لا بديل من مشروع تقدميّ نهضويّ يسقط مشروع «الربيع العربيّ»
راسم عبيدات ـ القدس المحتلة
ما يسمّى بمشروع «الربيع العربي»، هو في مراحله الأخيرة. مأزقه يتعمق ويبلغ حد الانهيار، لذا نرى أنه أصبح أشدّ دموية، فالأنظمة التابعة والهجينة مستعدة عندما تستشعر الخطر الداهم الجدي على وجودها للقيام بأي شيء لحماية هذا الوجود والدفاع عنه. تقتل، تفجر، تعيث خراباً وفساداً، تغيّر تحالفاتها وتتحالف مع الشيطان. المهم بقاء نظامها وإنقاذه وحماية ممالكها وإقطاعياتها.
هذا المشروع في مأزق مذ راكم الفشل تلو الفشل مع بداية عدوانه على سورية قبل ثلاث سنوات ونيّف إذ كان الهدف النظام والدولة والجيش والموقف والجغرافيا السورية. بدأت الحرب وكان خلفها دعم وتمويل مالي بمليارات الدولارات وتسليح بأحدث أنواع الأسلحة المدفوعة ثمنها خليجياً قطرياً وسعودياً وتركيّاً ومداً بالرجال من مختلف الجماعات الإرهابية، «قاعدة»، «جبهة نصرة»، «داعش»، «إخوان»… ناهيك عن توفير قواعد العمل الاستخباري المتطورة وأجهزته والدعم اللوجستي والحضانة والغطاء السياسي والإعلامي لأكثر من 130 دولة ممن يطلقون على أنفسهم «أصدقاء سورية»، وكانوا ينتظرون على أحر من الجمر سقوط النظام ورحيل الرئيس السوري المقاوم بشار الأسد، الذي دأبت وسائل الإعلام والفضائيات الصفراء والمأجورة وفي مقدّمها «الجزيرة» و»العربية» على القول بأن الرئيس السوري موجود على ظهر بارجة روسية في عرض البحر، وكانوا مثل الكلاب المسعورة ينتظرون لحظة نهش سورية واقتسامها، وبسط نفوذهم وسيطرتهم وتسييد مشروعهم الظلامي التكفيري الفوضوي في المنطقة.
حالة الاستعصاء والصمود السوري أربكتهم وأخرجتهم على طورهم أكثر من مرة وجعلتهم يتهاون ويتساقطون على مذبح الصمود السوري. غيّروا أنظمة وأقصوا قادة على خلفية الفشل في معالجة الملف السوري، ولم يحصدوا سوى المزيد من الفشل المتراكم، وكان النظام السوري يحقق المزيد من الانتصارات عسكرياً وسياسياً، ولم يعد خيار رحيل النظام مطروحاً أو على أجندته، إذ شهدنا مدى الالتفاف الشعبي والجماهيري حول القيادة السورية من خلال الزحف الجماهيري الكبير على السفارات السورية الموجودة في بيئة ودول معادية للنظام لأجل المشاركة في الانتخابات، تلك الانتخابات، مثلما كان متوقعاً، جددت الثقة بالرئيس السوري بشار الأسد لولاية ثانية.
بعد انهيار دول المنظومة الاشتراكية وفي مقدمها الاتحاد السوفياتي، بسبب بيروقراطية الأحزاب الشيوعية وفسادها، خلقت أميركا لتوابعها من العرب وتحديداً ما يسمى بمعسكر «الاعتدال العربي» عدواً إفتراضياً جديداً هو إيران، التي تتحوّل الى قوة إقليمية وتصرّ على امتلاك التكنولوجيا النووية، وباتت تلعب في ملعب واشنطن في أكثر من ساحة وتشكل منافساً قوياً لها وخطراً جدياً على مصالحها، ولذلك كان لا بد من تصوير إيران على أنها العدو المركزي للعرب والمسلمين وليست «إسرائيل»، في إطار حرف الصراع عن أساسه من صراع عربي ـ صهيوني الى صراع عربي- فارسي، وليس مطلوباً تجند العرب وقياداتهم المتهالكة وتحديداً من معسكر «الاعتدال»، بل المطلوب نقل الفتنة شعبياً، وهي فتنة مذهبية سنية- شيعية، تشارك فيها المؤسسات والمراجع الدينية والمؤسسات والقوى الشعبية. ورأينا كيف بلغ التحريض المذهبي أعلى درجاته وتمّت شيطنة إيران وتكفيرها، ووُظّف كل هذا الحقد والتحريض المذهبي والطائفي في ما يُسمى بـ»الثورات العربية» و»الربيع العربي»، ولم تشهد منطقتا العربية مثل هذا التحريض والفتن المذهبية والطائفية لعقود خلت، وانتشرت الجماعات الإرهابية والتكفيرية والقتلة انتشار النار في الهشيم موظفة الدين لخدمة جرائمها وإرهابها ووجود حاضنات ترعاها وتموّلها وتدافع عن جرائمها، ولذلك أصبحت تمارس عمليات قتل الناس بطرائق وحشية وبوهيمية وهمجية في ليبيا والعراق وسورية ومصر ولبنان من دون أي وازع ديني أو أخلاقي.
الدول التي فرخت وأوجدت البيئة والحاضنة ودعمت وموّلت وسلحت تلك الجماعات تجد نفسها اليوم تعيش حالة رعب وكابوس، ليس من خلال ارتداد إرهاب تلك الجماعات على دولها واستقرارها وأنظمتها، بل إن عريها وخوفها ناتجان أفول تلك الجماعات، ودفع الفاتورة للمنتصر، وما هي الشروط والاستحقاقات التي سيطلبها.
لكي تختفي تلك الجماعات وتندثر، وتُستأصل، ليس في المعنى البشري فحسب، بل كنهج وفكر وحواضن وبيئة، لا بدّ من قيام أنظمة وطنية تحمل مشروعاً تقدمياً نهضوياً ليس بمعزل عن ديمقراطية حقيقية، وإتمام مصالحات بين مجمل مكوّنات المجتمع، وتنمية مستدامة وإصلاح جذري… وهذا المشروع الكبير يجب أن تتوافر له حوامل قادرة على النهوض به، ونرى أنّ هذا المنجز المتحقق لن يكون قادراً على حمله وقيادة لوائه في هذه المرحلة الحالية سوى النظام السوري الذي يرسي قواعد جديدة لنظام جديد على أنقاض ما يُسمى بـ»الربيع العربي» الذي يندحر ويتراجع.
إن قيام الدولة الوطنية المقاومة المتزاوجة مع الديمقراطية والإصلاح ستكون منجزاً تاريخياً يتفوّق على غزوة «الربيع العربي». هذا المنجز الذي بقيت الأمة تحلم به منذ زمن بعيد، فدوماً كانت تتكالب قوى استعمارية غربية وبأدوات عربية تابعة ومأجورة لمنع تبلور أي حالة نهوض وطني وقومي وعربي من شأنها أن تهزم تلك المشاريع، وان تعيد الحقوق العربية المغتصبة من أراض وأوطان، في مقدمها فلسطين، وأن تعيد إلى المواطن العربي كرامته وحريته المسلوبتين، وأن تنهض بأوضاعه وتخرجه من حالة الضعف والفقر والجهل والتخلف، على نحو يجعل قيام حالة نهضوية تقدمية وتنموية عروبية شاملتين ممكن التحقيق.
إن نجاح سورية في صدّ الحرب الشاملة التي شنّت عليها، وصمودها وانتصارها بفضل حكمة قيادتها وصلابتها وثباتها، كذلك وطنية جيشها وعمق انتماء شعبها، والتربية الوطنية غير الفئوية، شكلت العوامل الأساسية في تحقيق هذا النصر، ولم يتحقق ذلك بمعزل عن الدعم والمساندة من الحلفاء، وفي مقدمهم إيران وحزب الله وجميع قوى المقاومة العربية وروسيا والصين ودول البركس.
ما يحصل من تطوّرات في المنطقة سواء في العراق، حيث تقتل «داعش» تقوم بالقتل الجماعي على الهوية، ليس له علاقة بالثورة، بل إن ما تقوم به «داعش» مرتبط خلقها ودورها أميركياً وخليجياً وتركياً في إيجاد كيان سني يبعد سورية عن العراق ويكسر امتداد «الهلال الشيعي» الى الشام ولبنان، فضلاً عن الضغط على النظام السوري. وما يحصل كذلك من عدوان على الشعب الفلسطيني مرتبط عميقة بالتطورات الحاصلة في المنطقة.
باتت سورية تفرض معادلات كبيرة في المنطقة تطول أكثر من ساحة، مرغمة على الحلف المعادي ان الاعتراف بانتصارها، فحتى أوباما سلّم بالانتخابات الرئاسية السورية وبأنه لم يعد ممكناً إسقاط الأسد، وانتصاره عزز دوره ومكانته كرئيس عربي مقاوم، وحقق إنجازاً غير مسبوق للمشروع القومي، وفتح آفاقه على انتصارات كبرى لاحقاً، لكن الحلف المعادي ما زال رغم خسارته كلها يحاول أن يثبت قوته ووجوده، فتارة يضرب في العراق وتارة أخرى في لبنان، إنما لم يعد قادراً على فرض شروطه، بل إنّ الرئيس الأسد هو القادر اليوم على فرض الشروط لأنه منتصر وقائد مشروع قومي مقاوم.