مخيم شعفاط… وأهمية الحاضنة الشعبية
راسم عبيدات
قلت في أكثر من مقالة إنّ من شروط استمرار وتطوّر وتصاعد الهبّة الشعبية هو وجود بيئة وحاضنة شعبية، فمن دونها يبقى العمل في الإطار النخبوي والفوقي، فالحاضنة الشعبية للانتفاضة أو الهبة أو الغليان أو التمرّد، هي بمثابة الماء للسمك، ولذلك فإنّ تجربة مخيم شعفاط واحدة من التجارب في سفر النضال الوطني التحرّري الفلسطيني التي تستحق أن تعمّم وأن يُستفاد منها في أكثر من موقع ومجال، والمسألة ليست مقتصرة على تضافر وتكاتف الجهد الشعبي في تأمين بيت موقت لأسرة الشهيد ابراهيم العكاري، وتصميم أهل المخيم بمختلف قطاعاته ومكوناته ومركباته المجتمعية والسياسية، وفي المقدّمة منها الشبابية، على إزالة ركام البيت المفجّر وإعادة بنائه من جديد، بل وأيضاً هنا وجدنا بأنّ القطاع الخاص لعب دوراً في عملية توفير مستلزمات واحتياجات البيت من أثاث وأدوات كهربائية وما يحتاجه من وسائل وأدوات كي يصبح جاهزاً للسكن وفي زمن قياسي، وهذا يؤكد الحاجة الى توسيع القاعدة الشبابية في الهبّة الشعبية، لكي تشمل قطاعات وفئات أخرى من شعبنا الفلسطيني.
الاحتلال عجز أكثر من مرة عن اقتحام مخيم شعفاط من أجل القيام بعمليات تفجير بيوت الشهداء، وفي كلّ مرة كان يحاول فيها، كان يجد التفافاً شعبياً وجماهيرياً واسعاً حول بيوت الشهداء، ما يضطره الى التراجع والانسحاب، ولكن هذا الاحتلال الغاشم المتسلح بنظرية الاستعلاء والعنجهية، وبأن العرب والفلسطينيين فقط يخضعون بالقوة والعصا، وبأنه محظور على حكومة الاحتلال التنازل والتراجع في وجه شبان الانتفاضة أو شعبنا الفلسطيني، فهذا يمسّ بهيبة جيشها وحكومتها وسيادتها، ولذلك تراجعها بغرض وضع خطط جديدة تمكنها من تحقيق هدفها بتفجير بيوت الشهداء، ودخول المخيم بأقلّ الخسائر والمواجهات، ورأت أن الوقت المناسب، لذلك هو عندما يذهب العمال إلى أعمالهم والطلاب الى مدارسهم، هؤلاء الذين يشكلون رأس الحربة والعصب الرئيس لقيادة المواجهات مع جنود الاحتلال في حال اقتحامهم، ولكن رغم ذلك وجدنا بأن هاجس الخوف كان يسيطر على الاحتلال وجيشه، حيث أن عملية غزو واجتياح المخيم بهذه الأعداد الكبيرة من الجنود المدججين بالعدة والعتاد والسلاح، كان يراد منها هدف آخر هو بث الرعب والخوف في قلوب أبناء شعبنا، والقول بأنه لا جدوى من المقاومة أو المواجهة، ولكن رغم كل ذلك ومشاهد الاقتحام، فإن الصورة تقول بشكل واضح بأن هذا الجيش وبهذه الأعداد الكبيرة قد انهزم أمام أطفال مخيم لا يملكون سوى إرادتهم وحجرهم وصدورهم العارية للمواجهة والدفاع عن بيوت الشهداء.
جماهير شعبنا وأطفالنا وشبابنا الشهداء عندهم خط أحمر، فالشهيد هو رمز النضال والمقاومة… رمز العزة والكرامة وعنوان قضية وشعب، والمخيم أصل وجذر الحكاية، وهزيمة المخيم تعني الكثير لهم ولشعبنا الفلسطيني، فالمخيمات على مدار سفر النضال الوطني الفلسطيني شكلت الحاضنة لنضالنا الوطني، هي حضنت البندقية والكفاح المسلح، هي من كانت تتحمل العبء الأساسي في إبقاء شعلة الكفاح وجذوة النضال مشتعلة، من اليرموك في الشام إلى عين حلوة في طرابلس فالوحدات في الأردن الى كل مخيمات شعبنا في الضفة الغربية وقطاع غزة.
المخيم هو الشاهد على المأساة والجريمة، ثمانية وستون عاماً مرت على نكبة شعبنا، وما زالت نكبته مستمرة وتجلياتها في أكثر من مكان، والمجتمع الدولي بدلاً من أن يضع حداً لهذه المأساة الإنسانية، بإجبار حكومة الاحتلال على تطبيق قرارات الشرعية الدولية واحترام اتفاقياتها ومواثيقها ومعاهداتها، نجد هناك من يدعمه بشكل لا محدود ويوفر له الغطاء والمظلة في المؤسسات الدولية، لحمايته من أية قرارات أو عقوبات قد تتخذ بحقه أو تفرض عليه، نتيجة عدوانه وجرائمه وممارساته القمعية والإذلالية والتنكيلية بحق شعبنا الفلسطيني، وليصل الأمر الى أبعد من ذلك، حيث وجدنا هناك من يقف الى جانب الجلاد، ويعتبر بأن له الحق في الدفاع عن نفسه، ويدين الضحية ويطالبها بإدانة واستنكار نضالاتها وتضحياتها، في «تعهير» غير مسبوق لكل قيم ما يسمى بالحرية والعدالة والديمقراطية وحق الشعب في النضال المشروع من أجل نيل حريتها واستقلالها.
الثاني من كانون الاول 2015 سيحفر عميقاً في سفر النضال الوطني التحرري الفلسطيني، سيسجل بأن أطفال مخيم شعفاط بحجارتهم العارية هزموا جيش الغزاة الصهاينة المكون من أكثر من 1200 جندي بكامل عتادهم وعدتهم وجرافاتهم وبلدوزراتهم وكلابهم، هؤلاء الأطفال كانوا يرددون ما ردده الراحل الكبير سميح القاسم أحد شعراء المقاومة الذين بشر فيهم الشهيد الأديب المبدع المناضل غسان كنفاني… واجهوا هذا الجيش الغازي على وقع تقدموا… تقدموا… كل سماء فوقكم جهنم وكلّ أرض تحتكم جهنم، تقدموا… تقدموا… بناقلات جندكم وراجمات حقدكم وهدّدوا… وشرّدوا… ويتّموا… وهدّموا… لن تكسروا أعماقنا… لن تهزموا أشواقنا… نحن القضاء المبرم… تقدّموا… تقدّموا.
ما حدث في مخيم شعفاط يثبت بأنه مع اقتراب الهبة الشعبية من نهاية شهرها الثالث، لم تظهر أيّ علائم تراجع أو تراخٍ على هذه الهبية، بل هي تتجذر وتتصلب وتطور كلما زاد القمع الصهيوني، وإرادة النضال الوطني لم تهزم، وشبان الانتفاضة لن يعودوا الى «بيت الطاعة» تحت أوهام بأن هناك مشاريع سياسية في الطريق، أو الخوف والرعب من كل أشكال القمع المتنوعة التي تمارس بحقهم وحق شعبنا من قبل الاحتلال. فهؤلاء الشبان قد بنوا مقطعاً ميدانياً وأضافوا سطور صفحاته من نضالاتهم وتضحياتهم، وهم بذلك يسقطون نظريات ومقولات قادة الحركة الصهيونية والمشروع والحكومة الصهيونية، بأن «القوة والعصا أفضل وسيلة» وإزاحة من في المقدمة يبدد القطيع، هم كسروا مرحلة التراخي وبدّدوا الأوهام، وحققوا إنجازات سياسية ومعنوية، صحيح أنها غير كافية لكي تحدث تغيّراً استراتيجياً نحو انكفاء الاحتلال ومشروعه الاستيطاني أو تفكيك أحد تمظهراته المستوطنات، ولكن ما هو أصحّ بأن الفصائل أمام لحظة تاريخية فاصلة، إما أن تكفّ عن التنظيرات و»الجعجعات» وتنخرط في الميدان الى جانب هؤلاء الشبان، وإما فإن ما ينتظرها هو المزيد من النزف والتراجع في دورها وأدائها وقدرتها على القيادة وكسب ثقة الشارع.
المخيم أصل الحكاية، فهزيمة المخيم تعني الكثير لهم ولشعبنا، فالمخيم هو الشاهد على المأساة والجريمة، والمخيم يقولها أطفاله بأعلى صوتهم في وجه كل التطبيعيين والمتآمرين على القضية فلسطينيين وعربان ومن يدعون أنهم حلفاء إقليميون ويذرفون دموع التماسيح على فلسطين، حق العودة ليس للبيع ولن يسقط بالتقادم وهو حق تاريخي وقانوني فردي وجمعي لا يحق لأحد التلاعب فيه أو المساومة عليه.
Quds.45 gmail.com