السعودية ـ إيران… إلى الحلبة

الدكتور الشيخ صادق النابلسي

جميع الحلول التي وُضعت في طريق علاج العلاقة الشائكة بين إيران والسعودية كانت إما ملغومة أو مبتورة أو في أفضل الأحوال مفتقدة الحظ والفرص الملائمة لنجاحها. فشلت محاولات الترويض والتدجين والتوليف كلّها في تحسين شروط العلاقة بين البلدين بنقلها من حالةٍ ضدّية صراعية إلى مستقرّ التفاهمات الدولتية المصالحية، ومن مدار الأيديولوجيا إلى دوائر السياسة، ومن عوالم الهواجس إلى آليات التنافس. خريطة الأزمات طوال ثلاثة عقود وأكثر نمت وتوسّعت حتى وصلت مفرزاتها السلبية إلى انبعاث الحقد والكراهية في معظم العالمين العربي والإسلامي، وفتحت المجال واسعاً للتناقضات التي عكست صورة التغاير الحادّ والعميق بين نشأتين، إحداهما إسلامية شعبية والثانية مذهبية عصبية، وبين مسارين أحدهما يقوم على الثورية ومواجهة الاستكبار بإمتداداته كلّها، والآخر يعيش على ممالأة الدول الاستعمارية القديمة والحديثة التي أعطت المنطقة شكلها الجيو- سياسي المعروف منذ سايكس ـ بيكو.

تعتبر التداعيات الأخيرة في مدينة الموصل العراقية تطوّراً مفرطاً غير مسبوق في خطورته على العلاقات بين البلدين. السعودية المتضرّرة من تقدم المفاوضات النووية بين كلّ من 5+1 وإيران، ومن تفاهمات بدأت تخرج تفاصيلها إلى العلن بين الأميركيين والإيرانيين حول ملفات أهمّها مكافحة الإرهاب، ومن اتفاقات اقتصادية واسعة بين طهران وأنقره، ومن أهمّها احتفاظ الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بالسلطة في بلديهما، وجدت ومعها بعض الدول في مقدمها «إسرائيل» أنّ عرقلة تلك النتائج كلها تكمن في دعم «الداعشيين» والتركيز على بث النزاعات الطائفية والمذهبية والعرقية التي من شأنها إضعاف الثقل الاستراتيجي لما يُسمى بــ«محور المقاومة والممانعة».

رأت السعودية التي تقع اليوم على قمة التشاؤم بعد ورطتها الدموية في سورية وإخفاقاتها الجسيمة في العراق أن تستمرّ في لعبتها الانتحارية الهذيانية بالانتقال تماماً، وعلى نحو فاضح، من مجال السياسة إلى مجال الإرهاب. طبيعة التهديدات الوجودية التي تتعرّض لها المملكة الشائخة المشابهة لتلك التي تتعرّض لها «إسرائيل» المضطربة جعل الطريق بين الكيان الوهابي والكيان الصهيوني لضرب إيران وحلفائها معبّدة.

يشترك الكيانان في كثير من الأفكار والأهداف، فلِمَ لا يترجمان ذلك في مهمة تستهدف القضاء على العدو المشترك؟ يقول وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد: «المهمة هي التي تحدّد شكل التحالف وليس العكس». كلا الكيانين ينتابهما هاجس يومي حول أمنهما الوجودي والجغرافي. «إسرائيل» سوّرت نفسها بجدار من العنصرية، والسعودية بجدار من العصبية، وردّتا على «صحوة» الإمام الخامنئي الإسلامية بــ«صحوة عنصرية» و«صحوة مذهبية» أما الاستراتيجية المعلنة التي يُراد منها إحداث تغيير كبير في صورة المنطقة فهي استراتيجية الإرهاب كتدبير للبقاء والاستمرارية والتحكم والهيمنة. ولعلّ في تجربة بن غوريون وعبد العزيز آل سعود في العدوانية والقتل الجماعي والانتقام والتدمير المنهجي ما يعزز هذه الرؤية.

التساكن المضطرب الذي حكم العلاقات الإيرانية ـ السعودية يتجه اليوم إلى دخول مسار انفجاري بعد التطورات في الموصل. ما حصل يمسّ الأمن القومي الإيراني في الصميم. إنه قطعاً أخطر من القواعد الأميركية المنتشرة على أرض الممالك العربية والدول المتاخمة لإيران، لكونها محكومة بسقوف استراتيجية شديدة التعقيد والحساسية، وأي تهديد يخرج منها ستكون ارتداداته كارثية النتائج على مستوى العالم كله، بينما سيكون إطلاق سراح البرابرة «الداعشيين» ليذرعوا على طول الحدود مع إيران بلا سقوف وضوابط سياسية أو أخلاقية، وستكون أضراره أكيدة لناحية استنزاف القدرات الإيرانية مثلما حصل إبان حرب الخليج الأولى. في التقديرات التي يمكن جمعها من خلال التجرّؤ السعودي على تجاوز الخطوط الحمر في العراق نجد مجموعة من العوامل النفسية والتدابير الثأرية التي تشي بذهنية بدوية قبلية فحسب، بعدما أبانت التحولات الجيوبوليتكية أنّ عصر الممالك آخذ في الضمور والزوال. تظن السعودية أنها تلعب «البولينغ» منفردة، فيما تغوص إيران في برودتها. ظنٌ في الواقع لا يغني عن الحق شيئاً. فإيران لن تسمح بوصول النار إلى أسوارها مهما كلّف الأمر، وستتصدّى للتكفيريين ولو اقتضت الضرورة دخول العراق، وهذا الموقف عبّر عنه صراحة وبلا وجل الرئيس حسن روحاني في إشارة إلى عزم إيران التحرك واتخاذ الإجراءات كافة لحماية أمنها والدفاع عن سيادتها.

المفارقة أنّه في حين كانت تسعى إيران إلى إعادة التوازن إلى علاقتها مع السعودية صعّدت الأخيرة استراتيجياً. تصعيد غير مأمون الجانب إذ يقوم على خراب القيَم قبل خراب البلدان، وعلى تلاشي الحدود التي لن تكون بعدها إمارات وكيانات بل سفاحون يمارسون طقوس القتل على كلّ من يخالفهم الرأي، وعلى جهلة يفتون بقطع التيار الكهربائي طيلة شهر رمضان لأنّه شهر للعبادة! يمكن للسعودية العثور على إرهابيين ينفذون مخططاتها، ويمكن لها أن تقول «دع الإرهاب يعمل، دعه يمر». وستنجح في أن يعمل، لكن قطعاً لن يمرّ إلاّ على جثتها!

كاتب وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى