استعادة الرمادي: هل تعني بداية انحسار «داعش»؟

العراق يعلن تحرير مدينة الرمادي، التي يقطنها نحو 500,000 مواطن، ورفع العلم العراقي على المجمع الحكومي و«بعض» القادة الأميركيين يشككون بالنصر الكبير المعلن «بعد اكثر من 600 غارة جوية»، نظراً… لانسحاب قرابة 19,000 مقاتل من تنظيم داعش، وتركهم 150 انتحارياً لمواجهة القوات العراقية»، كما جاء على لسان الجنرال المتقاعد وعضو اركان المحافظين الجدد، باري ماكافري، 29 كانون الأول الماضي.

بعض اقطاب النخبة الفكرية من الليبراليين فنّدوا ادّعاءات الرئيس الأميركي بالانتصار الوشيك على تنظيم داعش، نتيجة دحره في الرمادي. في احدث إصدارات الفصلية المرموقة «فورين افيرز»، الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية، اعتبرت التنظيم بانه «ليس مجموعة إرهابية، وستفشل جهود مكافحة الإرهاب في الحدّ من تقدّم التهديد الجهادي الاخير». واشارت الدورية بما لا يدع مجالاً للشك إلى أنّ الرئيس أوباما «اخطأ» في مساواة داعش بتنظيم القاعدة نظراً لأنّ الاول «بالكاد يستوفي شروط وسمه بتنظيم ارهابي»، على الرغم من بعض ممارساته التي توحي بذلك «بل لا يشكل تنظيماً ارهابياً، حقيقة».

واردف قائلاً انّ داعش يضمّ نحو 30,000 مقاتل، يسيطر على شريط واسع من اراضي العراق وسورية، لديه مقدرات عسكرية واسعة، يتحكم بخطوط الاتصالات، يتمتع ببنية تحتية للقيادة والتحكم، يموّل نفسه بنفسه، وينفذ عمليات عسكرية معقدة، انه شبيه بدولة لديها قوات عسكرية تقليدية».

واشنطن الرسمية، وعلى لسان الرئيس أوباما اشادت «بالتقدم الذي حققته القوات العراقية ودليل على بسالتها واصرارها والالتزام المشترك» لدحر داعش واخراجه من مواقعه الآمنة. واعتبر قادة وساسة أميركيون آخرون ان الحكومة العراقية «استعجلت الاعلان عن النصر» طمعا لترسيخ صورة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي التي بدأت تواجه انتقادات داخلية شديدة على خلفية تصاعد الأزمات الداخلية والأمنية والاقتصادية.

في المقابل اعتبر القادة الميدانيين في العراق انّ واشنطن «هذه المرة، حرصت على تثبيت نفوذها وتوفير الدعم للعبادي لضمان ابتعاده عن النفوذ الايراني وزجّت بقوات وامكانيات كبيرة الى جانب الجيش العراقي».

مشاركة قوات «الحشد الشعبي» بفعالية محدودة لم تكن مصدر ارتياح في واشنطن ووكلائها الاقليميين، ووضعت جملة من العراقيل السياسية والعملياتية في وجهها للدلالة على انها تشكل «عامل إعاقة وليس عامل تقدّم في العمليات العسكرية ضدّ داعش، والذين قاتلوا داعش كانوا من ابناء الرمادي امثال الجبور والبونمر وابو ريشة والهايس وصحواتهم وغيرها». اما الدور الفاعل «او دور الحشد الشعبي فقد كان ثانويا»، وفق روايات من داخل الصحوات، اوردتها تلافياً للتوترات الطائفية السابقة التي رافقت استعادة مدينة تكريت، كما يرجح.

وسائل الإعلام الأميركية الرسمية، قناة «الحرة» مثالاً، اعتبرت كلفة تحرير الرمادي «باهظة، اسفرت عن تدمير اكثر من 3000 منزل والحاق الضرر بالبنى التحتية». الامم المتحدة من جانبها اجرت تقديرات أولية لكلفة الاعمار في الرمادي التي ستتطلب «ما لا يقلّ عن 20 مليون دولار، لكن الكلفة الاجمالية على المدى البعيد ستفوق ذلك الرقم بعدة اضعاف».

الثابت في معركة تحرير الرمادي انها جاءت على ايدي قوات الجيش العراقي بدرجة اساسية، ومشاركة مقاتلين من العشائر المحلية الذين دربتهم بغداد في الآونة الاخيرة، وسيعهد لها لاحقا مهام تطهير المدينة من جيوب داعش المتبقية بعدما اثبت الاداء الميداني للتنظيم انه قوة عسكرية قوية جديرة بالاعتراف. سيطرة داعش على مساحات شاسعة من الاراضي عزز نظرية تميّزه عن حاضنته الاصلية، تنظيم القاعدة، ووفر له امكانيات الادّعاء بانّ لديه بنية دولة مهّدت استقطابه لاعضاء جدد من شتى اقطار العالم.

واكد الناطق باسم تحالف واشنطن الدولي، ستيف وورين، ان قوات التحالف «ستواصل توفير غطاء جوي للقوات العراقية حتى تطهير الرمادي بالكامل».

كما فتح الانتصار بوابة انحسار التنظيم الارهابي في واحدة من اهمّ مواقعه في البلاد، والذي شكل حاجزاً مانعاً امام تقدّم الجهود المشتركة للعراق وسورية في مكافحة الارهاب، ويقطع خطوط إمداد التنظيم وتواصله الجغرافي مع تواجده في سورية فضلاً عن وقف رهاناته بتهديد العاصمة بغداد عسكرياً من مسافة جغرافية قريبة متى شاء.

استعادة الرمادي أعادت للجيش العراقي بعضاً من الهيبة التي فقدها سابقاً في مواجهات لم تكتمل مع التنظيم. اما المواجهة الفاعلة ضدّ التنظيم فتتأكد يوماً بعد يوم انها تتطلب مشاركة دولية لإلحاق الهزيمة به، يسخّر فيها سلاح الجو طاقاته لمساندة تقدم القوات البرية في ملاحقة ودحر عناصر التنظيم.

يشار الى انّ تنظيم داعش تلقى هزيمة ثقيلة اضطر على اثرها للانسحاب من مدينة عين العرب كوباني، خريف 2014، بفعل تضافر سلاح الجو والقوات البرية التي استبسلت في قتال عناصر داعش من بيت إلى بيت، وأسفرت عن مقتل بضع مئات من عناصره وخروجه منها مدحورا. تأخر سلاح الجو عن الانخراط وتوفير الغطاء للقوات البرية في معركة استعادة تكريت من داعش كانت مكلفة ومضت بوتيرة بطيئة، مما استوجب ادخال وحدات من القوات الخاصة الأميركية «ونحو 80 عنصر من القوات الخاصة الاسترالية» لتعزيز القوات العراقية.

في معركة الرمادي، ابدع سلاح الهندسة في القوات العراقية في تمشيط المنطقة وتطهيرها من العبوات المتفجرة باستخدامه معدات أميركية لإزالة الالغام، واستغلت عنصر التنسيق بين القوات البرية والمدرّعة بتوفيرها الغطاء الناري المطلوب للتطهير والتقدّم.

بشائر النصر في الرمادي هي محطة على طريق طويل من التصدي لداعش وتدمير بنيته وتقليص نفوذه، ينبغي استثمارها دون تردّد لمحاصرة التنظيم في مناطق اخرى تمهيداً لضربه في معقله شبه الحصين في «عاصمته» الموصل وامتداداته في سورية.

البعد الجيوسياسي وما ينطوي عليه من حسابات لاطراف متعددة ومتناقضة سيشهد مواجهات اخرى وتراجعات تكتيكية ينبغي عدم التوقف والتقهقر على خلفيتها. بكلمة اخرى، حسابات بعض القوى الدولية والاقليمية في هذا الشأن لا تطابق او تقارب الاوجاع والرؤى المحلية للعراق وسورية، ومن المرشح ان تمضي ببطء حصر داعش في بقعة جغرافية اضيق مما هو عليه راهناً، لتوظيفه لاحقاً بعد احداث تعديلات مؤاتية في التوازنات الاقليمية، مستثمراً إشاعة جو من تمدّد الاعمال الارهابية في عدة مناطق جغرافية متباعدة، والتي يتقنها التنظيم لما يلقاه من رعاية ودعم وتأييد اقليمي ومحلي.

وقد عبّر قائد القوات البرية السويسرية عن قلق بلاده من انتشار العمليات الإرهابية قائلاً انّ «الوضع في انحدار مستمر، تهديد الارهاب يتنامى، وحرب الشوارع تجري على امتداد الكرة الارضية اما المستقبل الاقتصادي فهو قاتم وموجات هجرة اللاجئين الناجمة عنها اتخذت ابعاداً غير مرئية».

ما اراد قوله القائد السويسري ايضاً انّ تنظيم داعش سيلجأ لتفعيل خلاياه العاملة في الدول الغربية في غضون الأشهر القليلة المقبلة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى