة وإلى أين نسير؟ وبأي زاد نريد أن نقطع الطريق نحو المقصد.
في الإجابة يمكن القول إنْ لا أحد ينكر أهمية الوحدة في امتزاج القوى بعضها ببعض للوصول بأيّ مجتمع وأمة نحو الكمال والقوة، ولا أحد يشكّ بمؤثريتها في مجرى التاريخ، لكن المطلوب تحديد المقصود من محتواها الذي لا يزال غامضاً غير محدّد وإنْ وضح لنا مجملها. فعلى سبيل المثال، الوحدة ليست تجميع طاقات وتكتل قوى فحسب، بل تجميعها وتوجيهها نحو هدف محدّد، فكم من الطاقات والقوى الهائلة أُهدرت وضاعت لأنها لم توّجه وتوظّف ولم تتحرك إلا في إطار قضايا محلية وقطرية ضيقة لا صلة لها بالأهداف الكبرى التي تصنع تاريخ الأمم وتصلها بموجبات النصر ومقتضيات المستقبل. وأعظم زيغنا، نحن العرب والمسلمين، أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ. هل نبدأ من الدين أم من الثقافة أم السياسة أم من شيء آخر؟ ونجهل المشكلة التي نحن قابعون فيها، فهل المشكلة في عقولنا أم نفوسنا أم سلوكنا؟ ونجهل الأسباب التي أوصلتنا إلى هذا الدرك الأسفل من جحيم الفرقة والخنوع والارتهان، فهل بيدنا أسباب وحدتنا وقوتنا وقرارنا أم لا؟ ونجهل الأعداء الذين صنعوا الفخاخ والأشراك لنقع فيها، فهل الآخر العدو هو أصل كلّ ما فينا من علل وضعف وهوان أم ماذا؟ وإذا كنّا أمام ضياع واضح يجعلنا عاجزين عن إدراك كلّ هذه الأزمات والمآزق والمشاكل بثورة شاملة تصحّح كلّ أفكارنا وتهذّب نفوسنا وتقوّم سلوكنا فهل نمضي هكذا حتى النهاية؟
وفي موضوعنا الذي نعالج هل سنبقى هكذا ننتظر حتى تبرأ آلامنا من الاستعمار والأميّة والجهل والفقر، وتنتهي انقساماتنا وصراعاتنا ومشاكلنا الكلامية والسياسية والايديولوجية وتتبدّل أنماط إنتاجنا وعلاقاتنا ومعارفنا وأنظمتنا وبعدها نعمل للتخلص من الغاصبين الصهاينة؟ أم لا بدّ من القيام بجهد ما للوصول إلى الهدف ولو لم تُنجز الوحدة من أساسها. فمَن قال إنّ الوحدة تسبق تحرير فلسطين وليس العكس؟ وإنّه ليجب بادئ الأمر أن تتكتل كلّ السواعد والعقول حتى تهدم العوامل القتالة وتزيل الأمراض الفتاكة كلها ثم يبدأ العمل على بناء شبكة الأفهام والأفكار والمشاعر وتعبئة الجهود العلمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبعدها تتأهّب الهمم لتحرير فلسطين! وكم سيستغرق هذا الأمر من الوقت، وقد قضينا ما شاء الله من السنين فلا وصلنا إلى الوحدة ولا تبدو علائم الوصول إليها قريبة! ولأحدنا هنا أن يسأل هل يمكن للشعوب العربية والإسلامية الانطلاق من هدف تحرير فلسطين قبل هدف تحقيق الوحدة، وأنّ تؤجل من أفق تفكيرها هدف الوحدة لأنّه يبدو طوباوياً بعيد المنال وتتوجه لتحرير فلسطين لأنّه أكثر واقعية وقريب المنال.
وإذا لم تستطع جميعها ذلك أفلا يستطيع بعضها أن يتحمّل هذه المسؤولية وينجز هذه المهمة؟ ثم هل من المنطق الانتظار على هذه الحال حتى إنضاج ظروف الوحدة والشعب الفلسطيني تُراق دماؤه كلّ يوم، وتُهدّد الدول العربية والإسلامية بأمنها وسلامها واستقرارها بآلة الفتنة الصهيونية، ثم لا يتحرك أحد لنجدة الفلسطينيين وردع العدوان بذريعة أنّ الأولوية هي لبناء عمارة الوحدة! أيكون معقولاً مثل هذا الكلام؟ فهل فقه الأولويات يجيز الكسل والنوم واللامبالاة بشأن ما يحصل في فلسطين لأنّ هناك مشكلة توحيد مناهج اللغة العربية في العالم العربي أو مشكلة توحيد الآذان والصلوات، أو التخلص من المذهبية في العالم الإسلامي أو غيرها من المشاكل والأزمات التي لا تنتهي! الشيء الوحيد الذي تغيّر منذ أن بدأت هذه الجمل الايديولوجية والدينية تطفو على سطح الجدل النظري وأوصلتنا إلى هذه النتيجة الخائبة، قيام المقاومة الإسلامية حزب الله بتوجيه ومساعدة مباشرة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية بإنجاز نوعي خلال صراعها مع المشروع «الإسرائيلي» وليس فقط الاحتلال الإسرائيلي لجزء من الأراضي اللبنانية، حين خلّصت الأمتين العربية والإسلامية من وهدتهما اللتين انحدرتا إليها من خلال فهم جديد لقضية وجود الكيان «الإسرائيلي» ودوره وحركته، وحين فصلت بين القشور والجوهر في قضايا العرب والمسلمين، وبين ما هو حقيقي وما هو سطحي، وبين المهامّ الأساسية الملحة وبين الرغائب الآجلة، وحين تحوّلت إلى فاعل مباشر في الصراع فتجاوزت بذلك شكوى عدم اجتماع الدول والتئام الشعوب، وقفزت خارج الالتباسات القومية والدينية والمصالح الحزبية والقطرية لتحدّد انتماءها وتضع المواجهة مع العدو «الإسرائيلي» في إطارها الصحيح. ولأنها ببساطة استطاعت أن ترتّب الأولويات بناء على التحدّيات الداهمة والمخاطر العاجلة وتبحث عن مصادر للأمل والثقة والتخيّل وابتكار الحلول لهذه القضية المستعصية، وهكذا امتلأت الجبهات مع العدو «الإسرائيلي» بالشباب المؤمن، الواعي، الواعد بعيداً عن الأضابير الايديولوجية المكرورة والشعارات الشعبوية والثورية المجانية. في الحقيقة إنّ من اشتغل من العرب والمسلمين في الإطار التنظيري غرق في الدراسات وتوّسع في الجدل أكثر مما يلزم، في وقت أحجم عن العمل أكثر مما يلزم، وجهل أو تجاهل القوانين الأساسية التي من خلالها يكون الوصول إلى الهدف.
هكذا ومنذ عشرات السنين نجد أنفسنا عرباً ومسلمين في حلقة مفرغة من قضية الاجتماع لتحرير فلسطين. ولقد كان سماحة السيد حسن نصر الله قاطعاً في هذه النقطة بالذات حين أشار في كلمة أمام الوفود المشاركة في «الملتقى العلمائي الدولي لدعم فلسطين» بأنْ لا إمكانية كي «نستقطب الأمة كلها إلى هذه المعركة». فماذا يعني هذا الكلام سوى الاعتماد على القلة القليلة المؤمنة بخيار تحرير فلسطين ومواصلة العمل ولو كانت الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية في المنطقة صعبة ومعقدة. ما قامت به المقاومة هي أنها تجنّبت تضييع الوقت والإسراف في الجهد ورفضت الاستسلام للانهزاميّين الذين وضعوا قضية تحرير فلسطين في خانة المستحيلات. لكن في العودة إلى الوراء قليلاً وتحديداً إلى كلمات سماحة السيد حسن نصر الله في بنت جبيل غداة انتصار المقاومة عام 2000 من كون إسرائيل «أوهن من بيت العنكبوت»، يتبيّن أنّ استعادة فلسطين ليست شيئاً مستحيلاً، ومقولته تلك ليست إلا تعبيراً عن القراءة الواقعية التي انطوت عليها تجربة حزب الله في صراعه مع العدو «الإسرائيلي» والتي أسفرت عن نتائج مذهلة جعلت الصحف العالمية تصدّر عناوينها بكلمات مثل: «دُحر الجيش الإسرائيلي»، و«حقق مقاتلو حزب الله الحلم المستحيل».
لقد نجح حزب الله بتحقيق كلّ هذه الإنجازات بعيداً عن وحدة عربية وحتى لم يكن بحاجة إلى إجماع وطني داخلي ومضى بمفرده ليواجه أعتى قوة بإرادة فولاذية وإيمان لا تهزه الجبال. وقد حدث ذلك أيضاً في حرب عام 1973 عندما اشتركت مصر وسورية بمفردهما بشنّ حرب على العدو «الإسرائيلي» حيث استطاعت القوات المصرية خلال الساعات والأيام الأولى من اختراق خط بارليف والتوغل 20 كم شرق قناة السويس، فيما تمكنت القوات السورية من الدخول إلى عمق هضبة الجولان وصولاً إلى سهل الحولة وبحيرة طبريا، وحقيقة الأمر أنّ هذه الحرب كانت حرباً مصرية – سورية ولم تكن حرباً شاركت فيها كلّ الدول العربية، فالقرار الاستراتيجي والتخطيط والإدارة والتنفيذ كلّ ذلك كان وفق إرادة سياسية مصرية وسورية ولم يكن لبقية الدول العربية أيّ تدخل مباشر أو أيّ تأثير في بدئها ومجرياتها.
ما الذي ينقص العرب والمسلمين ليس منطق الفكرة ولكن منطق العمل والحركة بحسب مالك بن نبي. فهل نحتاج إلى الوحدة طريقاً للعبور إلى فلسطين؟ ببساطة أقول لا. ما نحتاجه هو البصيرة وهو الإيمان وهو العمل، وهذه الخصال هي التي اجتمعت في مقاومة حزب الله فكان الضوء والنصر المؤزر، وهي التي اجتمعت في الجيشين السوري والمصري في لحظة تاريخية مجيدة حتى كدنا نقضي على العدو قبل أن يبدّد الرئيس المصري الأسبق أنور السادات التضحيات والدماء والجهود في سوق التسوية المذلة أثناء الحرب ولاحقاً في «كامب ديفيد».
عند ملاحظة هذين المثالين الآنفين ونتائجهما يمكن استيعاب هذه الحقيقة، واعتماداً على هذه الأرضية وعلى قدر ما تملك أيّ جهة عربية أو إسلامية فهماً لإمكانياتها وشعوراً بمسؤولياتها مع قراءة موضوعية لكلّ التقاطعات والأحزمة الجيوسياسية، على قدر ما يمكن أن يتجسّد النصر. فلنحاول ذلك!