الحوض السوري… ومملكة «نابوكو» التوراتية
نظام مارديني
بعد إطلاق مشروع «سايكس ـ بيكو» نهاية الحرب الأولى، والذي قسم جغرافية سورية الطبيعة إلى كيانات متواجهة، شهدت هذه المنطقة تحولات جذرية بدأت مع إنشاء الكيان الصهيوني، الذي جلب جراد المستوطنين من كل أصقاع العالم، بناءً على أسطورة توراتية خرافية، وانتهت بأن شهدت كيانات هذه المنطقة انقساماً عمودياً على صعيد المجتمع الذي بدأ يتحوّل من كونه ذا هوية واحدة في وطن واحد، إلى «مجتمعات» و»هويات» متعددة. وما ساعد على ذلك أن حكومات هذه الكيانات غيّبت مفهوم المواطنية بشكل صارخ ما أوصل البلاد إلى ما يشبه حروب مشاريع تفتيتية وفكرية… وصولاً إلى الحروب الأهلية المتنقلة، من دون أن تكترث بإرساء قواعد جديدة لوحدة الحياة بين الجماعات أو البحث في إمكانية ترسيخ وحدتها في دولة قومية وهوية سورية واحدة.
شكّلت منطقة سورية الطبيعية بكياناتها الهشة وتعدديتها الشديدة الحساسية، عرقيًا ودينيًا ومذهبياً، محور العقل اليهودي منذ السبي البابلي وحتى الآن حيث تكثر المشاريع ونحن في الألفية الثالثة، ومنها مشاريع الطاقة التي كانت سبباً في احتلال العراق والحرب على سورية. غير أن هذه الحرب فتحت الباب واسعاً أمام سقوط سمات المنظومة الاستعمارية القديمة في المنطقة ورسم واقع جديد، يعتمد على خطوط الدم وأنابيب الغاز.
منذ أن أطلق ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي السابق جورج بوش معركة الطاقة، كان هدفه احتواء الصين، ومواجهة روسيا كمنافس جيوسياسي، من أجل تقليص قوتها ونفوذها في أوروبا التي تعتمد على الغاز الروسي، وقد انخرط الرئيس باراك أوباما في جيوبوليتيك الطاقة هذه كجزء من صراع أميركي عالمي من أجل السيطرة المستقبلية على إمدادات النفط والغاز الطبيعي، وكان مشروع «نابوكو» أحد أهداف السيطرة الأميركية هذه، ولكن المشروع الروسي «ساوث ستريم» جاء معرقلاً لـ «نابوكو»، وصفعة للولايات المتحدة وحلفائها في الخليج وأوروبا.
ولكن اختيار اسم المشروع الأميركي العملاق «نابوكو» للغاز لم يكن عبثاً، فما هو سر هذه التسمية الغامضة؟
يأتي اسم «نابوكو» لتأكيد الطابع الجيوسياسي الأنكلوساكسوني، بل و»الديني التوراتي»، على هذا المشروع!؟ فقد ارتبط اسم «نابوكو» بالأفكار اليهودية السرية، فالاسم مشتق من أوبرا «نابوكو»، التي تتمحور حكايتها حول الصراع الأزلي على مدينة أورشليم تسمية آرامية ـ القدس. وتدعو الحكاية للتمسك بالديانة اليهودية، والتضحية من أجلها، والقصة برمّتها مستوحاة من العهد القديم كتاب النبي دانيال ، الذي يعكس صورة التاريخ اليهودي إبان حكم الملك «نبوخذ الثاني»، ملك بابل العظيمة سورية الشرقية ـ «العراق» من العام 605 إلى العام 562 قبل الميلاد.
و نابوكو صيغة تصغير و»تحقير» باللغة العبرية للملك السوري البابلي «نبوخذ نصر»، ويبدو أن الأطراف التي خططت لهذا المشروع، قد تعمّدت استعمال اسم الملك البابلي لدوره في إنهاء مملكة يهوذا وفي ما عُرف بالسبي البابلي. ثم قامت بإلصاقه على مشروع القناطر الكونية، التي ستنسف اقتصاد البلدان العربية، وتتلاعب بمصيرها، ويبدو أن التسمية جاءت بهذا الشكل لإنعاش الأحقاد اليهودية القديمة، والانتقام من نبوخذ نصر، فضلاً عن الاستخفاف بالحضارة البابلية التي سحقت اليهود في أورشليم واستعبدتهم في الأزمنة الغابرة، وهكذا فالتاريخ السياسي للمشروع يسجل أن الإعلان عن «نابوكو» كان مقدّمة لتدمير العراق، بمعاول أميركا وحلفائها من الذين اتبعوا ما تلته الشياطين على ملك سليمان، فنبشوا بخناجر الحقد القديم قبر «نابوكوذ نازار»، وهو في مثواه البابلي الأخير، واشتركوا مع يهود الاشكيناز والسفارديم والفالاشا في محاولة استعادة الأمجاد اليهودية المتعفنة.
ومما زاد الطين بلة أن دمشق نفسها كانت قد أبرمت مع العراق وإيران ولبنان اتفاقاً مبدئياً على مدّ حزمة بديلة للغاز الطبيعي لمنافسة أنابيب «نابوكو» تبدأ من بحر قزوين وتنتهي عند السواحل اللبنانية، يزيد طولها على خمسة آلاف كيلومتر، لذا فإن المرحلة الراهنة تقضي بوجوب قيام أميركا باكتساح الدولة السورية بحشد شذاذ الآفاق الذين شحذوا سكاكين المذهبية لتدمير الدولة السورية، بحيث تضمّن الاستحواذ على خطوط الغاز القادمة من مصر وفلسطين ولبنان، وتتمكّن من ربطها بخطوط «نابوكو» عبر سورية الواقعة الآن تحت الضغط التركي «النابوكي»، واستكمالاً لهذه الخطوة وافقت حكومة «إقليم كردستان» العراق على ربط أنابيب تصدير الغاز في شمال العراق بقناطر «نابوكو» من دون الرجوع إلى الحكومة المركزية في بغداد .
وهذه العقبة السورية الكأداء تفسر أيضاً سر ذلك السعار السعودي ـ القطري في محاربة النظام السوري ودعمهم اللا محدود للإرهابيين في سوريا، فالأسد بكل بساطة هو العائق الرئيسي، بل والوحيد، أمام تدفق الغاز السعودي القطري إلى أوروبا.
في الحروب، عادة ما يتم التركيز في وسائل الإعلام والفضائيات على الضحايا والدمار، وتهتمّ الشعوب بسير العمليّات العسكرية والأمنية. وينسى الجميع البُعد الجيو – سياسي، وكذلك الخلفيّات الاقتصادية – المالية للدول المتورّطة، ولمن يقف وراءها. وهذا ما ينطبق تماماً على المشهد الحالي في الإقليم، حيث تتجاوز الأحداث مسألة «إسقاط دكتاتور» من هنا أو مسألة «قمع مسلّحين متمرّدين» من هناك، وهي ترتبط مباشرة بمصالح حيويّة فائقة الأهمية للدول الإقليمية الأساسية، وللدول العظمى أيضاً… ولكن كيف ذلك؟
منذ بداية إطلاق هذه المعركة، شكل حوض الغاز السوري المكتشف في البحر محور الصراع، وظهر جليّاً ذلك في الحرب القائمة منذ 2011 على سورية.. إذ بدا أن تقاطب القوى في الصراع يتعدّى بالتأكيد الأسباب الداخلية السورية مثلما يتجاوز حتماً مسألة المياه الدافئة على أهميتها، بعدما حُسم أمر واقع ثراء سورية بالطاقة وصولاً إلى إعطائها المرتبة الأولى، وبحسب الباحث في مجموعة «أوراسيا» كريسبين هاويس، فـ «أنه يمكن لسورية أن تغير مجريات اللعبة» العالمية، ولكن هذا يحتاج إلى إزاحة الرئيس السوري بشار الأسد ليستطيع الغاز القطري والسعودي المرور عبر سورية ومنها إلى أوروبا، لتقليل اعتماد الأخيرة على الغاز الروسي.
إن مَن سيعرف السر الكامن في الغاز السوري سيعلم حجم الصراع على هذا المصدر لأن مَن سيملك سورية سيملك «الشرق الأوسط» وبوابة آسيا ومفتاح روسيا وأول طريق الحرير… وبتوقيع دمشق اتفاقاً لتمرير الغاز الإيراني عبر العراق إليها ومن ثم للبحر المتوسط يكون الفضاء الجيو سياسي انفتح على شريان العالم من البحر السوري، مختصراً الممرات البحرية من مضيق هرمز في مدخل الخليج العربي، كما اختصرت سابقاً قناة السويس رأس الرجاء الصالح عبر الأطلسي.