وصيّة القنطار… سندٌ للمقاومة وأهلها
رامز مصطفى
الوصية التي تركها سمير القنطار، ونشرتها المقاومة بعد استشهاده غيلة وغدراً على يد العدو الصهيوني، يقيني أنه قد خطها منذ عقود قد خلت، عندما صعد ورفاقه إلى زورقهم يمخرون عباب البحر ووجهة رحيلهم مدينة نهاريا على الساحل الفلسطيني المحتل. وصية خطها في زمن المقاومة الجميل، وحسبي كلّ أزمنتها جميلة، لأنّ فيها يتجسد طهر الانتماء والاختيار. طهر القضية الأعدل فلسطين. يومها كان القنطار في عجلة من أمره فآثر كتابتها برصاصات وجهها إلى صدر أعدائه وأعدائنا، على أمل أن يمهرها بدمائه الزكية، لكنّ القدر يومها أرغمه على التأجيل لأربعة عقود، قضى القنطار جلها في سجون الاحتلال، إلى أن حرّرته إرادة المقاومة التي فرضت نفسها على سجانيه وأرغمتهم على إطلاق سراحه في عملية «الرضوان» اسم الشهيد الحاج عماد مغنية .
لم ينتظر القنطار يومها أو يفكر، فليس لديه متسع من الوقت، لأنه عاهد كلّ المؤمنين بحرية فلسطين بأنه لم يعد من فلسطين إلا لكي يعود إليها. وقال: «أصرّيت أن أكمل هذا الطريق، طريق الجهاد والتضحية»، وهو يؤمن بعمق بأنّ العودة إليها، سبيلها وطريقها هو المقاومة وأزيز الرصاص وصهوة جياد المقاومين. وكان له ما أراد وتجدَّد يقينه مرة أخرى، فسابق عميد الأسرى المحرَّر الزمن لأنه كان يُدرك أنّ الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
ما كان يقضّ مضجع سمير القنطار على الدوام، هو ذلك الظلم الواقع على فلسطين وأهلها، بسبب الاغتصاب الصهيوني الجاثم على أرضها منذ العام 1948، ولطالما كان يردّد في مجالسه وخطاباته وإطلالاته الإعلامية، «ما لم تتحرَّر فلسطين ليس هناك من قيامة لأمة إن كانت عربية أو إسلامية». وجملته الشهيرة التي كان يرددها «طالما إسرائيل موجودة، سنبقى نقاتل. وطالما قاتلنا سننتصر»، أي طالما أنّ «إسرائيل» تغتصب فلسطين فالمقاومة وقتالها باقٍ إلى أن تتحرّر. وهذه هي نقطة الفيصل في ما كان يؤمن به القنطار، والتي عاد إليها شهيداً، تاركاً إياها أمانة لدى من هم أهلٌ للأمانة، بحسب ما جاء في وصيته، التي قال فيها لأنّ في هذا الزمن لا أحد قادر أن يعوضنا عن شخصية وحضور وحكمة وشجاعة سماحة الأمين العام السيد حسن نصرالله. وأسأل الله عز وجل أن يديمه لهذه الأمة ، مضيفاً أسأل الله أن أكون قد وفيت عهدي ووعدي لشهداء الوعد الصادق، لأهل فلسطين .
وصية سمير لا تختلف عن الوصايا التي كتبها سائر الشهداء، لكنّ ما ورد في وصية القنطار من كلمات وعبارات ومحدَّدات لا لبس فيه للخيارات، ولما أشبعها من ثقة عالية لا تصدر إلاّ عن قامة شكلت علامة فارقة في حياتها ونضالها وجهادها ورؤى غير قابلة للتأويل أو التفسير من خارج فهمه وإيمانه، حيث خصّ قائد المقاومة بالقول «أشكر قائدنا في المقاومة الإسلامية سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله، الذي من أعماق قلبي على الرعاية التي أحاطني بها فور تحرري من الأسر حتى لحظة شهادتي. وأشكره على وعده الصادق الذي بفضل الله وبفضله تحرَّرت من الأسر».
ما أكده جنرال الشهداء سمير القنطار في تلك الوصية التي أضحت سنداً للمقاومة وأهلها، الذين خاطبهم بالقول إنّ الله أعزّني وجعلني واحداً من رجال المقاومة الإسلامية، وبين إخوة أخذوا على عاتقهم القتال بعناد ورفض المساومة والتراجع . وإلى محبيها وداعميها، بقوله: لكلّ المحبين لهذه المقاومة أنّ شهادتي وشهادة أي أخ في هذا الخط على يد العدو الصهيوني تعتبر دافعاً إضافياً لهذه المسيرة إلى الأمام .
لتأتي شهادته التتويج لتلك الرؤى والخيارات، بأنّ النصر الكامل وإزالة هذا الكيان الصهيوني من الوجود يحتاج إلى تضحيات أكثر من التي قُدمت حتى الآن . فترجم أقواله بالأفعال في دفع ضريبة كفاحه وجهاده بالدم والاستشهاد في سبيل القضية الأقدس والأسمى والأوضح والأعدل، قضية المقاومة وقضية فلسطين، بقوله اليوم أعزّني الله بهذه الشهادة التي أسأله أن يتقبلها، فإنني أمضي وأنا على ثقة بأنّ هذه المسيرة الجهادية لن تتوقف ولن تتراجع ولن تحيد عن بوصلتها فلسطين .
ما جاء في الوصية يؤكد ما أدركه شهيد فلسطين ولبنان والأمة بشكل مسبق، أنّ من بين ثنايانا من سيخرج شامتاً ومشككاً ومحرضاً على المقاومة، ناكراً ومستنكراً تضحياتها وهم مرضى. فأراد شهيدنا الكبير ومن موقع المتيقن والعارف والمؤمن أن يترك أمر ردّ المقاومة وقيادتها على اغتياله من قبل العدو الصهيوني، رهن تقييمها وتقديرها وتحديدها للزمان والمكان المناسبين، وإخراج مسألة ردّ المقاومة من سياق المزايدة عليها وعلى قيادتها وسيدها، وهذا بتقديري يقع في مقدمة الكلام الهام والمهم جداً الذي جاء في وصيته. وهذا ما أفرد إليه في الوصية من حيز واسع، حين قال: «هذا العدو يتوهم أنه بقتلنا قد يجر المقاومة إلى مواجهة هو اختار زمانها ومكانها»، مؤكداً أنّ «قيادة المقاومة وعلى رأسها سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله تعرف وبدقة متى وكيف تردّ على جرائم العدو، وتدرك بمسؤولية تجنب الانجرار إلى معركة العدو حدّد زمانها ومكانها، فلا أحد يشتبه بجدية المقاومة»، ويدعو هؤلاء المشككين بقدرات المقاومة وردها، ليقول لهم «لا أحد يشتبه بجدية المقاومة، وإنّ كلّ دماء المقاومين عزيزة وغالية، وإنّ الردّ والانتقام الفوريين يكونان فقط إذا أضافا إنجازاً إلى رصيد المقاومة وجنّباها الانجرار إلى معركة حدّد زمانها ومكانها العدو الغاصب وقصد من هذا الاغتيال ذلك». ويجدد ثقته بأنّ الرد على جريمة اغتياله قادمة لا محالة حين كتب قائلاً: «دماؤنا متساوية وقيادتنا حكيمة هكذا أثبتت التجارب الماضية، وعيوننا تنظر إلى البعيد، إلى تحقيق الهدف الأكبر لنصر الله لنا على عدونا الظالم». وختم جنرال الشهادة والشهداء سمير القنطار وصيته المفعمة بالثقة والمحبة والتقدير للسيد حسن نصر الله في دعوته الجميع إلى أن يردِّدوا بأعلى الصوت «لبيك يا نصر الله».