يَنْعاد عليكم

فادي عبّود

يُصرّ بعض ممّن يحملون لواء الكتابة الاقتصادية ونشر الوعي الاقتصادي على تقسيم المجتمعات بين يسارية ويمينية، يتخللها بالطبع تأليه للخيار الأول وشيطنة للخيار الثاني أو العكس بالعكس، وكأن لا خيارات غيرها لخلق اقتصادات منتجة يستفيد منها المجتمع ككلّ، وخاصة أنّ التجارب العالمية تبقى درساً حقيقياً لاستشفاف الأنظمة الأفضل في إدارة الدول، علماً أنه بعكس ما يروّج له البعض من مثقفي الاقتصاد، لم تطرح الاشتراكية حلولاً فاعلة في إدارة الأزمات، فإذا نظرنا إلى تجربة فنزويلا نرى الآثار المأساوية اليوم التي وصل إليها الاقتصاد الفنزويلي في نسبة الفقر العالية وعدم توفير الخدمات لمواطنيها بالرغم من امتلاك فنزويلا ثروات هامة خلال حكم تشافيز، والنتيجة انتصار ساحق لليمين في الانتخابات الأخيرة. أما تجربة هولاند الاشتراكية في فرنسا قبل الحوادث الأليمة الأخيرة كانت قد أوصلت هولاند إلى أن يكون الرئيس الأقلّ شعبية في تاريخ فرنسا.

لم ينجح أيٌّ من النظامين الاقتصاديّين في توفير الإنتاجية الحقيقية للاقتصاد والعدالة الاجتماعية. إنّ النظام الاجتماعي والشراكة الحقيقية بين العمّال وأصحاب العمل، والتي تؤدّي إلى تعميم الغنى والبحبوحة والفرص الحقيقية على الجميع يبقى الحلّ الأسلم، ومثالاً على ذلك ألمانيا والسويد والنروج والى حدّ ما بريطانيا، هي بعض الأمثلة عن إمكانية نجاح الأنظمة الاجتماعية.

أما في لبنان فالصراع بين مؤيدي المدرستين الاقتصاديتين تحوّل إلى صراع بين ما يُعرف بـ»أبو رخوصة» وبين ما يُعرف بـ»حيتان المال»، في تصوير غير واقعي للسياستين، بل تحوّل إلى حقد من الطرفين وصورة نمطية تعطى من دون تحليل حقيقي للواقع، علماً أنّ المدرستين في طريقة رؤيتهما للأمور لن تنجحا في تخليص الاقتصاد من الأثقال وتحويله إلى اقتصاد منتج.

بمناسبة اليوم العالمي ضدّ الفساد في 9 كانون الأول، أطلقت منظمة الشفافية العالمية حملة التصويت على قائمة تضمّ 15 رمزاً للفساد من بين 383 اسماً وهو اختيار أنجزه خبراء اعتمدوا على عدد من المقاييس التي تحدّد الفساد، وتشمل هذه القائمة المعروضة على التصويت عبر الموقع الإلكتروني كشف الفساد ، مؤسسات وأنظمة وشخصيات سياسية فاسدة. وجاء في المرتبة الثامنة النظام السياسي اللبناني، بسبب «الفساد السياسي للسلطات والمؤسسات الحاكمة، إذ تقوم شركات خاصة برشوة المسؤولين للحصول على عقود منها، كما فشلت الحكومة في تقديم خدمات للمواطنين وعرّضت حياتهم للخطر».

وبالطبع مرّ هذا التصنيف مرور الكرام، من دون ردود فعل من أحد، بسلاسة وحتى من الحراك المدني في استسلام مؤلم للواقع، علماً أنّ هذا التوصيف لمنظمة الشفافية الدولية يبقى ناقصاً، حيث إنّ الفساد في لبنان هو فساد معمّم بين السلطة الحاكمة وبين حيتان المال وبين «بيرانا» المال في شراكة مذهلة لا يمكن كسرها، وغير صحيح أنّ منظومة الفساد تأتي من فوق فقط، اليوم توجد شراكة واضحة المعالم بين الحيتان والـ»بيرانا» فمصالحهم مشتركة وعدم القدرة على إحداث ثورة في هذا المجال إلا خير دليل.

والأمثلة عديدة… ونسمع مَن يعلن أنّ مناقصات التنقيب عن النفط لن تمرّ إلا من خلال مناقصات عالمية شفافة. إنّ وقع هذا الكلام على آذاننا طيّب ومستحبّ جداً، ولكن وقبل الوصول إلى هذا الاستحقاق توجد أمثلة مستمرة واضحة وضوح الشمس، لا نسمع مَن يتعهّد بإصلاحها والأمثلة عديدة: من لجنة مؤقتة في مرفأ بيروت تصرف أموالاً عامة من دون إحالتها إلى الخزينة العامة وتتقاضى ضرائب سيادية تحت تسمية رسوم، وصولاً إلى صندوق الضمان الاجتماعي والكمّ الهائل من المستفيدين والتجاوزات التي تكلّف الدولة أعباء طائلة عبر تصريحات وفواتير ملغومة وتلاعب على عينك يا مواطن، إلى مطار بيروت بمحتكريه، إلى المهل الإدارية التي تعطى شمالاً ويميناً للكسارات والمقالع من دون ضرائب أو بدلات للدولة، إلى الفلتان في ألعاب القمار وعزوف الدولة عن لعب دورها المسؤول في هذا السياق، التسجيل العقاري ولجان التخمين ورفض إقرار تخمين مركزي لإبقاء عمل السماسرة ناشطاً، ورفض القيام بإصلاح حقيقي في أي وزارة على صعيد الرخص والمعاملات كي لا تقفل الدكاكين التي عششت فيها، تسجيل السيارات والتخمين الاستنسابي، إلى الأملاك البحرية واللائحة تطول في الفوضى المنظمة التي شكلت حلقة كاملة من المستفيدين الرافضين الاستغناء عن مكاسبهم.

تُضاف إلى ذلك احتكارات غبّ الطلب، لا تقتصر على حيتان المال والخدمات الأساسية في البلاد بل تتعدّاها وصولاً إلى النقابات التي فرضت ممارسات احتكارية واضحة، وقد لفتني خبر اعتراض نقابة السائقين العموميين في لبنان على تطبيق Uber المعتمَد في أنحاء العالم كافة في محاولة لاحتكار أيّ عمل متعلق بهذا القطاع، كما قرارات تمنع الصناعيين من امتلاك شاحنات كبيرة خاصة لنقل بضائعهم والاعتماد على الشاحنات العمومية، وقرار آخر متوارث من الانتداب الفرنسي يسمح للصناعي بتوزيع بضائعه في فاناته الخاصة فقط في المحافظة التي يوجد فيها المصنع، أعني ما أقول وأعرف أنه صعب تصديق هذا الكلام، ولكن أؤكد صحته…

وفي اليوم العالمي لمكافحة الفساد نسأل: لماذا تمّ تحجيم الحراك المدني؟ يبدو أنّ من أبرز الأسباب هو عدم تبني الحراك مطالب وحلولاً واضحة لآفات الفساد المطروحة أعلاه. ربما صار من الضروري أن يتحرّك المجتمع المدني بمطالب واضحة بعيدة عن الاتهامات العشوائية والشعارات التي راوحت مكانها.

ورغم الثورة الشعبية على فضيحة النفايات، والحلول الشعرية الهمايونية الموسيقية التي ابتدعها بعض الخبراء البيئيّين، تتجه الحكومة اليوم إلى ترحيل النفايات بكلفة خيالية تصل إلى 235 / للطن، وإذا أضفنا كلفة التوضيب والجمع تصل كلفة الطنّ إلى 330 دولاراً أميركياً، كلفة خيالية من جيوب المواطنين، مع استمرار الحملة الشعواء على طرق التفكك الحراري التي كانت الحكومة اعتمدتها في العام 2010.

ويمرّ اليوم العالمي لمكافحة الفساد على لبنان في ظلّ غياب قانون الحق في الوصول إلى المعلومات، واللافت احتلال لبنان للمرتبة الثامنة في الفساد، بسبب العقود الممنوحة للشركات الخاصة، أيّ بسبب غياب الشفافية اللازمة في عرض مناقصات الدولة. ربما يقنع هذا التصنيف المشرّف المجتمع المدني بأهمية إقرار قانون الحق في الوصول إلى المعلومات وجعله من الأولويات… وبمناسبة هذا اليوم، «ينعاد على الجميع».

وزير سابق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى