ثورة بوتين
مهدي العيسى
لم يعلم ذلك الوليد الذي ولد في إحدى المدن الروسية التي حفرت اسمها من خلال دفاع أبنائها عنها في الحرب العالمية الثانية في التاريخ سانت بطرسبورغ والذي ولد والدمار أمام مرأى عينيه. وليد ولد في مدينة عجت بالقبور وذاقت من الجوع ذرعاً إزاء الحصار الذي فرض عليها من قبل دول المحور. تلك المدينة التي ولد فيها لينين والتي كانت تعدّ مصدرة للشيوعية، ليس بغريب عنها أن تكون ولادة العظماء. لم يعلم ذلك الوليد أنه سيأتي يوم يكون فيه رئيساً لروسيا. إنه باختصار، الرئيس فلاديمير بوتين .
عاصر بوتين فترة نهوض الاتحاد السوفياتي ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعاصر أيضاً فترة الانهيار المريب لبلده الذي نجم عنه تفكك الاتحاد السوفياتي إلى دويلات، وكيفية تخلي حلفاء الاتحاد عن بلده إزاء ضغوط أميركية ألحقت خسائر متلاحقة بدولته الأم سياسياً اقتصادياً، وأينما حلّ النفوذ السوفياتي.
خلال تلك الفترة لم يتوقف قطار حلم بوتين السريع فكان يحقق طموحه بسرعة متناهية وبطريقة فذة أوصلته إلى رئاسة حكومة روسيا الاتحادية إبان فترة رئاسة بوريس يلتسين الذي لم يستطع الوقوف كثيراً أمام الهيمنة الأميركية المتفردة والمتسلطة. مرض يلتسين وعجزه عن إيقاف السقوط الروسي دفعاه إلى التنحي عن حكم روسيا لتكون هنا محطة بوتين الفعلية والمؤثرة من خلال ترشحه لرئاسة روسيا. وبالفعل استطاع بوتين كسب الانتخابات والتربع على عرش روسيا التي كانت في أضعف حالاتها في العام 2000.
سياسة الجليد مبطنة بدهاء الثعلب الماكر منهجية بوتين. إصلاح داخلي ودفع إلى استغلال ثروات روسيا النائمة في باطن أرضها، إعادة عجلة دوران مصانع التسليح، صمت خارجي إزاء ما تتعرض له روسيا من مراقبة وضغوط أميركية، بناء جسور بين دول الاتحاد السوفياتي السابق، ولعلّ العمل المشترك بين روسيا ودولة الشيشان في مواجهة الإرهاب دفع الكثير من الدول التي كانت تتبع الاتحاد إلى إعادة الالتفاف حول بعضها البعض وبناء تحالفات متميزة تركزت في محورها على استقطاب كلّ من يحمل العداء للولايات المتحدة الأميركية كالصين وكوريا الشمالية ودول من أمريكا الجنوبية ودول أفريقية وآسيوية كإيران، لنشهد ولادة تحالفات سياسة وأخرى اقتصادية مناهضة في حقيقتها للسياسة الأميركية وتمني النفس بإسقاط أميركا عن عرشها العالمي وإنهاء الأحادية القطبية التي فرضتها أميركا على العالم أجمع. وتتعدد طموحات بوتين الذي كسر قاعدة المستحيل، وروسيا اليوم ليست روسيا الأمس في عهدة القيصر بوتين.
أقحمت الولايات المتحدة الأميركية نفسها نتيجة غطرستها ورغبتها في زيادة نفوذها في الكثير من المستنقعات كالمستنقع الفيتنامي سابقاً وحديثاً في المستنقعين الأفغاني والعراقي ما ولد عداء شديداً للولايات المتحدة، وخصوصاً من الشباب المسلم الذي لطالما استغلته لضرب الاتحاد السوفياتي إبان الحرب الأفغانية لتكون النتيجة تفجيرات نيويورك 2001 والتي لا تزال يكتنفها الكثير من الغموض.
إنّ سعي الولايات المتحدة إلى تأمين الكيان الصهيوني أيضاً دفع العرب إلى مناهضتها ومناهضة بعض الدول الأوروبية نتيجة صمت الولايات المتحدة عن الغطرسة الصهيونية تجاه الفلسطينيين، وكذلك لن ننسى العداء الأميركي لإيران ومعارضتها استكمال برنامجها النووي الذي كانت الولايات المتحدة الأميركية هي من قدمت قاعدته لإيران في عصر الشاه. كلّ تلك العوامل كانت دافعاً لتنامي العداء لأميركا التي لم تكن تعي بنفوذها وغطرستها ما يُحاك لها ولم تكن تعي أنّ تنامي العداء لها سيفقدها الكثير من حلفائها، وبالنتيجة توالى سقوطها في المستنقعات الواحد تلو الآخر .
عربياً، للأسف لن تنعم بالهدوء والسكينة دون المرور بواشنطن لتنال شرعية سلطتك المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمصالح الكيان الصهيوني، ولعلّ العرب هم من أثقلوا كاهل الولايات المتحدة نتيجة ابتعاد السلطة عن الشعب وآماله وطموحاته ورؤيته، وكان من العرب من يعزف لحناً منفرداً عن السياسة الأميركية كالعراق ما بعد حرب إيران وليبيا ومحور مقاومة أعلن عداءه المعلن لها وللكيان الصهيوني معاً تمثل بسورية وحزب الله ومن خلفهما إيران وهذا المحور المقاوم لطالما أرهق الكيان الصهيوني من خلال دعمه المعلن للمقاومة في فلسطين .
الربيع العربي جديد واشنطن للمنطقة ما هو إلا محاولة أميركية للقضاء على الأدمغة العربية والعصف بها مقابل الجهل والتخلف وبغطاء ديني طائفي بحت معنون بالحرية والكرامة ومحاربة الفقر والجوع والفساد تخوفاً من نهوض عربي قد يستلم زمام المبادرة في هذه الثورات، وكان لا بدّ لزاماً من توجيهها وفق المصالح الأميركية ـ الصهيونية وباستخدام الأدوات والوسائل كافة الكفيلة بسرقة حقيقة الثورات لهدمها ووأدها في مكانها من دون تحقيق أي إيجابية منها .
إعلام، دولار، مرتزقة، تنظيمات إرهابية تخضع للإملاءات، قتل، تهجير، تدمير، طمس للهوية، وتتعدّد الرؤى التي تفيد المصلحة والإبقاء على الهيمنة، لتكون النتيجة ولادة دويلات من رحم الدولة وسيادة القبيلة والطائفة ومن ثم الجماعة والفرد والبقاء للأقوى، وهنيئاً لمن تجرّع الوصفة لينعم من بعدها بالفوضى في العراق وسورية واليمن وليبيا وتونس ومصر والسودان.
هنا ومن خلال ما سبق نهض الدبّ الروسي متسلحاً بما وصل إليه من قوة وعظمة للوقوف في وجه الولايات المتحدة الأميركية مبصراً ما قد يحمله له العداء الأميركي من خلال ما تعرض له الاتحاد السوفياتي سابقاً، ولكن من لا يعي كيفية ضمّ شبه جزيرة القرم وما نتج عنه لا يدرك ما حجم القوة التي وصلت إليها روسيا اليوم بقيادة قيصرها بوتين وكيف تمّ كسر الحصار السياسي والاقتصادي بالنتيجة ذاتها لتظهر لنا قوة الدب الروسي أكثر وأكثر مع كلّ عقبة صنعتها القوة الأميركية، تعرية للأكذوبة الأميركية بمحاربتها الإرهاب وإظهار التناغم والحب بين هذين العشيقين ومع كلّ إعلان حرب أمركية ضدّ الإرهاب تراه يتمدّد ويزداد حجماً ونفوذاً، إلى أن وصل الإرهاب إلى أوروبا وصار عالمياً بعد ضرب الكثير من الدول التي لطالما كانت تتمتع بعلاقات متميزة مع الولايات المتحدة ومنها بريطانيا وإسبانيا وفرنسا.
القيصر يضرب بقوة واليوم قوة الضربة تأتي من خلال سورية تحديداً والقيصر يأخذ عهداً على نفسه بإرسال التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم «داعش» الإرهابي إلى حتفها.
القيصر بوتين اليوم يقود ثورة معلنة ليست كالثورات العربية بلا رأس لإسقاط عرش واشنطن، متسلحاً بتحالفات قوية قادرة على صدع العالم بأسره سياسياً واقتصادياً. الصين تدعم وكوريا الشمالية تنتظر الإشارة وإيران نووية و«بريكس» يحاصر الدولار ويقوضه والعرب ذاقوا الذرع نتيجة السياسة الأميركية وحلفاء الأمس للولايات المتحدة أضحوا يعلمون حقيقة الصراع بعد أن وصل الإرهاب إلى عقر دارهم واستدارة بريطانيا وفرنسا خير دليل على ذلك.
إذاً القيصر بوتين الذي أضحى بطل السلام وداعم حق الشعوب في تقرير مصيرها، حقيقة لا ازدراء وكذباً، بإظهار نفسه المحارب الحقيقي للإرهاب ومن يصنعه ويواليه ويدعمه ولعلّ عرض بوتين لقائمة من 40 دولة في قمة العشرين الأخيرة في تركيا كان رسالة وصلت إلى العالم أجمع، وخصوصاً عندما أشار إلى تواجد هذة الدول في القمة ذاتها تحديداً.
من الجو من البحر ومن الأرض الاستعراض الروسي قائم، تتعالى الأصوات وقد نجح القيصر في تدمير الإرهاب المتمثل بتنظيمات إرهابية لطالما كانت كنزاً ثميناً تتعدى قيمته النفط والغاز ثمناً لصانعيه. عرف القيصر طريق وأده من خلال إشرافه وتعاونه مع أصدقائه، وخصوصاً في الشيشان على منحه كافة الخبرات والطرق لتدمير هذة التنظيمات. بوتين القيصر أضحى اليوم محاطاً بتحالف يضاهي أي تحالف عالمي يقبع على بابه كثيرون ممن ينتظرون سماحه لهم بالدخول إليه رغبة في تغيير المسار الخاطىء الذي سلكوه سابقاً نتيجة لهثهم وأتباعهم للغطرسة الأميركية التي يدفعون اليوم ثمن التحاقهم بها .
ثورة بوتين، تمّ الإعداد لها منذ أن أبصر بوتين على حجم كارثة مدينته في العام 1952 يوم ولادته. ثورة تمثلت في انطلاقته من مهده إلى عرش روسيا بسرعة فاقت الخيال. ثورة بوتين درست بعناية فائقة لامثيل لها مستفيداً من الدروس والعبر التي واكب على دراستها، وخصوصاً إبان انهيار الاتحاد السوفياتي. ثورة عالجت أسباب مرض يلتسين الضعيف الذي لم يستطع تحقيق آمال الروس. ثورة يريد الروس اليوم إجراء تعديل دستوري لمنح زعيمها أطول فترة رئاسية لما منحه لهم من عظمة وقوة أثلجت صدورهم بعودة روسيا إلى مكانتها الطبيعية كقوة عقلية وسياسية واقتصادية وعسكرية وتكنولوجية لا غبار عليها لتكسر بذلك كرسي العرش العالمي الذي تربعت عليه الولايات المتحدة الأميركية لعقود.
ثورة بوتين اليوم قادرة على أن تفرض عالماً جديداً قائماً على الاحترام المتبادل بين الدول، لا على سبيل القوة بل على سبيل الاحترام.
ثورة بوتين ماضية اليوم من دون توقف لإسقاط الأحادية العالمية المتمثلة بالثور الأميركي الذي سيتكلم التاريخ مطولاً عن ترويض الدب الروسي له، نتيجة حكمته ودهائه وسياسته الجليدية التي كانت أيضاً سبب نجاح كلّ حلفائه.