تداعيات الهبّة الشعبية في فلسطين المشروع الصهيوني من الارتباك إلى الأفول
معن بشّور
من يتابع الهّبة الشعبية الفلسطينية المنطلقة من حي شعفاط في القدس المحتلة، بمقدماتها وتداعياتها، يدرك أن المأزق الصهيوني في تزايد متواصل لا سيّما في ما يتعلق بخياراته الاستراتيجية في مواجهة الحقوق الفلسطينية والعربية، فهو غير قادر بحكم تكوينه العقائدي والاجتماعي على إنجاز تسوية تاريخية يقدم فيها تنازلات كبيرة من ناحية، وهو عاجز بحكم أزمته البنيوية المتصاعدة على الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية، عن شّن حرب على قوى المقاومة داخل فلسطين وخارجها من ناحية ثانية.
بعد الحرب «الإسرائيلية» على لبنان في مثل هذه الأيام عام 1982، وكانت آخر الانتصارات «الإسرائيلية» في الصراع مع الأمة العربية، واجهت تل أبيب معادلة بالغة الخطورة وهي التناقض المتزايد بين تنامي قدراتها التدميرية وحراكها التكتيكي، وتناقص متصاعد لقدراتها الاستراتيجية على خلق معادلات سياسية جديدة تمكنها من تغيير موازين القوى الميدانية، وقد كانت حرب تموز العدوانية على لبنان عام 2006 والحروب المتلاحقة على غزة، الكاشف الأوضح لتلك المعادلة وذاك التناقض.
ومن هنا نفهم سرّ الحروب المباشرة وغير المباشرة على المقاومة وداعميها من قبل تل أبيب وحلفائها في العالم والمنطقة، الذين يدركون أن مع كل يوم يمر على صمود المقاومة تزداد قوة ومناعة، وتزداد فرصها في إرباك الكيان الصهيوني والتعجيل في أفوله.
فمؤسسو هذا الكيان وحلفاؤهم يدركون أن قوة المشروع الصهيوني منذ انطلاقته قبل قرن ونيف قامت على ركائز خمس.
الركيزة الأولى: أمن الكيان الصهيوني داخلياً وخارجياً.
الركيزة الثانية: عقيدة تلمودية عنصرية لا تقوم إلا على العدوان والتوسع الاستيطاني.
الركيزة الثالثة: هجرة يهودية من الخارج، وخصوصاً من الغرب تمثّل إضافة كمية ونوعية لهذا الكيان.
الركيزة الرابعة: دعم دولي يتراوح بين تعاطف شعبي مع دولة صغيرة مهددة من جيرانها وشعور بالذنب تتم تغذيته بسبب موجات الاضطهاد الأوروبي لليهود من ناحية، ومصالح استراتيجية استعمارية ترى في الكيان الصهيوني قاعدة متقدمة للمركز الاستعماري في الغرب من ناحية ثانية.
الركيزة الخامسة: هي حال التردي والتشظي العربي التي تتعاون عوامل داخلية وخارجية على إدامتها، بل وتغذيتها باستمرار.
بدأ أركان هذا الكيان وداعموه يدركون في العقود الأربعة الأخيرة أن أربع ركائز قد بدأت تهتز بفعل عوامل عدة يتقدمها طبعاً صمود الشعب الفلسطيني وتجذر روح المقاومة وتعمقها في الأمة.
فالعقيدة التوسعية وجدت نفسها مضطرة إلى الانكفاء جزئياً من أراض اعتبرتها جزءاً من «إسرائيل» الكبرى سواء في سيناء أو بعض الجولان أو جنوب لبنان، وصولاً إلى غزة نفسها التي هي جزء من فلسطين التاريخية التي يعتبرها الصهاينة منطلقاً لمشروعهم العقائدي الكبير.
أما الهجرة اليهودية إلى الكيان، فتشير المؤشرات كلّها إلى تناقص ملحوظ في نسبتها، وإلى تزايد متنام في نسبة الهجرة المضادة، مع إفصاح نسب عالية من الشباب عن رغبتها في الهجرة، إضافة إلى ما بدأت تثيره مشاريع استدرار «الهجرة بأي ثمن» من مشاكل داخل النسيج الاجتماعي الصهيوني نفسه. وما تحركات السود ومسيراتهم قبل أشهر إلا شهادة على تمييز عنصري يعاني منه من اعتبر هجرة الصهاينة يوماً أي الفالاشا انتصاراً كبيراً لمشروعهم، والأمر نفسه ينطبق على التمييز بين اليهود الشرقيين والغربيين.
حتى «اليهود السوفيات» الذين هاجروا بأعداد كبيرة إلى الكيان الصهيوني في ثمانينات القرن الماضي، تبين أن أكثرهم ليس يهودياً، وإنما استخدم الهجرة كجواز عبور إلى الولايات المتحدة التي لا تشترط سمة دخول لرعايا الكيان الصهيوني.
الركيزة الثالثة أي الركيزة الأمنية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالثانية، فكلما ازداد الشعور بالأمان لدى «الإسرائيليين» ازدادت موجات الهجرة من الخارج إلى الداخل، وكلما ازداد عدد المهاجرين إلى الداخل ازدادت قوة الكيان وازداد إحساس مواطنيه بالأمان.
هذه الركيزة الأمنية بدأت تتخلخل على معظم الجبهات، فالجبهة الشمالية تنذر بخطر داهم لا يخفي الصهاينة قلقهم من تزايد قوته وهو خطر المقاومة اللبنانية. والجبهة الجنوبية أيضاً، باتت مصدر خطر جديد بعد أن أضحت صواريخ المقاومة الفلسطينية تطاول القدس الغربية وتل أبيب، وبعد أن أصبحت الأنفاق من داخل غزة إلى داخل الكيان الشغل الشاغل لأجهزة الأمن الصهيونية. أما جبهتا سيناء والجولان فالصهاينة يدركون أنهما مفتوحتان على كل الاحتمالات.
في الأمن الداخلي للكيان، تتجمع نُذُر الانتفاضة الثالثة في السماء، والمواجهات يومية والمبادرات الفردية باستهداف جنود أو مستعمرين صهاينة تتزايد في أرجاء الضفة الغربية كلها، وصمود المرابطين في المسجد الأقصى يربك محاولات تهويده، ووقفة الفلسطينيين المسيحيين، على قلة من بقي منهم، ضد التجنيد وبيع الأوقاف الأرثوذكسية، تشي بمقاومة شعبية عابرة للطوائف بل موحدة له. ومسيرات كسر الجدار الأسبوعية، وانتفاضات الاسرى المتتالية تؤكد تعدد الجبهات السياسية والشعبية المفتوحة على الكيان.
وأياً كان خاطفو المستعمرين المستوطنين الثلاثة وقاتلوهم قبل أسابيع، فقد زعزعت هذه العملية الأمن الصهيوني، وأظهرت أن كل مستوطن بات هدفاً، تماماً مثلما أظهرت صواريخ المقاومة أن كل مستوطنَة باتت هدفاً.
في ظل هذا كله لم يعد المسؤولون الصهاينة قادرين على إشاعة الشعور بالأمن والثقة بالكيان وأجهزته، وبالتالي بدأوا يخسرون الركيزة الثالثة التي يقوم عليها مشروعهم.
أما الركيزة الرابعة وهي الدعم الدولي، فما من مراقب متجرد إلاّ ويدرك أن الإحساس بالعبء «الإسرائيلي» على المصالح الاستراتيجية الأميركية والغربية، بدأ يتزايد لدى نخب عديدة في الإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية، وهو ما أفصح عنه بكل وضوح، ولأكثر من مرة جنرالات البنتاغون الأميركي في شهاداتهم أمام اللجان المتخصصة بالأمن والدفاع والسياسة الخارجية في الكونغرس.
يبقى التعاطف على الصعيد الشعبي العالمي، إذ بتنا نرى الحركة العالمية المطالبة بمحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة أمام المحاكم الدولية تتعاظم، والدعوات لمقاطعة اقتصادية وأكاديمية وإعلامية للكيان الصهيوني تتنامى، والأصوات المنددة بالتمييز العنصري الصهيوني الأبارتايد ترتفع مع ارتفاع عدد التشكيلات المناهضة له في الجامعات الأميركية والأوربية وبسرعة توازي تلك التي نمت في الثلث الأخير من القرن الفائت لمناهضة الأبارتايد في جنوب أفريقيا ودعت إلى إحكام المقاطعة على نظامها العنصري.
هذا الإحساس بالعزلة المتزايدة للكيان الصهيوني على الصعيد الشعبي العالمي، والذي عبّر عن نفسه في أكثر من مناسبة كما في تلويح وزير خارجية أميركا جون كيري بإمكان لجوء العالم إلى مقاطعة تل أبيب في معرض التحذير من تعنّت نتنياهو إبان المفاوضات مع السلطة الفلسطينية هو الذي جعل مسؤولين صهاينة كباراً يحذّرون قبل سنوات من أخطار ازدياد نفوذ الحركة العالمية الساعية إلى عزل الكيان الصهيوني، وتوجيه أصابع الاتهام إلى بعض رموز الحركة العربية والعالمية ودورها في هذه الحركة، وإلى دور سورية كحاضن للعديد من الفعاليات العربية والدولية، لا سيّما حملات كسر الحصار على غزة بالإضافة إلى دورها كداعم للمقاومة اللبنانية والفلسطينية والعربية من دون أن ننسى بالطبع تصويت 138 دولة في الأمم المتحدة على اعتبار دولة فلسطين عضواً مراقباً، وهو ما ننتظر اليوم ترجمة مفاعيله القانونية والسياسية ضد جرائم الصهاينة.
تبقى الركيزة الخامسة، وهي التي يستثمر فيها الصهاينة اليوم، ومعهم كل حلفائهم، للتعويض عمّا أصاب الركائز الأربع من تصدع ينذر بتطورات خطيرة على مستقبل الكيان الصهيوني. هي الضعف العربي بكل ما يشهده الواقع العربي من تشرذم وتمزق وانقسام واحتراب واقتتال وتحريض طائفي ومذهبي، وكل ما يتصل به من تواطؤ رسمي ومشاركة بعض الأنظمة في مشاريع وخطط تدعم استمرار الكيان وتفوقه، بما فيها خططه خلق دويلات عرقية وطائفية ومذهبية تبرر وجوده «كدولة يهودية» وتسمح له بالتفوق الكاسح على هذه الدويلات التي ستبقى غارقة في صراعها مع بعضها بعضاً، وفي صراعات على النفوذ داخل كل منها.
إن مصدر القوة الأساسي اليوم للعدو الصهيوني ليس ترسانته، حتى النووية منها، ولا الدعم الأميركي غير المحدود، ولا التماسك الداخلي المهدد، ولا السطوة الأمنية المتلاشية يوماً بعد يوم، بل هو حال التردي والتشظي التي تسود أمتنا العربية.
لكن الضعف والهوان والتواطؤ لن تؤثر في مسار الأفول الصهيوني الذي بات اليوم مرتبكاً بشدة أمام ما يراه أمامه من تطورات ومتغيرات في المنطقة، يفرح لبعضها لحين، ثم يبدأ حذره وقلقه وخوفه بالاتساع.
فما تمر به الأمة العربية يبقى في النهاية مخاضاً مرّت به كل الأمم، وآلام المخاض في النهاية تحمل في طياتها آمال ولادة يتحدد موعد حصولها بحسب وجود القابلة الأدوات والآليات القادرة على التوليد.
ومن جهة أخرى، بدأت شعوب المنطقة تتحمل مسؤوليتها في أقطارها لوحدها، وتخوض معاركها من دون الاعتماد على حكومة هنا وحكومات هناك من منظومة العمل الرسمي العربي، والكل يذكر كيف نجح لبنان المقاوم بتحرير أرضه من دون قيد أو شرط ومن دون أن يكلف النظام الرسمي العربي نفسه عقد اجتماع طارئ لبحث مسلسل الاعتداءات الصهيونية على لبنان، بما فيها غزوه واحتلال ثلث أراضيه عام 1982.
الآن، في فلسطين يكرر المقاومون البواسل تجربة المقاومة اللبنانية، ويخترقون الحصارين، حصار الأشقاء وحصار الأعداء معاً، ويعيدون تأكيدهم قوة جبهة المقاومة والممانعة في الأمة والإقليم، مدركين أن كل ما تحقق للمقاومة من انتصارات وما لحق بالعدو من هزائم، إنما كان ناجماً عن وحدة تلك الجبهة وتفاهمها مع حلفائها في العالم، ومدركين أيضاً أن الهدف الرئيسي من وراء «الفوضى الدموية» التي تعّم دول المنطقة، خصوصاً المحورية منها في الصراع مع العدو، هو تشتيت هذه الجبهة وتفتيت وحدتها وكسر حلقاتها وتدمير دولها المدعوة هي الأخرى إلى تحصين أوضاعها الداخلية عبر المصالحة والمراجعة والمشاركة ودائماً عبر المقاومة.
المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية