سؤال مُبْكِر: ما مصير سورية بعد دَحْر «داعش»؟
د. عصام نعمان
مع الحضور الروسي الكثيف في سورية، انحسر التساؤل عن مصير بشار الأسد. يبدو الرئيس السوري الآن بمأمن من أيّ خطر أمني أو سياسي ماثل. لكن ماذا عن سورية؟
لعلّ السؤال الأدقّ هو: ما مصير سورية بعد دحر»الدولة الإسلامية داعش»؟ الدافع إلى طرح السؤال هو الحشدُ العسكري الضخم الذي تُشارك في تكوينه وتفعيله دول كبرى ومتوسطة وتنظيمات وأطراف عربية وأخرى إقليمية. الحشد كثيف ومهيب، فهل تتطلّب الحرب ضدّ «داعش» كل هذه القوات والقدرات والاستعدادات؟ وإذا لم يتمكّن هذا الحشد العالمي غير المسبوق من دحر «داعش»، ماذا سيكون مصير سورية؟ بل ماذا سيكون مصير عالم العرب؟
سؤال آخر له صلة بسورية: هل رجب طيب أردوغان جاهل أم مغامر؟ هل يُعقل أن يكون جاهلاً حجم التبادل التجاري بين بلاده وروسيا الذي يصل إلى 44 مليار دولار سنوياً، وانّ روسيا تغذّي نصف احتياجات بلاده من الغاز، وانّ عدد السياح الروس يُعَدّ الثاني بعد الألمان الزائرين لتركيا، وقد بلغ نحو 4,5 مليون سائح في العام الماضي؟ ما الهدف أو المربَح الذي ستحققه تركيا بإسقاط طائرة حربية روسية داخل سورية أو على حدودها الشمالية؟
أردوغان يعزو إسقاط الطائرة إلى الجهل: «فلو عرفنا أنها روسية الهوية لَما قمنا بإسقاطها، لكننا لن نعتذر»!
لنفترض أنّ ما يقوله صحيح، أليس اتّضاح هوية الطائرة سبباً كافياً للاعتذار؟ ألا يستحقّ صون المصالح الاقتصادية المشتركة بين البلدين ثمناً زهيداً لا يزيد عن اعتذار بروتوكولي؟
أردوغان ليس ساذجاً لتغيب عن ذهنه كلّ هذه الأمور يجب أن يكون، إذاً، دافعٌ بالغ الأهمية لإقدامه على إسقاط الطائرة الروسية ولإحجامه عن الاعتذار. هل هو ردع روسيا عن دعم الجيش السوري وربما ردع أكراد سورية أيضاً في حملته الناشطة لاستعادة كامل منطقة شمال حلب من جرابلس إلى عفرين وبالتالي منع أنقرة من إقامة «منطقة إنسانية آمنة» فيها؟ هل تستحق إقامة هذه المنطقة تلك المغامرة المكلفة؟
الولايات المتحدة كانت تتحفّظ بشأن سعي تركيا لإقامة منطقة آمنة في شمال غرب حلب. بعد الحضور الروسي الكثيف في سورية، أبدت واشنطن ليونةً تجاه المسعى التركي وشفعت ذلك بتبريرٍ لإسقاط الطائرة الروسية، مفاده أنه «من حق تركيا الدفاع عن النفس». في المقابل، موسكو اتهمت واشنطن بأنها وفّرت لأنقرة، بموجب اتفاق التنسيق الجاري بينهما، معلوماتٍ كانت زوّدتها بها حول حركة طائراتها الحربية في سماء سورية.
إزاء ما بدا أنه تواطؤ أميركي تركي، سارعت موسكو إلى اتخاذ خطوتين: الأولى استراتيجية والثانية تكتيّة. تجلّت الخطوة الأولى بترفيع مستوى حشدها العسكري بنشر قواعد لصواريخ أس – 400 في مطار حميميم السوري واستقدام ثلاثة أسراب من الطائرات المقاتلة لتحمي الطائرات القاذفة أثناء قيامها بتنفيذ مهامها. تجلّت الخطوة الثانية بمباشرة قصف مواقع وتحشيدات مختلف التنظيمات الإرهابية في محاذاة الحدود السورية التركية وعلى معابرها وصولاً إلى مواقعها في جبل التركمان بين محافظتيْ اللاذقية وادلب.
تسبّبت الخطوة الاستراتيجية، ولا سيما نشر صواريخ أس – 400، بـِ»قلق أميركي جدّي». ذلك أنّ من شأنها، بحسب ضابط أميركي كبير، إحداث تغيير جذري في موازين القوى، ليس في منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل في منطقة البحر المتوسط كلها، كما من شأن العمليات الجوية الروسية إعاقة الطلعات الجوية للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. أما الخطوة التكتيّة فإنها تتيح نصب كمائن للمقاتلات التركية على طول الحدود مع سورية. فحركة القاذفات الروسية بمحاذاة الحدود السورية – التركية قد تجتذب المقاتلات التركية إلى مسافات قريبة منها ما يشكّل فرصة سانحة وعذراً كافياً للمقاتلات الروسية كما لصواريخ أس 400 للنيل منها. فوق ذلك، واكب الخطوة التكتيّة، التي يستفيد منها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري «ووحدات حماية الشعب الكردي»، إعلانٌ باستعداد موسكو لدعمهما في وجه «داعش». ذلك عزز الظنون بأنّ القادة العسكريين الروس خططوا مع القادة العسكريين السوريين من أجل مباشرة عملية واسعة ضدّ «داعش» في محافظة الرقة التي تشكّل مرتكز ثقله الأساسي.
المبادرات والتحركات الروسية أقلقت الأميركيين فسارعوا إلى دعم «وحدات الحماية الكردية» بنحو 50 مستشاراً ومدرِّباً لتعزيز جهودها القتالية ضدّ «داعش». يبدو كأنما هناك سباق بين مختلف أطراف الحرب إلى تحرير الرقة بغية كسب الجائزة الأولى، وما يليها من مكاسب. فالسوريون، ومعهم الروس، يريدون أن يتمّ دحر «داعش» على أيديهم فلا يكون للغير، ولا سيما للأميركيين وللأكراد المتعاونين معهم، أي جميل أو دور لتعويضهم بترتيبات تمسّ بوحدة الأراضي السورية. أما الأميركيون فيريدون لحلفائهم الأكراد السوريين أن يكون لهم دور مؤثّر في دحر «داعش» ليدعموا بموجبه مطالبتهم بصيغة للحكم الذاتي.
يبقى أن المتضرّر الأكبر من هذه التطورات المحتملة هو أنقرة لأنها تخسر بدحر «داعش» حليفاً ضمنياً يشاطرها العداء لسورية وقيادتها السياسية، كما تخسر بتقاسم أكراد الشمال السوري مع دمشق مزايا الانتصار على «داعش». هذا الاحتمال الماثل قد يحمل أنقرة القلقة على تكثيف دعمها لحلفائها جبهة «النصرة» و«أحرار الشام» و«الجبهة الشامية» وبعض وحدات «الجيش الحر» بغية الحؤول دون نجاح خصومها في تسجيل نصر حاسم على «داعش». وربما يغري موقفٌ تركي متشدّد وفاعل ضد خصوم أنقرة ومنافسيها في الساحة السورية بعضَ دول الخليج بتعزيز قدرات حلفائها السوريين «جيش الإسلام» و«أحرار الشام» وغيرهما لإضعاف الحكم في دمشق. فوزير الخارجية السعودي عادل الجبير ما انفكّ يصرح بأنّ «بشار الأسد لا يملك إلاّ خيارين: إما الرحيل في شكل سلمي أو الإبعاد بعد عمل عسكري». لكنه لا يوضح مَن سيتولى القيام به!
ثم، هناك «إسرائيل» الحريصة على استغلال الصراع المحتدم من أجل تحقيق غرضها الأثير وهو تفكيك سورية إلى جمهوريات موز هزيلة على أسس عرقية أو مذهبية أو قبلية.
هذه التطورات المحتملة تزيد الصراع في سورية وعليها احتداماً، كما من شأنها إطالة أمد الحرب الدائرة في ساحاتها وعلى كامل جغرافيتها، وأن تنعكس تالياً على وحدتها الوطنية والسياسية. أفلا يجوز السؤال، في إطار التحسّب للمخاطر والمطامع المنتظَرَة، عن مصير سورية بعد دحر «داعش»؟
وزير سابق