«الكلّ ضدّ الإرهاب»… معقول؟ فمن أين يأتي إذن؟ أكذوبة العصر: الحرب على الإرهاب!

نصّار ابراهيم

لنتجاوز الكلام والخطاب المائع… لنوقظ العقل قليلاً… لنختبر الواقع… لنطرح الأسئلة بصورة جدية ومباشرة… لنترك لغة التهويش والتهويل… لنحشر المواقف والسلوك والممارسات السياسية والثقافية في محكمة العقل ونحقق معها بلا هوادة… لنلتزم بالواقع ودينامياته وحقائقه، كمرجعية لفهم الأحداث بصورة واضحة وعميقة، بعيداً عن الالتباس واللغو والثرثرة والنفاق.

حين نستمع إلى وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وحين نستمع إلى كلّ قادة وزعماء الدول من الدرجة الأولى وحتى الدرجة العاشرة، نجد أنّ الكلّ ومن دون استثناء يؤكد ويعلن ويقسم بأنه ضدّ الإرهاب…

الولايات المتحدة، فرنسا، وبريطانيا، وكلّ قادة أوروبا، منظمات الأمم المتحدة المركزية والفرعية، قادة تركيا، آل سعود، وقطر أيضاً، وكلّ شيوخ النفط في الخليج… وبطبيعة الحال وقبل الجميع نتنياهو… وأيضاً روسيا والصين وإيران وكلّ القارات…

أمر غريب… الكلّ ضدّ الإرهاب. فمن أين يأتي الإرهاب إذن؟ هناك شيء خاطئ… ولا يقنع حتى قرداً صغيراً.

أين المشكلة؟ وما هو الخطأ في هذا الواقع المرئي والمسموع والمقروء…؟ وبقليل من التفكير الجدي فقط… نكتشف أنّ الخطأ يتجلى بكلّ وضوح في الفرضية نفسها أعلاه… وهي تصديق أنّ الكلّ، وكما يدّعي، هو ضدّ الإرهاب، فيما الحقيقة الأولية التي تشبه «الأميبا» هي أنّ الكلّ ليس ضدّ الإرهاب!

تبقى هذه مجرد فرضية تحتاج إلى إثبات وبرهنة، وإلا ستقع في الإشكالية ذاتها، وهي أنها مجرد اتهام ليس له أساس…. إذن دعونا نعيد ترتيب الأوراق والحقائق.. ومن ثم نقرِّر.

«الحرب على الإرهاب» هذا هو الشعار الذي أطلقه جورج دبليو بوش منذ أحداث 11 أيلول عام 2001، لم يكن ذلك هو الاستخدام الأول للشعار… ومنذ ذلك الحين وأميركا تقسِّم العالم بين من هو معها ومن هو ضدّها… وللتأكيد والتوضيح أطلقت على من هم ضدّها تعبير: محور الشر… ولتأخذ هذه العملية وجها إنسانوياً، قام جورج بوش بدعمها بسؤال من أذكى الأسئلة الغبية: لماذا لا يحبوننا؟ مما اضطر أحد الكتاب الأميركيين أن يعيد صياغة السؤال ولكن بصورة معاكسة: لماذا سيحبوننا؟

على أية حال، بدأت أميركا حربها الكونية على الإرهاب. بدأت في أفغانستان فاحتلتها، ثم العراق واحتلتها، ثم رأت أنّ لديها ما يكفي من فائض القوة وفائض المال وفائض الغطرسة وفائض الإعلام… رأت أو تخيلت أنها وحلفاءها وأيضاً أذنابها الصغيرة قادرة بالتأكيد على تغيير العالم كما تريد…

لكنّ الغريب في هذه الحرب الكونية التي أعلنتها أميركا على الإرهاب، هو أنه حيث تدخلت أميركا وحلفاؤها، وحيث أسقطوا الدول وقتلوا الملايين انتشر الإرهاب أكثر فأكثر…

الأمثلة على ذلك حاضرة وواضحة وحاسمة: أفغانستان، العراق، الصومال.

ثم جاء ما يسمى بـ«الربيع العربي» الذي هللت وصفقت ورقصت له كلّ الدول «الديمقراطية» الغربية، كتعبير كثيف عن انتصار نظريتها حول «نهاية التاريخ» كما تنبّأ الفيلسوف الأميركي فوكوياما، والتي بدأت مع انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين عام 1989…

«الربيع العربي» الذي شَرِقَ بشعارات «الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان»، أي الشعار الأثير والمحبب على قلوب «العالم الغربي الحر» وأصدقائه الأكثر تخلفاً في «العالم العربي» … بحيث ألقوا بكلّ أثقالهم «الديمقراطية والإنسانوية» لدعم تلك «الثورات العربية» … فبدأت «لعبة» الثورة في تونس، ثم مصر، ثم ليبيا، ثم امتدت، وبقدرة قادر، إلى اليمن ثم سورية…

كانت نتيجة هذه «الثورات» التي شكلت ذروة «الازهار في الربيع العربي» تدمير ليبيا بقصف «ديمقراطي» شامل من قبل قوات حلف الأطلسي، ثم إدخال تونس في دوامة الإخوان المسلمين والاغتيالات، ثم دفع مصر إلى أحضان «الأصدقاء المسلمين « وجرّ اليمن إلى أتون الحرب والاقتتال. ثم كانت الذروة بذل كلّ ما يمكن لتدمير الدولة الوطنية السورية وتحطيمها تمهيداً لتقسيمها…

أكثر من خمس سنوات وحلف الحرب على الإرهاب وهو يغني على ليلاه باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

حسناً… الكلّ اليوم ضدّ الإرهاب.. المقصود إرهاب «داعش» وبعدها تتوقف أو ترتبك أو تتلعثم اللغة…

