الزعامات الكردّية العراقية تساوم مع الشيطان
فهد المهدي
شكّلت علاقات إقليم كردستان العراق مع الكيان الصهيوني عاملاً حاسماً، ولذلك ينظر إليه بريبة، ففي تصريح لمسعود البرزاني قال: «إذا كان حراماً على العرب أن يتحدثوا مع «الاسرائيليين» فهذا الحرام لا ينطبق على الأكراد، لأن الأكراد ليسوا عرباً». ومنذ التوجهات الأميركية بتأسيس «شرق أوسطية» تركّب على مقاسات المصلحة الصهيونية في المنطقة كانت الزعامات الكردية في العراق من أوائل الذين سجلوا شهادات التأييد لهذا التوجه، فرؤية السياسية الكردية تفترض أنه في الإمكان استثمار توازنات المنطقة لمصلحتها، عبر اتصال الأكراد بالصهاينة من خلال قنوات سرية، رغم نفي بعض الأطراف ذلك، والتعاون بين الطرفين الذي زاد على نحو ملحوظ بعد سقوط صدام حسين، ودخول مقاولين صهاينة وشركات صهيونية إلى كردستان العراقية، وقيام وحدات كوماندوز «إسرائيلية» بتدريب قوى البشمركة الكردية لتصبح القوة العسكرية الأكبر في العراق بعدما كان لها الضلع الأكبر في عملية تفكيك الجيش العراقي السابق، واعتقادهم أن التواصل مع الصهاينة ورقة لجذب الموقف الأميركي إلى جانبهم. وكسب الموقف الأميركي كشرط أساسي لتحقيق أهدافهم، جعل الأكراد يعيشون خارج العراق من دون أن يشكّلوا جزءاً منه، ومن الطبيعي أن يثير هذا السلوك تحفظات لدى الكثيرين حيالهم.
دخل العراق نفقاً مظلماً في الأزمة الراهنة التي تعصف على أيدي تكفيريي «داعش» وتمتد إلى سائر المحافظات العراقية بعدما سيطروا على الموصل أكبر ثاني محافظة عراقية، وفرار رجال الشرطة العراقية والجيش من مواقعهم. وكانت نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية في تشرين الثاني 2004 تصريحاً لقائد القوات الأميركية في الموصل ورد فيه: «أن القوات العراقية من الشرطة والجيش لا تجمع من العرب العراقيين أحداً، فالقوات كلّها من الشرطة والجيش في الموصل من قوات البيشمركة».
ما حصل في العراق راهناً لا يمكن قراءته من وجه واحد، لأن ذلك يؤدي إلى تبسيط عوامل خطيرة أو تتحوّل هذه القراءة إلى عملية قفز على مسائل حساسة مثلما يفعل خطاب بعض الفصائل المعارضة أو حتى الخطاب الكردي نفسه، فأيّ تجاهل لثنائية أثبتت الوقائع خطورة مفاجأتها وإسقاطاتها المباشرة على الوضع العراقي، يعني تجاهلاً متعمداً لتداعياتها أيضاً التي يصعب عندئذ التحكم في مسار انزلاقاتها الخطيرة.
الزعامات الكردية اليوم خارجة على إجماع الشعب العراقي ودخلت حسابات الفرصة السانحة، ما يحوّل اللعبة العراقية الراهنة في نظرهم إلى مكر سياسي لتحقيق أهداف فئوية يستحيل توصيف النتائج التي تترتب على تطبيقها، بالمقاس الذي يتطلعون إليه. فالاستراتيجية الكردية، باتت اليوم واضحة المعالم على ضوء السياسة التي تنتهجها الزعامات الكردية خاصة بعد التنسيق الاستخباري بين الأكراد والأميركيين لفتح جبهات حرب واسعة تمتد من الموصل إلى باقي المحافظات العراقية وتعتبر بمثابة فرصة مناسبة لتحقيق دولة كردية مستقلة في شمال العراق عاصمتها كركوك، ما دعا بارازاني إلى التعبير عن هذه الفرصة عبر «سي إن إن» قائلاً: «إننا نشهد عراقًا جديدًا يختلف تمامًا عن العراق الذي عرفناه، وإن الحوادث الأخيرة تؤكد أن على الشعب الكردي أن «يغتنم الفرصة» ليحدد الآن مستقبله».
لدعم الولايات المتحدة هذا التطلع أسبابه السياسية المتعلقة بتوازنات المنطقة، ومنع أي انقلاب للمعادلة السياسية في غير مصلحة الكيان الصهيوني، إلى جانب أسباب سياسية أخرى تفرضها المتغيّرات في الساحتين الإقليمية والدولية، ولهذا الدعم سقف في نظر واشنطن وله حدود أيضاً، فالأكراد قد يحققون بعض المكاسب السياسية على الأرض، لكن ذلك يجب أن يرتبط بالمصلحة الأميركية »الإسرائيلية» أولاً، ولا تسمح الإدارة الأميركية بانفلات الوضع على غير مقاسات تلك المصلحة، حتى وإن يكن الأكراد ينشدون إلى اقتناص الفرص ومساومة هذه المصالح بدرجة عالية.
هذه الحقيقة تبدو متجلية في التصريحات الكردية والأميركية من خلال الزيارات المتبادلة للطرفين، فلغة المساومة الكردية تكشف عن اعتقاد الزعامة الكردية بأن السياسة الأميركية يمكن إغراؤها بنفط كركوك الغنية بالنفط، فقال البارزاني: «إننا مستعدون للعمل مع السياسة الأميركية في هذه المنطقة، وإذا كان الدعم قوياً إلى درجة كافية يمكننا إعطاء حقل كركوك لشركة أميركية لتشغيله».
الزعامات الكردية تضع البيض كله في سلة المساومة اليوم، فاستخدام الزعامات الكردية هذا الأسلوب في ظل الخطر الصهيوني الذي يهدد المنطقة برمتها، بالإضافة إلى حساسية شديدة من الملف الكردي لدى دولتين كبيرتين في المنطقة هما تركيا وإيران، وتطبيق الماضي على الحاضر على طريقة السياسية الكردية، قد يتحول إلى نوع من الانتحار الذي يهدد الأكراد في العراق وخارجه، فالأهداف الدولية قد توفر دعماً محدوداً للأكراد، لكنها بالتأكيد لا تخدم الأهداف القومية التركية لأسباب تفرضها المصالح قبل أي شيء، فلماذا لا تزال الزعامات الكردية تراهن على العامل الأجنبي عامة والصهيوني خاصة، بعد جميع التجارب السابقة التي أثبتت أنه رهان فاشل ؟ أم أن هذه الاستدارة في الوضع العراقي تنطبق على ما كانت تتطلع إليه الزعامات الكردية وتعمل لأجله فأيقظت الماضي لحظة واحدة لتنتزع اعترافاً دولياً يحقق الحلم بإقامة دولة كردية مستقلة؟
أعتقد أن الزعامات الكردية لم تدرك تماماً حقيقة أنها ورقة خارجية تستخدم في المنعطفات السياسية الخطيرة وأن جريها خلف الحمار الأجنبي لن تجني منه سوى «ظراطه».