«السلطان» الأميركي وبوتين «المنشقّ» عن «القائمقامين»
د. محمد بكر
يستعر السباق العسكري، وتتكثف الحميّة الغربية لمواجهة «داعش» في سورية، ويتعزز ويتوالى الانخراط في الحرب السورية من الجوّ تحت الإمرة الأميركية، وفيما انضوت بريطانيا للقتال تحت الراية الأميركية، تستعدّ ألمانيا للانضواء ذاته، وكذلك أعلنت بلغاريا، فيما يستمرّ الروسي في «الشذوذ» عن تحركات ومسارات من يسمّيهم «الشركاء الدوليين»، ويستعدّ هو الآخر لتجهيز قاعدة جوية ثانية في الشعيرات بريف حمص.
من بلغراد كان لطروحات «السلطان» الأميركي شكلها وقالبها الخاص والمميّز، والذي لا يشبه أحداً من حلفائه وخصومه لناحية معروضهم من الحمية و«النشاط» غير المعهود، إذ دعا كيري إلى نشر قوات عربية وسورية وليس غربية لمواجهة «داعش»، كذلك أعلن أوباما في مقابلة مع شبكة «سي بي إس» أن ّبلاده لن تشرع بغزو العراق وسورية بإرسال كتائب عبر الصحراء، مضيفاً: «إننا سنعمل على تضييق الخناق على داعش وسندمّره في النهاية، وهذا يتطلب مكوناً عسكرياً».
كيري الذي أفرغ كلّ تلك الطروحات «الجميلة والفاعلة» من جمالها وفاعليتها عندما استمرّ في وضع ما يسمّيه الانتقال السياسي في مقدّمة أي حديث وفي مناسبة وغير مناسبة، وكحاجزٍ تُصفى عنده الإرادات، وتُصفر نقاط التلاقي، إذ أكد على هامش الاجتماع الوزاري لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا ما مضمونه: «إذا تمكنا من تنفيذ انتقال سياسي في سورية سيكون بالإمكان جمع الدول والكيانات معاً، الجيش السوري والمعارضة وأميركا وروسيا، وهذا ما يحقق فوزاً سريعاً على الإرهاب»، مضيفاً: «لكم أن تتخيّلوا مدى السرعة في القضاء على آفة داعش في غضون بضعة أشهر إذا كنا قادرين على التوصل إلى الحلّ السياسي».
فكيف يمكن فهم تلك المراوغة الأميركية التي تتحوّل من الحاجة إلى عشرات السنين للقضاء على «داعش» بحسب ما أعلنه المسؤولون الأميركيون غير مرّة، إلى بضعة أشهر إذا ما أصبح الانتقال السياسي في سورية نافذاً؟ وكذلك ما يقرنه الأميركي بسرعة تحقيق الفوز على «داعش» إذا ما تم التوصل لحل سياسي؟
ما يؤرق الأميركي ويزعجه ويقضّ مضجعه، وما يؤجّج الفُرقة ويوسّع الهوّة بينه وبين الروسي ليس تحديداً جزئية مصير ومستقبل الأسد، فما تحدث عنه مؤخراً رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لجهة أنّ حدّة الاختلاف حول مصير الأسد قد خفّت بين المشتبكين هي الصورة الأقرب في اعتقادنا للمشهد الصدامي الحالي، لكن الحراك الروسي و«زخم الزعامة» الحاضر في سلوكه السياسي الذي لم يشق عصا الطاعة الأميركية فقط، بل بات يضرب بها عرض الحائط، ويصوغ السيناريوات، ويعزز الأحلاف بعيداً من العين والإرادة الأميركية، هو ما يشكل الباعث الرئيس للامتعاض الأميركي والمولد للمراوغة واللعب بالألفاظ والمماطلة، إذ يدرك الأميركي أنّ التسليم الروسي بوحدانية قيادته وإشرافه العام على حلّ سياسي توافقي ولو أفضى إلى بقاء الأسد، هو ما يشكل جوهر النصر في اشتباكه الدولي مع الروسي، ومن هنا نفهم ما قاله أوباما على هامش قمة المناخ في باريس ستدرك روسيا في نهاية المطاف أنّ «داعش» هو الخطر الأكبر والمشترك، لذا عليها الانضمام لتحالفنا ، فأمام الاعتراف الروسي وتسليمه للأميركي بإراداته السياسية تغدو جزئية مصير الأسد «هامشية»، ومن الممكن من وجهة النظر الأميركية حرف سلوك الأسد فيما لو بقي في سدة الحكم تحت تأثير وضغط من بات تابعاً دولياً للأميركي.
في أحد مقالاته الذي يتحدّث عن الأحادية القطبية المنشور في صحيفة «نيويورك تايمز» في عام 2009 أورد الكاتب الأميركي المعروف نعوم تشومسكي: لقد تعامل بوش الابن وزمرته مع العالم باعتباره «قائم مقام» التابع لهم، وهذا التوصيف أطلقه كبير مستشاري الرئيس الأسبق كينيدي على علاقة بريطانيا بالولايات المتحدة في ستينيات القرن الماضي وتحديداً في ذروة أزمة الصواريخ الكوبية، هذا التوصيف الذي يُعرف وفق المنطق المألوف والمزركش بـ«الشريك»، ويتابع تشومسكي بالقول: وعند إعلان غزو العراق أخطروا أي بوش وزمرته الأمم المتحدة بأنها إما أن تتبع الأوامر الأميركية بلا تفكير أو تصبح غير ذات صلة بالموضوع، أما أوباما فيتبنّى مساراً مختلفاً، ففي العلن يحيّي قادة وشعوب العالم باعتبارهم شركاء، وفي السرّ يواصل التعامل معهم باعتبارهم قائممقامين، والشعوب والدول فقط تفتتن بخطابه.
وهذا تماماً ما يريده الأميركي من الروسي لجهة أن يبقى في إطار «القائم مقام» في سياسته وطريقة تعاطيه مع الولايات المتحدة، وهو ما أطلقت عليه روسيا النيران، وظهّرت نفسها من تحت الركام والدمار السوري بمنزلة الندّ، وتواصل «حشر» الرأس بالرأس الأميركية وتحديها العلني «والانشقاق» عما تريده أميركا من بقية الدول إذعاناً وتُبعاً لا يكاثرون على ألسنتهم سوى مفردات السمع والطاعة.
من بوابة «السلطان والقائم مقام»، تهبّ الريح الدولية عاصفة بالمنطقة تدفع فيها سورية الفاتورة الدولية، إذ تتدفق على أرضها شلالات الدم من دون أن تلامس أو تقترب من عوامل جفافها وانقطاعها.