سنتغابى ونصدق أنّ الكلّ ضدّ الإرهاب. فمن حيث المبدأ إنه أمر جيد وجميل أن يكون الكلّ ضدّه… ولكن هل فعلاً الكلّ ضدّ الإرهاب؟

سأعتمد في التعامل مع هذا السؤال المفصلي والحيوي منهجية الإجابة عبر طرح سلسلة من الأسئلة التي أتوقع أن تكون أكثر وضوحاً من جميع الإجابات التي تشبه أو هي فعلاً مهزلة:

– كيف تكون الولايات المتحدة دولة ضدّ الإرهاب وهي الدولة التي احتلت بلدين سأترك الماضي قليلاً ودمرتهما ومزقت نسيجهما الاجتماعي أفغانستان والعراق وشاركت في تدمير ليبيا؟

– كيف تكون دولة الاحتلال «الإسرائيلي» القاتل للأطفال والتي شردت وتشرد أكثر من 60 في المئة من الشعب الفلسطيني منذ أكثر من ستة عقود والتي تحمي وتعالج في مستشفياتها الآلاف من عناصر «جبهة النصرة» أي فرع تنظيم القاعدة في سورية دولة ضدّ الإرهاب؟

– كيف تكون السعودية الحاضنة لمعظم قنوات فتاوى التكفير والتخلف والفكر الوهابي المتطرف ومصدر التمويل الرئيسي الذي لا يتوقف للعديد من المنظمات الإرهابية بما فيهم داعش والنصرة وجيش الإسلام وغيرهم في سورية ومصر والعراق … والدولة التي تدمر منذ 8 أشهر اليمن وتقتل أطفاله بتنسيق واضح مع القاعدة… كيف تكون دولة ضدّ الإرهاب؟

– كيف تكون تركيا التي تشرع حدودها على مصراعيها لكلّ قاتل قادم من جميع أنحاء العالم إلى سورية، والتي تدعم وتحضن تنظيم داعش… وجيش الفتح… والتي فككت مصانع حلب ونقلتها كلص تافه إلى تركيا… والتي تشتري نفط سورية والعرق المنهوب والمسروق على يد «داعش» في وضح النهار وبأبخس الأسعار… والتي تقتل الأكراد بلا رحمة … كيف تكون دولة ضدّ الإرهاب؟

– كيف تكون فرنسا الصديقة الصدوقة لآل سعود وقطر والتي تدعم إعلامياً وبالسلاح عصابات القتلة في سورية وتصرّ على تدمير الدولة السورية على أيدي المتطرفين والإرهابيين… كيف يمكن أن نصدق أنها دولة ضدّ الإرهاب؟

– كيف تكون بريطانيا التي كذب رئيس وزرائها أتفه كذبة في التاريخ المقصود طوني بلير حول وجود أسلحة دمار شامل في العراق ليبرر إعلان الحرب عليها وتديرها ليأتي بعد عقد ونصف ليقول أنّ ذلك كان ملفقاً… ثم تتابع بريطانيا دعم كلّ مشاريع إسقاط الدول العربية العلمانية في العراق وسورية واليمن… كيف تكون هذه الدولة ضدّ الإرهاب؟

– كيف تكون قطر قطر ما غيرها التي لم تترك حيلة أو وسيلة والتي صرفت ولا تزال تصرف مليارات الدولارات لشراء السلاح والتحريض عبر قنواتها الفضائية لدعم تدمير سورية وليبيا والآن مصر ناهيك عن اليمن… كيف تكون هذه ضدّ الإرهاب؟

سأكتفي بهذه الأسئلة بخصوص هذا المستوى ولكن يبقى سؤالان أساسيان يعادلان ربما جميع الأسئلة أعلاه وهما:

السؤال الأول: كيف تكون جميع هذه الدول المشار إليها ضدّ الإرهاب وهي تبذل كلّ ما في وسعها لتدمير الدول والقوى والجيوش الحقيقية الوحيدة التي تحارب وتقاتل الإرهاب فعلاً على الأرض وقدمت عشرات بل مئات آلاف الشهداء والمقصود: سورية، العراق، اليمن، مصر، وحزب الله .. وتعادي في السياق ذاته الدول الأكثر صدقاً في مواجهة الإرهاب دولياً: روسيا والصين وإيران.

السؤال الثاني: كيف تكون كلّ تلك الدول التي وردت أعلاه وغيرها ضدّ الإرهاب وهي جميعها تدعم عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وإعلامياً ومالياً، وبلا شروط، دولة الاحتلال «الإسرائيلي» منذ نشوئها وحتى اليوم… وهي الدولة المحتلة لشعب فلسطين وفق كلّ المعاهدات والمواثيق والقوانين الدولية… كيف يمكن أن تكون تلك الدول ضدّ الإرهاب؟

خلاصة القول… إنّ ادعاء تلك الدول أنها ضدّ الإرهاب… هو أكبر أكذوبة في العصر الراهن… ذلك لأنها هي الحاضنة فكرياً وسياسياً وعسكرياً ومالياً وإعلامياً لأكثر المنظمات والدول إرهاباً وتطرفا في العالم… أما «داعش» و«القاعدة» و«النصرة» و«جيش الفتح» و«جيش الإسلام» و«الجيش الحر» وأشباههم، فهم ليسوا أكثر من أدوات تنفيذ… حتى وإن ظهرت بعض الخلافات الثانوية بين المشغِّل والمنفذ لألف سبب وسبب…

في ضوء ما تقدم أقول: ليتوقف هذا التغابي والاستغباء السياسي… كي لا ندفع الثمن مرة وراء مرة… لتكن التخوم واضحة… كي تكون التحالفات والمواقف والتموضعات والخيارات واضحة…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى