بحر لبنان صيف 2014… أين يسبح اللبنانيون؟ّ

راغدة حداد

«هنا تصطاد أكبر حبة»، قال الصياد الجالس فوق مجرور عين المريسة في منطقة رأس بيروت.

ـ تأكلها؟

أجاب: «طبعاً! عشاؤنا الليلة سمك»!

منظر الصيادين المحترفين والهواة مألوف على امتداد الشاطئ اللبناني، بما في ذلك العاصمة والمدن الساحلية. وصاحبنا محقّ، فحيث يصبّ المجرور تكثر المغذيات التي تتهافت عليها الأسماك.

المؤسف، بل المخيف، أن «المغذيات» ما زالت تصبّ في بحر لبنان من دون معالجة. وإذا كان السمك يتغذى على المواد العضوية في مياه الصرف الصحي المتدفقة، فالسابحون قد يتعرّضون لمشاكل صحية إذا سبحوا في هذه المياه الملوثة.

ويحذّر الخبراء الصحيون بشكل خاص من البكتيريا القولونية الناجمة عن البراز البشري، التي يعني وجود كميات كبيرة منها ارتفاع خطر مسببات الأمراض الموجودة في المياه، ومنها التهابات الأذنين، والإسهال الحاد، وحمى التيفوئيد، والالتهابات المعديّة المعوية، والتهاب الكبد.

أين تسبح في لبنان صيف 2014؟

في غياب أي معلومات رسمية متاحة للجمهور عن نوعية مياه المسابح البحرية، دأبت مجلة «البيئة والتنمية» منذ عام 2005 على إجراء فحوصات لمياه الشواطئ اللبنانية بإشراف مهندسين بيئيين مختصين، ونشر نتائجها بهدف تنوير الجمهور. ومع بداية موسم السباحة هذه السنة، عمد فريق المجلة إلى جمع عيّنات من مياه الشواطئ حيث يسبح الناس، وتم تحليل محتواها من البكتيريا القولونية في مختبرات قسم الهندسة المدنية والبيئية في الجامعة الأميركية في بيروت، وفق المعايير العالمية المعتمدة.

وكالعادة، قورنت نتائج التحاليل مع أرقام الفحوصات الدورية التي يجريها المركز الوطني لعلوم البحار التابع للمجلس الوطني للبحوث العلمية على مدار السنة في مواقع محددة، وهي تستخدم للبحث العلمي. وقد جاءت معظم النتائج متقاربة. وإذ ظهرت فوارق كبيرة في الفحوصات مع نتائج مركز علوم البحار، قام فريق «البيئة والتنمية» بأخذ عيّنات في أيام أخرى وفحصها.

وكان مدير المركز الدكتور غابي خلف أفاد أن النتائج قد تختلف بين شهر وآخر، وربما بين يوم وآخر، وفقاً لتدفق مياه الصرف وحالة الموج وقوة الرياح ووجهتها. وقد يصرّف مطعم أو مجرور صغير مياه الصرف في وقت ما، فتتفكك المواد العضوية الملوثة سريعاً مع قوة الموج الحامل للأوكسجين. لكن وجود التلوث بالبكتيريا القولونية ولو لمرة واحدة يعتبر مؤشراً خطيراً، إذ لا يمكن تحديد مواعيد استخدام السابحين للبحر.

نتائج تحاليل بداية صيف 2014

القياس المعتمد هو عدد المستعمرات البكتيرية القولونية في كل 100 ميلليليتر من المياه FC/100 ml . وكل ما هو بين 50 و100 مستعمرة في 100 ميلليلتر من المياه يعتبر على حدود الخطر، وما يتجاوز 100 مستعمرة شديد الخطر.

أخذت عينات مياه المسابح في النصف الأول من شهر حزيران 2014، من مسافة بين متر وعشرة أمتار من الشاطئ، حيث يسبح الناس. وأظهرت التحاليل مستويات خطيرة جداً للبكتيريا القولونية في ثلاثة مواقع رئيسية، حيث تجاوزت 3000 مستعمرة بكتيرية في كل 100 ميلليليتر واعتبرت «أكثر من أن تحصى».

الموقع الأول هو الشاطئ الممتد من شمال نهر الكلب، حيث توجد منتجعات ومجمعات سياحية فخمة، إلى ضبية وأنطلياس شمال بيروت. وهذا ليس عجيباً، إذ إن مجارير هذه المنطقة التي شهدت كثافة سكانية كبيرة تصب في البحر بلا معالجة، إضافة إلى مياه الصرف من القرى والبلديات في أقضية كسروان والمتن التي تنتهي في الجداول والأنهار وصولاً إلى البحر، كما هي الحال في معظم المناطق اللبنانية.

الموقع الثاني شديد التلوث والذي يقصده عشرات آلاف السابحين، هو الرملة البيضاء حيث يوجد مسبح شعبي. ولكن سجلت مستويات شبه مأمونة في الروشة حيث منتجعات ومسابح خاصة، لكنها تحتاج إلى رصد يومي لقربها من مصادر التلوث.

والموقع الثالث هو شاطئ الدامور/ السعديات، حيث تراوحت نتائج التحاليل المتكررة بين 356 وأكثر من 3000 مستعمرة بكتيرية في كل 100 ميلليليتر.

ولوحظ انخفاض سارّ للمستعمرات القولونية في المسبح الشعبي في طرابلس والمسبح الشعبي في صيدا. وذلك بفضل محطتين في طرابلس وصيدا لمعالجة مياه المجارير على المستوى «التمهيدي»، تُضخ بعدها إلى البحر على بعد نحو 1600 متر من الشاطئ، حيث تتشتت الملوثات وتتحلل بعيداً عن مواقع السباحة. فقد بلغ العدد في طرابلس 84 مستعمرة في 100 ميلليليتر من المياه، وهو لا يزال على حدود الخطر، لكنه تحسن كثيراً بالمقارنة مع أكثر من 1000 عام 2013. وفي صيدا، حيث أخذت عيّنات في أيام مختلفة، كان التعداد دون 100 مستعمرة في معظم النتائج، ولكن تم تسجيل 496 مستعمرة في إحدى المرات، و85 في فحوصات مركز علوم البحار، وهذا يعود إلى مدى تشغيل محطة المعالجة وكمية ونوعية التصريف في البحر. ولا بد من الإشارة إلى تلاشي جبل النفايات في صيدا، الذي تتواصل عملية فرز محتوياته ومعالجتها وإعادة تدويرها.

وهناك تراجع ملحوظ للتلوث في مسبح جبيل الشعبي، حيث سجلت 4 مستعمرات في كل 100 ميلليليتر، مقارنة مع أكثر من 1000 عام 2013. فقد لوحظ أن المجرور الذي كان يصب قرب المدخل الجنوبي للمسبح أزيح شمالاً، فباتت مياهه في نظافة مياه المسابح الخاصة على شاطئ جبيل الجنوبي.

والملاحظة أن نتائج بعض المسابح الخاصة جيدة، في حين أن الشواطئ المحاذية لها ملوثة، ربما بسبب ترتيبات لإبعاد مصبات المجارير عن بعض المنتجعات.

ويمكن اعتبار الشواطئ الآتية مأمونة جرثومياً للسابحين، إذ سجلت فيها أرقام منخفضة تتراوح بين صفر و30، وهي من الشمال إلى الجنوب: شكا/ الهري، سلعاتا، البترون، عمشيت، جبيل، الجامعة الأميركية في بيروت، الجية، الناقورة. ولا بد من الإشارة إلى تلوث كيميائي في سلعاتا مقابل المصانع حيث لا يسبح الناس عادة.

أين أصبحت محطات المعالجة؟

التصريف العشوائي للمياه المبتذلة حالة عامة في لبنان. فحيث لا توجد شبكات، يصرّف المواطنون مياههم المبتذلة في ما يدعونه حُفَراً صحية، أو في آبار ناضبة، مع ما يشكله ذلك من تلوث للمياه الجوفية والجداول والأنهار، وصولاً إلى البحر. وحيث توجد شبكات، يتم تجميع المياه المبتذلة وتصريفها، غالباً من دون أي معالجة، في الأودية والأنهار وعلى الشواطئ. ويقدر أن نحو 300 مليون ليتر من مياه المجارير تصب في البحر يومياً.

يقضي المخطط التوجيهي العام للصرف الصحي في لبنان، الذي ينفذه مجلس الإنماء والإعمار، بإقامة 12 محطة ساحلية لاستيعاب المياه المبتذلة الناتجة من المدن الرئيسية والتجمعات السكنية المحيطة بها على الساحل والسفوح الغربية لسلسلة جبال لبنان الغربية، إضافة إلى 8 محطات في الداخل. وبذلك تصبح المعالجة مؤمنة لأكثر من 80 في المئة من السكان. أما المناطق المتبقية فهي بحاجة إلى نحو 100 محطة صغيرة لخدمة القرى والبلدات الداخلية. ويتم تنفيذ الخطة بواسطة قروض ميسّرة من جهات مختلفة.

وقد تم إنشاء شبكات لجمع مياه الصرف في مناطق لبنانية عدة، لكن لم يتم وصل كثير منها إلى محطات للمعالجة، بينما بنيت محطات معالجة لم تصل إليها الشبكات بعد. وكان الأمين العام لمجلس الإنماء والإعمار غازي حداد أوضح لـ«البيئة والتنمية» عام 2004 أن تنفيذ كل محطة رئيسية مع شبكاتها يستلزم نحو ثلاث سنوات، مؤكداً أن المحطات العشرين ستكون كلها قيد العمل تباعاً بين 2008 و 2013. فأين أصبح التنفيذ؟

رئيس دائرة مشاريع الري والمياه والمجاري والبنى التحتية في المجلس يوسف كرم أوضح لـ«البيئة والتنمية» أن هناك حالياً، على امتداد الشاطئ اللبناني، أربع محطات تعمل جزئياً بمعالجة تمهيدية، أي بإزالة المواد الصلبة الكبيرة والرمل وبعض الشحوم. وهي تقع في طرابلس، ومنطقة الغدير جنوب لبنان، والجية وصيدا. وهناك ثلاث محطات مكتملة في شكال والبترون وجبيل، لكنها لا تعمل بسبب عدم وصول شبكات الصرف إليها. أما محطة المعالجة على شاطئ صور فهي شبه منجزة لكنها لا تعمل لعدم وجود مصب بحري، وقد تأمنت اعتمادات إضافية لاستكمال الشبكات. ولم يبدأ بناء محطة الصرفند لعدم وجود تمويل. وثمة مشروع لإنشاء محطة بين صيدا وصور. وفي كسروان خطط لمحطتين في أدما والذوق، لكن تصميمهما لم يبدأ بعد.

أما المشكلة الرئيسية في محطة برج حمود على شاطئ بيروت، التي لم يبدأ إنشاؤها على رغم توفر الدراسات والتمويل منذ أكثر من 15 سنة، فأفاد كرم أن الخلاف على الموقع مع بلديتَيْ برج حمود وبيروت تمت معالجته، وتم تأمين قرض للتنفيذ من البنك الأوروبي للتنمية. وفي المناطق الداخلية تعمل محطتان في بعلبك واليمونة، في حين أن محطتين مكتملتين في صغبين وجب جنين تعملان جزئياً.

صممت هذه المحطات بحيث تؤمن عند اكتمالها معالجة ثانوية للمياه المبتذلة، باستثناء محطتَيْ صيدا والغدير اللتين تقتصران عند الإنجاز على معالجة أولية تزيل الأجسام الصلبة والشحوم من دون معالجة بيولوجية تقضي على البكتيريا، لكن المياه المعالجة ستُضخ بعيداً في البحر. وهناك خطط لتوسيعهما وتطويرهما إلى المستوى الثانوي.

وعن سبب التأخر في التنفيذ، قال كرم إنه يعود إلى قانون أصدره مجلس الوزراء عام 1999 يكلف البلديات بإنشاء الشبكات. وعندما أنجزت محطات عام 2004 لم تكن الشبكات منجزة. أما بعد 2004 فباتت المحطات والشبكات تنجز بخطة متكاملة وقروض شاملة.

«بشرى» ووعود… ولكن!

تجنّبوا مصبات الأنهار والمجارير.

يبشر مجلس الإنماء والإعمار بأن عدداً من المحطات الساحلية سيبدأ العمل خلال بضعة أشهر. ووعد أمينه العام غازي حداد «البيئة والتنمية» بإنجاز جميع المحطات الساحلية ووصلها بالشبكات وتشغيلها في غضون خمس سنوات، بحيث يصبح الشاطئ اللبناني بمجمله مأموناً من التلوث بالصرف الصحي.

وقد استبشر الناس خيراً بعمل محطة الغدير، ولو تمهيدياً، باعتبار أنها ستضخ مياه الصرف على بعد كيلومترين ونصف كيلومتر من الشاطئ، وسيصبح البحر من الناعمة إلى بيروت نظيفاً. ولكن ما زالت المياه المبتذلة تصب بلا معالجة من مجرورين كبيرين على شاطئ الرملة البيضاء، وتلوث المسبح الشعبي ومياه المسابح الخاصة المجاورة. وإحدى المشاكل هي عدم تشغيل محطة الضخ في منطقة «غران كافيه».

وثمة مشاكل أخرى هنا وفي مناطق أخرى، منها أن الشبكات مصممة لتستقبل مياه المطر مفصولة عن مياه المجارير، بحيث تذهب الأولى إلى البحر أو النهر وتذهب الثانية إلى محطة المعالجة. لكن مياه الأمطار ما زالت تذهب إلى المجارير في مواقع كثيرة، في حين تصرف المياه المبتذلة في شبكة مياه الأمطار بشكل غير قانوني.

وتسجل مخالفات غريبة، منها إقدام البعض على وصل أنابيب الصرف إلى «ريغارات» المياه والهاتف، ونوم مشردين في «عبّارات» المجارير وقيامهم بسدّها، ما دفع مؤسسات المياه إلى وضع شبك على فتحات المجارير التي يزيد قطرها على 60 سنتيمتراً. كما أن مياه الصرف الصناعي تصب في شبكات الصرف الصحي بلا رقابة أو رادع في مناطق كثيرة. وقبل بضعة أشهر، تم تصريف مياه صناعية إلى محطة المعالجة في النبطية، ما أدّى إلى نفوق البكتيريا التي تقوم بالمعالجة البيولوجية، فتوقفت المحطة نحو شهر عن العمل وتم تصريف المياه غير المعالجة في الوديان.

أما وقد بدأ موسم السباحة هذه السنة بتحسينات «تمهيدية» في بعض المناطق، فننصح السابحين مرة أخرى بالابتعاد عن مصبات الأنهار والمجارير، التي تعتبر أخطر بؤر التلوث البكتيري. كما نتوجه من جديد إلى الهيئات الرسمية، خصوصاً وزارات البيئة والسياحة والصحة، للإفادة من الفحوص الدورية التي يجريها المركز الوطني لعلوم البحار، في موسم السباحة على الأقل، فتصدر تقريراً أسبوعياً عن مواقع التلوث وتمنع السباحة فيها.

الأمل معلق على تحقيق الوعد ببحر نظيف بعد خمس سنوات، فيرفرف «العلم الأزرق» الذي يرمز إلى الشواطئ النظيفة فوق رمال المسابح اللبنانية وصخورها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى