عندما نعيش Schizophrenia بين الموقف العاطفي والموقف الوطني
هتاف دهام
عاش الكثيرون ممّن تابعوا صفقة تبادل العسكريين المختطفين لدى جبهة النصرة الـ 16 بموقوفين في سجن رومية حالة انفصام بين المشاعر الإنسانية الصادقة التي أشعلتها دموع الأمهات الثكالى والأطفال الذين انتظروا سنة وأربعة أشهر عودة أبنائهم وآبائهم، وبين مشهد الذلّ والعار في عرسال وجرودها الذي أظهره الإعلام اللبناني قبل الإعلام القطري، بإجراء مقابلات مع العسكريين وعناصر قوى الأمن الداخلي وهم لا يزالون في قبضة عناصر «النصرة»، وتهنئة مراسل إحدى المحطات اللبنانية التي وقع عليها الاختيار من الإرهابيين لتغطية الحدث، سجى الدليمي بالسلامة، ونقل احتفالاتهم مباشرة، في مسعى إقليمي سياسي لتبييض صفحة «النصرة»، أكده رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط معلّقاً على إتمام هذه الصفقة بخير، هل «النصرة» إرهابية أم لا: اعتمدوا! ما يؤكد أنّ مَن سهّل عملية التبادل، يريد تقديم «الجبهة» على أنها غير إرهابية.
لو اقتصر الأمر على ذلك لكان أخفّ وطأة علينا من سماع العسكريين المحرّرين يتلفّظون بعبارات الشكر لـ»النصرة» وأميرها في القلمون أبي مالك التلي والشيخ مصطفى الحجيري ابو طاقية ، والذين من المفترض أن يتمتّعوا بثقافة وطنية أكثر من سواهم من أبناء هذا الوطن، أليس هؤلاء مَن يحمي الدولة والوطن؟ أليس هؤلاء مَن يرفع شعار الشرف، التضحية والوفاء، وأنّ البندقية هي الشرف، والصمود هو التضحية؟! إذ كيف لهؤلاء أن يقدّموا الشكر لمن قتل وذبح الشهداء النقيب بيار بشعلاني، الرقيب أول إبراهيم زهرمان، الرقيب علي البزال، الجندي محمد حمية والجندي عباس مدلج.
لا يمكن لأيّ وطني تسمّر أمام شاشات التلفزة يتابع مجريات عملية التبادل إلا أن يُصدم من العسكريين الذين لا يزالون في الخدمة العسكرية يمدحون إرهابيين ويشكرون خاطفيهم. ربما نتفهّم صدور هذه التشكّرات خلال الأسر، برغم التحفّظ على ذلك، أما وقد خرج هؤلاء ولم يعد سيف الترهيب مسلطاً عليهم، يبقى السؤال الذي يُطرح بحسب كبار العسكريين المحترفين: هل جنّدت «جبهة النصرة» بعضاً من هؤلاء العسكريين؟ وهنا ينبغي أن يكشف التحقيق الذي ينصّ عليه قانون القضاء العسكري عن هذا الارتباط إذا كان قد حصل؟ أما إذا لم تقع الواقعة ولم يكن هناك من تجنيد لهؤلاء فما هي مبرّرات تصرّفات العسكريين المنفّرة من عرسال وصولاً إلى السراي؟ فما سمعناه يطرح مسألة التربية والعقيدة الوطنية داخل المؤسسة العسكرية بخاصة أنّ التطوّع في الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى لم يكن عند كثيرين بدافع وطني، وهذا ما عبّرت عنه إحدى أمهات العسكريين خلال معارك نهر البارد بقولها لم أرسل ابني إلى الجيش ليموت.
وما يثير الاستهجان والاشمئزاز أنّ عرسال تحوّلت إلى ملاذ آمن للإرهابيين بامتياز، فهؤلاء يسرحون ويمرحون على مرأى من الحكومة، وكأنها أصبحت جزءاً من «إمارة» ابو مالك التلي الذي أعلن منذ نحو عام ونصف العام في أحد الاجتماعات التي ترأسها في عرسال بحضور نحو 40 شخصاً أنّ عرسال تابعة لـ»إمارة الإسلام». لم يفسّر أحد من الحكومة اللبنانية أو من تيار المستقبل مشهد العار في عرسال البقاعية، وكيف انّ عناصر تنظيم «القاعدة» يقومون بهذا العرض وكأنهم من أبناء البلدة. فهل ثمن تحرير 16 عسكرياً يعني التنازل عن عرسال للإرهابيين والاعتراف بمنطقة آمنة لهم ضمن الأرض اللبنانية؟ وهل الاتفاق الذي تحدّث عن ممرّ آمن من عرسال إلى الجرد وتجهيز مشفى في عرسال وتأمين الإغاثة شهرياً للاجئين في البلدة وجرودها وتأمين نقل الجرحى منها إلى تركيا هو التزام بالنأي بالنفس الذي تتغنّى به الدولة اللبنانية منذ أيام الرئيس ميشال سليمان أو انتهاكاً له؟ لكن الأكيد أنّ هذا الاتفاق انتقل من التنفيذ في الأمر الواقع إلى التنفيذ المشرّع.
في موازاة ذلك، لا يمكن بعد سنة وأربعة أشهر على بداية أزمة اختطاف العسكريين لمن تابع كلّ اللحظات الصعبة لهذا السياق الطويل من المعاناة لقضية العسكريين إلا أن يسجل البصمة الشخصية العميقة والمؤثرة لرجل الإنجاز الأول والأخير المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم الذي دأب بحزن وفرح ورابط على حدود الوجع وصولاً إلى الإيمان الدائم بأنّ لحظة الإنجاز لا بدّ آتية، ولولا حجم الثقة الشخصية التي يتمتع بها الرجل لدى المحطات التفاوضية الأساسية، والتي هي قطر عبر مدير مخابراتها غانم الكبيسي، وسورية عبر رئيس مكتب الأمن القومي السوري اللواء علي المملوك، والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي تواصل مع الرئيس السوري بشار الأسد ومع أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني لتسهيل نجاح الصفقة، لما كان هذا الكمّ من الصراع والتناقض أن يفضي إلى هذه النتيجة.
أنجزت هذه الصفقة في ذروة الانفجار الإقليمي، وفي لحظة كلّ ساحات الميدان المشتعلة المحيطة بلبنان وليست الهادئة، وقد تكون الحكومة السورية هي الأكثر مظلومية، إلى درجة أنّ سورية لم تستأهل من رئيس الحكومة «الوطني» تمام سلام حتى كلمة شكر، برغم أنه يعلم ووزيرا الصحة وائل ابوفاعور والداخلية نهاد المشنوق لكونهم أعضاء في خلية الأزمة التي تابعت هذه القضية، أنه لولا تجاوب الدولة السورية غير المشروط، لما كنا وصلنا إلى الإنجاز الذي شاهدناه، ولولا الرئيس السوري وثقته الشخصية بالسيد نصرالله واللواء إبراهيم لما كان لعائلات أبو مالك التلي التي أطلقت أن تكون هي العصب الأساس والرافعة الأقوى في عملية التفاوض، وليس سراً حجم الشخصنة والاعتبارات الشخصية في مطالب «النصرة» وليس العنصر العقائدي.
عندما حصلت عملية الرضوان في تموز العام 2008 شعر لبنان الوطني بالفخر والاعتزاز، وهو يستقبل المقاومين المحرّرين من سجون العدو «الإسرائيلي» وفي مقدّمهم عميد الأسرى سمير القنطار، ورفع رأسه افتخاراً بالشهداء الذين افتدوا تراب الوطن بالدم والشهادة، أما اليوم فلبنان يرفع رأسه افتخاراً بالشهداء علي مدلج ومحمد حمية وعلي البزال وغيرهم من شهداء الجيش والمقاومة، لكننا كلبنانيين في الوقت نفسه نشعر بالخنوع والإذلال والمهانة والعار لخضوع بعض اللبنانيين سواء أكانوا سياسيين أم عسكريين أم مواطنين عاديين للإرهاب، وكأننا أصبحنا مستعبَدين ومجتمعاً مستسلماً بالكامل لهذا الإرهاب، وفي لحظة تحلُّل ودَرْك وانهيار قيمه الوطنية.