دولة «الخلافة الداعشية» تعلن الحرب على… العلوم السياسية!
د. وفيق إبراهيم
تطوّرت العلوم السياسية منذ الفتوحات الإسلامية إلى القرن الراهن، وقدمت إلى الإنسانية نماذج حديثة للدول تتراوح بين الجمهوري والملكي، على قاعدة العودة إلى الناس في تكوين السلطات التنفيذية والتشريعية. وارتضت دول العالم جميعاً هذه المعادلة وطبقتها حيناً وتحايلت عليها حيناً آخر بأشكال هجينة من «جماهيريات» وإمبراطوريات وأمميات. لكن القاعدة العامة تقول إن الشكل الغيبي للدول ولّى إلى غير رجعة مع سقوط الدولة الدينية في أوروبا ونشوء مفهوم الدولة الديمقراطية المعاصرة.
لا بأس من الإشارة إلى أن الممالك العربية في الخليج حصراً لا تزال في العصر المملوكي، لكنها لا تدعي وصلاً بـ«الخلافة»، وتنتمي إلى فئة الدولتين العباسية والأموية القائمتين على التوارث. وها هي «داعش» ترفض المألوف من أشكال الدولة الحديثة، وتعلن تشكيل «دولة خلافة» ترى فيها تعبيراً عن مفهومي «الوحدانية والاستخلاف»، أي أن الأحكام كلّها لشرع الله الواحد وهو الحكم والحاكم. ويستخلف في الأرض وكيلاً له هو الخليفة.
أما كيف يستخلِفُ خليفته، فهنا تكمن الأعجوبة. نفرٌ من شذاذ الآفاق يسلبون ويسبون ويقتلون وينتهكون ويفسرون الشرع كما يحلو لهم ويعادون جميع أمم الأرض وأديانها، بمن فيهم معظم أهل السنّة، ويستغلون تناقضات دينية وسياسية فيؤججونها ويتكئون على محور ضد آخر… إلى أن يتمكّنوا ويعتبروا سائر القوانين الوضعية والدساتير كفراً واعتداء على صلاحيات رب العالمين!
بالمقارنة، قامت دولة الخلافة الراشدية على الشورى بين أئمة وصحابة عاصروا النبي وكانوا قادة كبار في عصرهم، وانتخبتهم صحابة الرسول وفق أسس موضوعية ناتجة من ذلك العصر الكريم.
أما حالة «داعش» فعجيبة! مَنْ اختار مَنْ ومَن؟ هم أولئك الذين نصّبوا أنفسهم قادة ومن شاوروا؟ والمعروف أن قاعدة الشورى كانت في طور الاتساع في المرحلة الراشدية من قريش إلى الأنصار إلى المهاجرين وهكذا دواليك، وكانت لتكبر مع اتساع الخلافة التي أجهضها الأمويون الذين تبنوا مبدأ التوارث وضربوا مفهوم الشورى. وكذلك فعل العباسيون والمماليك والعثمانيون وآل سعود ومجمل الخليج والأردن والمغرب. فتوقف عندهم مفهوم الخلافة.
فإلى مَن تنتمي «داعش»؟ تبنت مفهوم الخلافة من دون أن تتوافر لديها قدرة على تطبيق مبادئها. يكفي أن تاريخ نشأتها مشبوه ومرتبط بأجهزة استخبارات سعودية ـ أميركية ـ تركية ـ قطرية فمَنْ هو الجولاني والبغدادي والعراقي والظواهري والحمصي والحلبي والشيشاني إلا مجموعة عصابات أفادت من دعم هائل وصل إليها، لحاجة دول الإقليم والعالم الغربي إلى تغيير النظام السوري وضرب إيران والعراق وحزب الله.
أتماثل هذه الشخصيات المذكورة أشخاصاً أكفاء مثل الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟! هؤلاء اختارتهم الجماعة لنشر الفكر الإسلامي. أما وقد انتشر فكان لزاماً أن يتطوّر مفهوم الدولة لتصبح دولة كل الناس ترعى شؤونهم الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، وهذه تندرج في إطار المستجدات الوقائع التي تحتاج إلى اجتهاد أو إجماع، وهذان لا يصدران إلاّ بارتباطهما بالقرآن والسنّة.
السؤال المطروح اليوم: أليس من باب الكفر التشبه بالخلفاء الراشدين؟ فهؤلاء لم يغتصبوا امرأة ولم يقتلوا طفلاً ولم يبيدوا أسرى ولم يعتدوا على أهل الكتاب وآمنوا بتطبيق العدالة، حتى على أنفسهم وعائلاتهم. والأمثلة هنا كثيرة وبطلها عمر بن الخطاب الذي قاصص ابن عمرو بن العاص لاعتدائه على مصريّ عادي وعاقب سيف الله المسلول خالد ابن الوليد لخطأ ارتكبه. وللتنويه فإنّ الإسلام الصحيح يقدم العقل على التوكل «اعقل وتوكل» و«داعش» ليست عقولة ولا فكورة، والإسلام يعتنق العلم و«داعش» تسرق النفط وهو ملك الشعب في سورية والعراق وتبيعه بأموال بخسة ولا ترى في العلم فائدة.
«داعش» تدمّر الكنائس، وما كان عمر بن الخطاب إلا معاهداً لأهل الكتاب ومؤتمناً عليهم. وكذلك كان الإمام علي… أما أبو بكر فبطل حروب الردة ولولاه لانتصر مسيلمة الكذاب وأنصاره.
«داعش» من بقايا مسيلمة الكذاب تعلن الحرب على جميع الدول في العالم. فلا تقبل بالأنظمة الجمهورية لأنها تقوم على القانون الوضعي، وترفض الملكية الدستورية لأنّ فيها توارثاً ودستوراً، وتقاتل الملكيات غير الدستورية مثل السعودية ومعظم دول الخليج والمغرب والأردن لأنّ فيها توارثاً.
يتبين بالاستنتاج أن «داعش» تعلن الحرب على سائر أنظمة القارات الأميركية والأوروبية والآسيوية والأسترالية، ولا تستثني العلوم السياسية صاحبة الشأن في ابتكار أشكال الدول.
هذه حقيقة «داعش» وخلافتها والأخطار التي تتسبّب بها لجميع دول العالم، في أربع أرباع الأرض. «داعش» وباء قاتل لا يهدد الأقليات المسيحية والإسلامية فحسب، بل هي مشروع لإعادة الإنسانية إلى القرون الوسطى بظلامية أشدّ فتكاً من ظلامية الدولة الدينية التي كانت سائدة في أوروبا قبل القرن السادس عشر. فيا أيها الناس مشرقاً ومغرباً، اتحدوا ضدّ «داعش» قبل فوات الأوان.