أميركا تناهض «داعش» وتعادي أعداءه…

د. عصام نعمان

ليس ثمة خريطة واضحة للتحالفات والاصطفافات السياسية والأمنية في مشرق العرب. ثمة تداخل وتعارض في آن بين سلوكيات اللاعبين الكبار واللاعبين الصغار وتحركاتهم في المنطقة بعدما أصبحت أو كادت ساحةً واحدة لصراعات عدّة متزامنة من الساحل الشرقي للبحر المتوسط إلى جبال افغانستان، مروراً بسورية ولبنان والعراق وتركيا ومصر وإيران. ولن يطول الزمن قبل أن تعصف بالأردن و«إسرائيل» ودول شبه جزيرة العرب احداث مماثلة.

من يستطيع، مثلاً، الجزم بأن الولايات المتحدة عدو فعلي لتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» داعش وليست حليفاً ضمنياً له؟ فهي تناهضه في بلاد الرافدين بدليل أنها تدعم، ولو ببطء ورفق وعونٍ محدود، حكومة نوري المالكي، لكنها لا تناهضه في بلاد الشام بدليل أنها تعادي وتناهض أعداءه بلا هوادة، أي سورية وإيران وحزب الله.

مَن يستطيع الجزم بأن دول الخليج تناهض «داعش» فعلاً طالما هي تعادي عدوه، حكومة المالكي، كما يشارك بعضها بمناهضة أعدائه الفاعلين، سورية وإيران وحزب الله؟

هل تخشى «إسرائيل»، كما تدّعي، من تداعيات سيطرة «داعش» على سورية أم تسلّم بأن سورية، حليفة حزب الله، أخطر على أمنها القومي من «داعش» وحلفائه؟

هل يدعم رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني حكومة العراق الاتحادية في بغداد ضد تنظيم «داعش» أم يهادنه مؤملاً بأن تكون هجمته عليها مساعِدة له في إحكام سيطرته على محافظة التأميم كركوك بعد «عودتها إلى إقليم كردستان العراق»، على حد قوله؟

هل يعتبر المالكي الولايات المتحدة حليفاً بعد تعهدها بإرسال نحو 300 مستشار عسكري لدعم الجيش العراقي في حربه على «داعش» أم يبقى متشككاً في نياتها بدليل شكواه من عدم قيامها بتسليم العراق طائرات «أف 16» الـ 36 التي سبق أن اشتراها منها الأمر الذي اضطره إلى شراء طائرات مستعملة من روسيا وطائرات سوخوي من بيلاروسيا «لأنها تنفع في حرب العصابات»، على حـد قوله؟

هل تعتبر تركيا «داعش» تنظيماً إرهابياً؟ وهل هي صادقة حقاً في مناهضته وبمنع «الجهاديين» القادمين من الخارج من التسلل إلى العراق وسورية عبر حدودها وهي التي لها مصلحة في سيطرة «داعش» على آبار النفط في سورية والعراق وقيامه بتصدير إنتاجها إلى تركيا أو عبر موانئها الى الخارج؟

مَن ضد مَن في مشرق العرب حقاً؟

سيمضي وقت طويل قبل أن يتمكّن أحد من تحديد التحالفات والاصطفافات التي يجري بناؤها أو هدمها في المنطقة. غير أن ذلك لا يحول دون قيام المراقبين بمتابعة سلوكيات اللاعبين الكبار والصغار ومراقبة تحركاتهم وقراءة مدلولاتها القريبة والبعيدة.

لعل سلوكية الولايات المتحدة وتحركاتها هما الأكثر مدعاة للحيرة. فبعد أن نفى الرئيس أوباما وجود معارضة سورية قادرة على هزيمة الرئيس الأسد بل وَصَف ادعاءها بأنه «فانتازيا» وتأسّف «لأن إدارته استهلكت وقتاً طويلاً في العمل مع المعارضة المعتدلة»، تقدّم قبل أيام بطلب من الكونغرس للموافقة على تخصيص 500 مليون دولار من أجل «تدريب وتجهيز» المعارضة المسلحة المعتدلة! برر أوباما تخصيص المبلغ المرقوم بأنه «لمساعدة السوريين للدفاع عن النفس، وإحلال الاستقرار في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، وتسهيل توفير الخدمات الأساسية، ومواجهة التهديد الإرهابي، وتسهيل الظروف للتسوية عن طريق التفاوض».

ثمة أسئلة لا مناص من طرحها في هذا السياق:

هل يعقل أن يكفي المبلغ المطلوب لتغطية نفقات كل الأهداف والمهام والعمليات واللوازم التي حددها الرئيس الأميركي؟!

ما هي المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية المعتدلة؟ ألم يقع معظمها في أيدي تنظيميّ «داعش» والنصرة» اللذين تعتبرهما الادارة الاميركية إرهابيين وبالتالي غير معتدلين؟

هل «مواجهة التهديد الإرهابي» التي دعا اليها أوباما تعني خوض «المعارضة السورية المعتدلة» الحرب ضد «داعش» و»النصرة»؟ إذا كان الأمر كذلك، هل تستطيع «المعارضة المعتدلة» محاربة هذين التنظيمين الإرهابيين ومحاربة الجيش العربي السوري والمجموعات المسلحة الرديفة له في الوقت ذاته؟ ألا يكون المراقب الموضوعي مدفوعاً، في هذه الحال، إلى استعارة كلمة الرئيس أوباما نفسه في توصيف الأمر بأنه مجرد «فانتازيا»؟!

هل «تسهيل توفير الخدمات الأساسية» يمكن أن يتمّ من دون قيام تعاون بين «المعارضة المعتدلة» والحكومة السورية أو حتى مع «داعش و»النصرة»؟ وكيف يمكن تحقيق هذه المعجزة؟

هل «تسهيل الظروف للتسوية عن طريق التفاوض» يعني إجراء مفاوضات بين «المعارضة المعتدلة» والحكومة السورية أم يعني أيضاً ضم «داعش» إلى هذه المفاوضات؟ ثم، متى يمكن تحقيق هذه المعجزة؟

من تحليل هذه الواقعات والاحتمالات يستطيع المراقب الموضوعي الاستنتاج أن الولايات المتحدة غير قادرة أو أقلّه غير جادة في تحقيق أيٍّ من الأهداف والمهام التي أشار اليها الرئيس أوباما، وأن الغاية المتوخاة من وراء طرحها والدعوة غير الجدية إلى تحقيقها هي تطويل مرحلة استنزاف سورية والعراق أملاً في نشوء ميزان قوى جديد في كلٍ منهما يساعدها في المستقبل القريب أو البعيد على إيجاد تسوية شاملة ومتكاملة للأزمات التي تعصف بالمنطقة وذلك بشكلٍ يؤمن مصالحها وأمن «إسرائيل».

ما حظ هذه المقاربة الأميركية الملتبسة في النجاح؟

لا يمكن الجزم في الوقت الحاضر وإن كنتُ أميل إلى استبعاد النجاح. ذلك أنه يُستفاد من تصريحات المالكي الأخيرة ثلاثة أمور أساسية:

أولها، أنه بات ضعيف الثقة بجدية الولايات المتحدة في دعم العراق بعد إحجامها عن تسليمه 36 طائرة من طراز «أف 16» كان اشتراها منها، وإشاراته المتعددة إلى ضلوع بعض حلفائها العرب والترك والكرد في دعم «داعش» وحلفائه.

ثانيها، أن العراق بادر إلى تعويض عدم تسليمه الطائرات الحربية الأميركية بشراء مجموعة من الطائرات المستعملة من روسيا وبيلاروسيا. غني عن البيان أن قرار موسكو تزويد العراق أسلحةً ثقيلة ينطوي على دلالة استراتيجية بالغة الأهمية، إذ من الممكن أن يتطور هذا التعاون بين بغداد وموسكو وطهران إلى قيام تعاون استراتيجي أوسع بين موسكو من جهة وطهران ودمشق وحزب الله في لبنان من جهة أخرى.

ثالثها، أن سلاح الجو السوري بات يعمل ضد «داعش» داخل الأراضي العراقية، وقد اعترف المالكي ضمناً بذلك ورحب به. لهذا التطور دلالته الإستراتيجية أيضاً إذ يؤشر إلى تكريس سورية والعراق ساحةَ حربٍ واحدة في مواجهة «داعش» الأمر الذي قد تنشأ عنه تداعيات سياسية توحيدية بين هاتين الدولتين في المستقبل، كما قد تنشأ عنه ردود فعل أمنية سلبية من طرف تركيا و»إسرائيل».

وبعد… ذلك كله سيضطر الولايات المتحدة، عاجلاً أو آجلاً، إلى اتخاذ موقف صارم من «داعش»، فلا تبقى مناهضة له، ظاهراً وربما باطناً، ومعادية لأعدائه ظاهراً وباطناً.

وزير سابق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى