القافلة إلى عصر الحجر الموعود

سميح سليمان

أكثر ما أدهشني من بين التعابير والمصطلحات المثيرة للعجب التي طفت على صفحة الفواجع الوطنية والاجتماعية التي ألمّت منذ حرب الخليج الثانية سنة 1991 بالعراقيين ثمّ بالسوريين، تعبير «اجتمعت أو قرّرت العشائر». المعروف أنّ هذه الأخيرة ليست حزباً سياسياً أو حلقة من حلقات «الذكر» الفكري الوطني أو القومي، إذ لا ينتمي إلى العشيرة أي كان.

بناءً عليه، يحق لنا أن نتصوّر أنه توجد صيغة تُنظِم التعايش، أو تسوية أو صفقة، بين الدولة من جهة، وبين العشيرة من جهةٍ ثانية، واستطراداً بين الدولة وبين الجماعات الإثنية، وبين الدولة وبين الطوائف الدينية وكلّ من المذاهب التي تتفرّع عن هذه الطوائف.

يمكننا أن نفترض أيضاً أنّ العلاقة بين الدولة من جهة، وبين العشائر والجماعات والطوائف والمذاهب من جهةٍ ثانية، تتأثّر بالظروف الداخلية. كما أنها ليست على الأرجح بمعزل عن العوامل الخارجية. وإذا أضفنا إلى هذا كلّه تعقيدات الطرق والوسائل من أجل الوصول إلى السلطة اتّضح لنا أنّ طلب هذه الأخيرة يكاد أن يكون الشّغل الشاغل للمكوّنات الوطنية، علماً أنّ هذه، هي في الواقع كيانات جمعية ضمن كيانات جمعية أخرى، أو بالأحرى إلى جانبها! هنا يجب أن نأخذ بالحسبان أنّه لا توجد قنوات اتّصال تسمح للفرد الانتقال من موقع إلى آخر!

من نافلة القول إنّ تبوّء الزعامة الطائفية أو المذهبية، لا يكون بالطرق الديمقراطية. تجدر الإشارة هنا إلى «الديمقراطية» العشائرية أو العائلية، بمعنى أنّ العشيرة تقف عادة «كرجل واحد» خلف سيدها أو شيخها!

ينبني عليه، أنّه يمكننا أن ننعت المجتمعات في البلاد العربية بأنها مجتمعات «عائلية»، أي أنّ وحدتها والتئامها يرتبطان بوجود «الأب» وبقدرته على ممارسة السلطة. ومهما يكن، فغالباً ما يقع النزاع بين الأشقاء إذا ضعف هذا «الأب» أو وافته المنيّة. ينجم عنه أنّ البلاد العربية تكاد أن تكون في حالة حرب أهلية دائمة من أجل السلطة، حرب مرتفعة التكاليف على جميع الصعد.

وما يبعث على الأسف واليأس، هو أنّ هذه الحروب الأهلية هي ذاتية الاشتعال، إذا جاز التعبير، بواسطة سيرورة تُمكّنُ، من ناحية، تعطيل فعل العوامل الداخلية من أجل إطفائها وإيجاد أساليب لا عنفية لتبادل السلطة، وتُبقي من ناحية ثانية، أبواب البلاد مُشرّعة أمام جهات أجنبية تريد إيقاد هذه الحروب الأهلية، تارةً باسم رب العالمين وتارة أخرى باسم «مكرمات» إله النفط!

والعجب العجاب في هذه القضية، أنّ الذهنية القبلية العشائرية التي تُسبّب الاحتراب الدائم على السلطة ما أدّى إلى إجهاض مشروع الدولة الوطنية العربية، انتقلت إلى الأحزاب والحركات السياسة العربية واستطاعت تفكيكها، ولم تسلم من سمومها مقاومة المستعمر الذي احتلّ الأرض. رغم أنّ مقاومة العدو تختلف عن النشاط السياسي، كونها لا تحتمل، أو بالأحرى لا تتطلّب، بالضدّ من العمل السياسي الوطني، فتح المجال أمام الآراء المختلفة والحوارات، بحثاً عن خُلاصات تُرضي الأكثرية. العدو يمثّل خطراً على الجميع، اللهم إلا إذا كان يهدّد فئة دون غيرها. وهذه مسألة كبيرة!

بناءً عليه، فإنّ العدو الواحد يتطلّب اتحاد الجميع في جبهة مقاومة وأحدة، ولكن هذا لم يتحقق في زمان المقاومة الفلسطينية التي تجاوز عدد فصائلها العشرين. يقولون في السياق نفسه، إنّه في سورية بلغ عدد تنطيمات وأحزاب المتمرّدين أكثر من مئة، وإنّ وراء كلّ منها دولة استعمارية أو نفطية!

لقد شبّه الشيخ عبد الله العلايلي في كتابه «مقدّمات لفهم التاريخ العربي» العصبية بـ»الميكروب الذي يستخفي في أنحاء الدم، حتى إذا هادنه العلاج ظهر بعنفه وقوته وانتشر بحُمّاه».

كان مستغرباً بحسب رأيي أن تستقوي حكومة «حزب البعث العربي الاشتراكي» في العراق «بالعشائر العربية» أثناء الغزو الإمبريالي الأميركي ـ الإنكليزي، وما كان أكثر غرابة هو ليس فقط استمرار وجود العشائر، ولكن هو اعتراف السلطة السياسية العلمانية بدور هذه العشائر. أعتقد أنّه بالإمكان إبداء الملاحظة نفسها بخصوص سورية… فلقد نقل الإعلام الرسمي السوري في بداية الحرب الحالية، تقارير عن اجتماعات تنادت إليها «العشائر» من أجل «تنظيم» مقاومتها للعدوان.

لا جدال في أنّ الخطاب الإعلامي الحكومي، في سورية والعراق، في موضوع العشائر من ناحية ومبادئ حزب البعث، كما نصّ عليها نظامه الأساسي من ناحية أخرى، هما على طرفي نقيض. مجمل القول إنّ المزاج العقلي القبلي لا يزال طاغياً رغم الديانات والاحتكاك بالثقافات العالمية والاستفادة المُتاحة من تجارب شعوب الأرض، فتارة هو يتستّر بالدين وتارة يتخفّى في فكر سياسي أو فلسفة اجتماعية.

جاء النبي العربي بكتاب واحد، حمل رسالة واحدة، ولكن العصبية القبلية استطاعت في وقتٍ قياسي أن تُنتج قراءات متخالفة وتفاسير متضادّة، شكّلت على مدى العصور مادّة للمنازعة الدموية على السلطة، وسبباً أساسياً من أسباب الضعف والتخلّف اللذان طبعا، باكراً، المجتمعات العربية الإسلامية، بعكس المجتمعات الإسلامية غير العربية، التي تجاوزت القبلية وتعافت من آثارها.

ما يهمّني في الواقع هو التأكيد على أنّ القبلية هي مُناقضة للوطن، وأنّ التمذهب هو وجه من أوجهها. إنّ المزاج العقلي القبلي يُفشل ويُجهض المشروع الوطني حيثما ينتشر. أنا على يقين من أنّ جماعات المتمرّدين في سورية التي تجاوز عددها، بحسب بعض المصادر، المئة، إنّما هي تمثّل مئة قبيلة، وكلّ قبيلة تريد سورية أو كسرة من سورية بمقاسات تلائمها. لا حرج في القول إنّ الانشقاقات وكثرة الأفرقاء إذا ظهرت في ثورة أو في حركة سياسية فإنّها دلالة على استفحال العصبية فيها، وبالتالي هي خطر يتهدّد الوجود! ليس في سورية «ثورة»، وإنّما حرب استعمارية أشعلت مئة محرقة!

انتصرت جبهة التحريرالوطني الجزائرية لأنها استطاعت المحافظة على وحدتها، رغم الصراعات الداخلية. بعكس حركة التحرّر الوطني الفلسطينية التي تلاشت وتشقّقت عندما تعدّدت مشاربها. اجتمعت الأحزاب والحركات الوطنية في لبنان حول برنامج إصلاحي، ولكنّها تبدّدت تحت تأثير أموال النفط والضغوط التي مارستها عليها نُظُم الحكم المهزومة والمُفلسة، فخلت الساحة للعشائر والمذاهب.

مثلما تخوّفت هذه النُظُم من أن تتحوّل المقاومة الفلسطينية إلى مقاومة جماهيرية عربية ضدّ المستعمرين «الإسرائيليين»، أقلق بدوره نظامُ الرئيس العراقي صدام حسين آل سعود والمتعاونين معهم، فدبّروا له المكائد، وتوافقوا مع الإمبرياليين الأميركيين والبريطانيين على تدمير العراق وضرب وحدة شعبه بوساطة إحياء النعرات القبلية والمذهبية! لم يكن صدام حسين متزمتاً في الدين، أو من المرتدّين، فلماذا قاتله آل سعود، ألأنه طغى؟

كان الرئيس جمال عبد الناصر مصرياً قومياً عربياً، انطلاقاً من قناعة بأنّ مصر بحاجة إلى سورية والعراق، وبأنّ العكس صحيح أيضاً، فقاومه آل سعود. أرابتهم القومية العربية خشية من أن تنتشر وتصل إلى نجد والحجاز. قاوموه بكافة السبل إلى أن نالوا منه بواسطة المستعمرين في حرب حزيران 1967.

ليست الحكومة السورية طائفية أو مذهبية، ولكنّها اضطرت إلى محاربة حركة «الإخوان المسلمين»، الذين أعلنوا التمرّد ضدّها في نهاية سبعينيات القرن، حيث اقترفوا جرائم بشعة مجزرة مدرسة الضباط في حلب ضدّ الأفراد والجماعات، متعمّدين إضفاء طابع طائفي ومذهبي على المصادمة بينهم وبين السلطة، ظنّاً منهم أنّ الفرصة سانحة لإسقاط هذه الأخيرة والاستيلاء على الحكم.

لم تكن السياسة التي أتبعتها الحكومة السورية منذ العام 1970، وحتى يومنا، مختلفة عن سابقاتها تجاه الأديان. يُصرّ مراقبون كثيرون على القول بأنّ عدد المساجد والمدارس الدينية والمعاهد الشرعية تضاعف أثناء هذه الفترة بصورة ملحوظة. مهما يكن لم نسمع أنّ آل سعود أو حكّام الكويت والخليج احتجّوا ضدّ سياسة الحكومة السورية تجاه الديانات وممارسة الشعائر الدينية، بل يمكننا أن نؤكّد أنّ التنسيق بين الحكومة السورية من جهة، وبين آل سعود من جهة ثانية كان، للأسف، قائماً على أفضل وجه. ولولا السوريون لما صار بعض حكّام لبنان مزدوجي الجنسية، سعودية ـ لبنانية!

خلاصة القول وقصاراه، إنّك لا تجد مبرّراً للحرب الأميركية – الأوروبية على سورية، التي انضمّ إليها الخليجيون، إلا الرغبة في تدمير سورية وإفراغها من أقليّاتها الدينية والعرقية، تمهيداً لاقتسامها بين العثمانيين الجدد، وبين «إسرائيل»، وبين آل سعود. اللهم إلا إذا برُؤَ السوريون الذين لبّوا دعوة آل سعود والعثمانيين الجدد، من العصبية المذهبية والعرقية، والتحقوا بالجيش العربي السوري وبالمقاومة الشعبية السورية، للذوْد عن سورية التي يتهدّدها من الجنوب المستعمرون «الإسرائيليون»، ومن الشمال العثمانيون الجدد، ومن الشرق قبائل ظلامية تحت لواء «داعش» وتنظيم «القاعدة»، يموّلهم آل سعود ويدعمهم الأميركيون والأوروبيون!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى