بئس السياحة التي كادت تقتل الوطن
علي بدر الدين
بعد كل تفجير إرهابي، تزدحم وسائل الإعلام المختلفة بتصريحات ومواقف شاجبة ومندّدة لمختلف الأفرقاء السياسيين. تضجّ بالتحليلات والاستنتاجات الهادفة والمستنسخة والموجهة من دون شفقة أو رحمة، كأننا في حضرة ملائكة أو قدّيسين جدداً، خرجوا للتو من مكان بعيد وفي زمن آخر. ويبدأون في جلد اللبنانيين بسيل من العِظات والنصائح والتوجيهات في نسخة طبق الأصل عمّا سبقها أسلوباً ومضموناً وغايات، مقصودة أو عشوائية. المهم أن يفرّغوا ما في عقولهم ونفوسهم من دون النظر إلى النتائج والتداعيات، على طريقة «خبط عشواء».
لا ينسى جهابذة السياسة وحاملو همّ الوطن والأمة إطلاق دعواتهم إلى الجمهور المتسمّر أمام شاشات التلفزيون، وغيرها من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بشغف وحبور لا يوصف، علّه يسمع كلاماً جميلاً وواقعياً يشفي غليله ويُشبع نهمه ويضاعف من معارفه، ويتفاءل بالمقبل من الأيام. وإذا بهذا الجمهور يصاب بالخيبة والصدمة لسماعه كلمات ومصطلحات أكل الدهر عليها وشرب وفقدت قيمتها ومعناها وسحرها، والأسوأ فيها تكرار الدعوة إلى الوعي والتعقل والحكمة والمحبة والسلام التي ذهبت كلها مع الرياح الأمنية والسياسية والطائفية والمذهبية التي تعصف بلبنان من دون توقف وأكثرها قهراً وعهراً ونفاقاً الإشادات والتنويه بالصيغة اللبنانية الطائفية، الوحيدة والفريدة التي أبهرت العالم، كأنما لا مثيل لنموذجيتها التي يجب أن تُعمّم بل تدرّس في الجامعات والمعاهد العالمية للإفادة من تجربتها الناجحة جداً في «التنوع» والاختلاف وضع النزاعات والاقتتال وإضاعة وطن في متاهات الصراعات وتاه وأبناؤه في مجاهل القلق والخوف والمصير المجهول، فقط لأن بعض مسؤوليه وقادة تياراته وتنظيماته وأحزابه القديم منها والمتسلّق حديثاً سلالم «مجد» السياسة التي تحولت من فن الممكن إلى فن التسويف والمماطلة وتحقيق المصالح، غلّبوا غاياتهم السياسية والطائفية والمذهبية والمناطقية على مصلحة الوطن الذي تحول إلى سلعة معروضة تباع في سوق التجاذبات والمزايدات والمراهنات أو كحقل رماية تُجرّب على أرضه وبناسه «أجندات» المشاريع السياسية المخططة والمشبوهة. فضلاً عن تجارب الأسلحة على أنواعها التي تقتل اللبنانيين وتشرّدهم، ولم تنته فصولها بعد بفعل الإرهاب التكفيري التفجيري المتمادي.
إن أزمات هذا البلد ومعاناة أهله وانقسامات سياسييه وطوائفه، والإرهاب «القاعدي» و»الداعشي» وغيرهما من تسميات الرعب والإجرام الذي يحاول أن يضرب لبنان من دون هوادة في وحدته واستقراره وسلمه الأهلي ويقتل أبناءه ويستهدف اقتصاده ومؤسساته وسياحته المعوّل عليها لانتشال هذا القطاع السياحي من خسائره المتراكمة بفعل سنوات التأزم السياسي والاهتراء الأمني، زادت مع التفجيرات الإرهابية. فضلاً عمّا يشهده المحيط العربي من حروب وتصدعات وتدخلات ورهانات، وكذلك الترويج الفوضوي للسياحة وصرخات أصحاب الفنادق من الانهيار المقبل لا محالة إذا لم تستنفر الدولة بعلاقاتها العربية لتوفير مقومات الراحة والأمان والاطمئنان للسياح والمصطافين العرب تحديداً، فمن دونهم لا سياحة ولا مَن يحزنون.
ذهب الوزراء المعنيون المباشرون وغير المباشرين إلى الملوك والرؤساء والأمراء والسلاطين والوزراء العرب ليقرعوا أمامهم ناقوس الخطر إن لم يرفعوا الحظر عن رعاياهم لزيارة لبنان وتشغيل الفنادق والتمتع بطبيعته الخلابة وإغراءاته الجاذبة على مختلف المستويات. بمعنى آخر، طلبوا النجدة والإغاثة من الأخوة العرب الذين يريدون للبنان للسلام والخير، بعدما طمأنوهم إلى أن الأوضاع الأمنية مستقرة وهادئة وتتلاءم مع السياح الوافدين.
يقول مثل العرب «كلما قلنا عسى جدّ الرحيل» وكلما ركن لبنان إلى الهدوء الأمني ونشّط مرافقه السياحية، استيقظت الخلايا الإرهابية النائمة ومارست «هوايتها» التفجيرية الإرهابية، وهذه المرّة من الفنادق التي استعدت لموسم صيفي سياحي بامتياز متباهية بحجم الحجوزات التي بلغت حداً يرضي أصحابها، مقابل الحملة السياسية الأمنية الترويجية لوزارة السياحة التي نظمت المؤتمرات وعقدت اللقاءات التحضيرية، ومن خلفها الدولة التي فتحت الأجواء أمام الطائرات التي ستمتلئ بالوافدين، ووظفت قدرات الشباب اللبناني والصبايا الجميلات لاستقبال الوافدين العرب من دون تعقيدات أو تأشيرات دخول، والترحيب بهم بلياقة ولباقة مع باقات الورد، لأجل سمعة لبنان أولاً، ولتأمين جميع وسائل الراحة والأمان لهم.
هذا الفعل اللبناني، في ظل أوضاع طبيعية ومستقرة، ليس خاطئاً أو مفاجئاً أو مستجداً، فهو من طبيعة الشعب اللبناني ويتميز فيها عن بعض الشعوب العربية، وهي «الشطارة» و»الحربقة» والفهلوة، غير أن بعض رعايا العرب استغلوا «شمّاعة» السياحة والتسهيلات القانونية واللوجستية للأخوة العرب، وبدلاً من أن يأتوا إلى لبنان حاملين زجاجات من العطور العربية المشهورة حملوا معهم إلى هذا البلد الجميل وإلى شعبه المضياف أحقاداً وضغائن وأفكاراً مضللة ومشوهة وعبوات قاتلة وقذائف مدمّرة ونفطاً يحرق الأخضر واليابس، تحت عناوين الوعد بالجنة وبمئات الحوريات المنتظرات وصولهم على أحرّ من الجمر ليس للمتعة أو مكافأتهم على إيمانهم الباطل وإجرامهم الذي لا يمكن وصفه، بل لإدخالهم جهنم وبئس المصير.
هؤلاء القتلة حوّلوا فنادق بيروت إلى بؤر أمنية لصناعة القتل ومنصّة لتحقيق أهداف دسمة تسيل فيها الدماء وتتناثر الأشلاء وتدمّر المنازل والمؤسسات وتحرق السيارات، تنفيذاً لمشغليهم من المجرمين الحاقدين الخارجين على الدين والقيم والأخلاق ووكلاء أصحاب المشاريع الإرهابية الفتنوية التقسيمية الذين يلجأون إلى الإرهاب كوسيلة لتحقيق أحلامهم الدموية. لكن وعي الأجهزة الأمنية كشف مخططاتهم وأحرقهم قبل أن يحرقوا البلد ويدخلوا «جنات النعيم الموعودة» التي لن يطالوها، فهم لن يحققوا أحلامهم على جثث الأبرياء وتخريب الدول وتقسيمها وإرهاب الشعوب.
من البديهي القول إن الإرهاب لا دين له ولا طائفة ولا مذهب، والتعميم بشأنه ظالم وفي غير محله ولا يمكن الركون إليه إذا ما طبع الإرهاب أشخاصاً مشوهين فكرياً وسلوكياً وإيمانياً وضعيفي النفوس. فلا يمكن أن يكونوا الصورة التي تعكس المجتمعات العربية الطيبة والمنفتحة والمحبة للسلام، إنما لا يعني ذلك أن تبقى صامتة وغير معنية بما تتعرض له بعض الدول والشعوب العربية وحتى مواطنو دولهم، وعليهم أن يفيقوا من كبواتها المزمنة والخروج من شرانق قيدها لتعلن أمام الملأ رفضها وإدانتها للإرهابيين ومن يموّلهم ويشغّلهم لحسابات وأجندات إقليمية أو دولية.
على لبنان الذي يعتمد سياسة شحذ السياح والمصطافين العرب والأجانب لملأوا فنادق رجال المال والأعمال التعامل كدولة تملك ومؤسساتها وقوانينها، ضمن الأطر والأنظمة والإجراءات المعمول بها في مختلف دول العالم. وقبل أي شيء، على المسؤولين اتخاذ القرارات والإجراءات التي تضبط الأجواء والحدود والمرافق ومنافذ العبور، وهذا من حقه كوطن له سيادته واستقلاله. وبذل الجهود المضاعفة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، بدلاً من السجال الدائر حول صلاحيات الحكومة وتشكيل اللجان بعدما تأكدت أن تأكد استحالة حصول الانتخابات الرئاسية في المرحلة الراهنة وفتح خطوط المصالحات وإطلاق قطار الحوار الفعلي، كي لا تستمر سياسة النفاق المعتمدة لإضاعة الوقت وتبديل اتجاه البوصلة والركون إلى وعود جوفاء وكاذبة بين الأفرقاء الذين يبدو أن الوطن يغرق وهم يصرخون ويولولون من دون أن يهبوا لانتشاله وإنقاذه.
في انتظار الفرج الآتي، ولو بعد حين، على اللبنانيين الصبر وشد الأحزمة في مواجهة الإرهاب لأن ليلهم لن يطول، وسيبزغ فجر الحياة من رحم المعاناة ورائحة الدم وركام البيوت ودموع الثكالى ووجع الأيتام.