الغدر التركي أبعد من إسقاط طائرة… عداوة لأمة منذورة للسلب واللجوء
هاني الحلبي
إسقاط «سو 24» الروسية كان خطأ تركياً فادحاً، حتى بمنطق المصالح القومية التركية، ويكشف ضحالة استراتيجية قيادة وتدنّي مستوى نمو عقل سياسي عام لمّا يقارب الرشد، بحيث يبقى قول أنطون سعاده معبّراً ودقيقاً كعادته بعد ثمانية عقود، إثر خطيئة سلب تركيا لواء الاسكندرون السوري ومحيطه والسقوط الأخلاقي والسياسي الذي رافقه، «إنّ الأتراك هم الأمة الأقلّ عطاء للحضارة».
أما بمنطق مصالحنا القومية، فكان إسقاط الطائرة الروسية سبباً مباشراً لتكريس الاستراتيجية الجبهوية، والتي تأخّرت كثيراً، بين أمتنا بدولها كافة، وبين الأمة الروسية، بما تمثل من قيم حضارة وتاريخ ونبل مشهود، بحيث لم تكن في معظم تاريخها أمة غزو بل أمة دفاع وحق ونصيرة مظلومين. ويكتمل ثالوث هذه الجبهة مع الثورة الإسلامية التي أكدت ثوابتها القيمية والثورية بحيث لم تعد بحاجة لبرهان، مهما غالى المكابرون.
ومشهورة أسباب التدخل التركي، عبر الإرهاب الإسلاموي وجزء من التركمان وبعض أقطاب الكرد كمسعود البرزاني الموظف في نهج الاحتلال الأميركي اليهودي منذ أكثر من أربعة عقود لاستنزاف العراق تمهيداً لتفتيته قائمقاميات طائفية عرقية، بالتساوق مع الاستراتيجية الأميركية، إذا تمكنت من الاستفراد به، بالتعاون مع طغمة طوائفية نافذة.
وعبر التاريخ الحديث لم تقدّم تركيا لنا سوى الغدر والعقوق. رغم أنّ شعبنا كان يرغب بتعميق الرابطة الوثقى مع الترك، بعمقه التاريخي وبحكم الرابط الديني والجيرة الجيوسياسية، وتحسّسه استهداف الغرب له، ولجيرانه، عبر التاريخ، بدءاً من غزو الاسكندر، وعبوراً بالتتابع إلى الغزو الروماني فالبيزنطي، إلى ما سُمّي بحرب الفرنجة أو الحروب الصليبية، وصولاً إلى غزوة نابليون وإفلاسها العسكري حول أسوار عكا. تجدّد ذلك الاستهداف مع بدء التغلغل الغربي الأوروبي بشكل جديد عبر الإرساليات الدينية والبعثات العلمية والأكاديمية بخاصة في مجال الآثار، حتى تبلور بشكل سياسي لهذا التغلغل مع تدحرج الرجل المريض التركي، بديونه المتراكمة، ما سمح بظهور المسألة الشرقية ونمط الحمايات الطائفية وترسيخ النظام الملي في المشرق العربي كان نموذجه الأول المدمِّر في جبل لبنان.
أربعة قرون كانت انحدارات متلاحقة بقي فيها معلم الأجيال «معلمَ صِبْيَة» بمنظور السلطنة لم تُبنَ فيها جامعة ولا مدرسة كبيرة ولا مطبعة ولا مكتبة كبرى برعاية سلطانية، بل كانت أية خطوة على هذا الصعيد نتيجة جهد أهلي، وقد يتوفر دعمٌ غربيٌ لها حتى رأت غالبية الناس على اختلاف اعتقاداتهم الدينية أن لا حرية بعيداً من الغرب. فاندفع فخرالدين المعني الثاني لتوسكانا يأتي بالمدافع وخبراء الزراعة واندفعت مؤسسات دينية بعيداً من مشرقيتها التاريخية إلى حالة فاتيكانية تمهّد لاكتمال كماشة الانقسام الديني السياسي العابر للقرون في شعبنا بين متغرّبين وبين متمشرقين. رغم أنه «لا يأتي من الغرب شي بسرّ القلب». حتى كان الغرب أبرع غدراً!
تمظهَرَ الغدر التركي بتسعير المجازر المذهبية بين الطوائف وإجلائها من مناطقها عبر التاريخ إلى مناطق أخرى:
بنقل أقوام كالشركس بعد انتهاء الحرب بين دولتهم سركيسيا وروسيا بهزيمة، وسعي السلطان العثماني حليفهم حينذاك لتوزيعها في أرجاء المشرق العربي كافة ومحاولة زجهم ضدّ أبناء البلاد
وبسحق أية حركة تحرر وطني وبتطبيق نظام السخرة بالقوة فكان الأهل يبكون أبنهم المسحوب من قلوبهم قبل سحبه للخدمة في مجاهل البلدان، لأنه ذبيحة بانتظار ميعاد سلطاني وبفرض ساسة التتريك بالقوة وبقمع تعليم اللغة العربية رغم أنها لغة القرآن الكريم، فلم تكن لها حرمة عند سلاطين بني عثمان. وهذا برهان على مَن توسّم فيهم أمل خلافة إسلامية وما زال ينشدها بنكهة إخوانية وبسحق الأقوام المختلفة عنهم ولو كانت أصيلة في تركيا والمشرق: ملايين الشهداء الأرمن والسريان والآشوريين فضلاً عن شهداء باقي الطوائف المسيحية والمحمدية من العرب المشارقة… وما زالت دماء هؤلاء لمن يصغي لمظلوميتهم تنبئ بفظائع مسكوت عنها.
لم تكن دماء شهداء ساحة المرجة في دمشق ولا دماء شهداء ساحة البرج في بيروت آخر ما سفكته سيوف السلطان التركي ولا حبال مشانقه عنوة وبلا حق، فقد سُفكت فقط لمنع أي حق بالتعبير عن حركة تحرّر ومنع قيام حتى حركة كونفدرالية بين ولايات السلطنة بين الترك والعرب. وهذا عقم في العقل السياسي التركي الذي لم يخرج من حال السلطنة إلى حال «كومنولث» إسلامي عثماني أو اتحاد شرقي عثماني أسوة بما فعلته بريطانيا وفرنسا لاحقاً بمناطق المستعمرات الطالبة حريتها.
وتستمر فظائع الطغيان التركي في العهد الجمهوري بمقاصة مع فرنسا مقابل مصالحها في الجزائر وبلاد المغرب فتنسحب فرنسا من كيليكيا وأضنة السوريتين وامتداداً إلى مدن الشمال السوري العراقي وغناه المائي والاقتصادي والبترولي وقيمته التاريخية الدينية وتنوّعه الديمغرافي، فأفقدنا الغدر الفرنسي التركي ثلث فيزيائنا السكانية وأكثر من نصف مواردنا المائية ومعظم أوابد تاريخنا المسيحي بخاصة، وأهمها مدينة الله العظمى أنطاكيا. ومُسِنّو تلك المناطق الشمالية المحتلة ما زالوا في بيوتهم يلهجون بالعربية لكنّ تعليمها في مدرسة أو ورشة تعليم عقوبته الإعدام.
الغدر التركي عيب يتخطّى الجيرة الدولية ويؤسس لعداوة تاريخية لا يغسل حقدها الاعتذار ولا تحرير السليب من الأرض ولا معاهدات الأخوة المستحيلة. نحن والأتراك نوعان من الأحياء مختلفان. والأنواع الحية القريبة في الدرجة قد تتعايش، لكنهم متخلّفون عنا نوعاً ودرجة، ما يجعل التعايش مستحيلاً.
لا يغدر قويّ، قوي الأخلاق والقيم والروح. القويّ بتحديد حقوقه الثابتة الذي لا ينازعه عليها سوى الجهلاء أو الغاصبين، وهؤلاء إما يعُون وإما يُهزمون. وهذا يبقى قوة لصاحب الحق ولو خسر فيه، لأن الخسارة لا تنفي أصل الحق.
النبل الروسي ووعي مصالح الأمة الروسية ونقل التحالف مع سورية ومن ثم العراق واستطراداً لبنان والأردن، بداية عالم حقوقي وسياسي جديد…
ناشر موقع حرمون
www.haramoon.org gmail.com