مرويّات تاريخيّة

لبيب ناصيف

يقول سعاده في خطاب أول آذار العام 1938 المنشور في الجزء الرابع من الآثار الكاملة: «بين أواسط سنة 1935 وأواخرها نما الحزب نمواً كبيراً واتسع نطاقه ولم يعد في الإمكان إخفاء هذه الحركة الفكرية الاجتماعية السياسية العظيمة. فأخذ أمر الحزب يظهر شيئاً فشيئاً وصار بعض الناس يتهامسون في البيوت والأوساط العائلية عن هذه الظاهرة الجديدة «.

الواقع أن الحزب كان انتشر في السنة الحزبية الثالثة 1934-1935 بشكل مذهل في أربع مناطق هي: الكورة، المتن، بيروت والشوف، بحيث أن عدد أعضاء الحزب كان بلغ عند أبواب الانكشاف الألف عضو ونيفاً.

لم يكن ممكناً إذن أن يبقى هذا الانتشار الذي كان شمل مناطق عديدة من لبنان والشام وفلسطين، أمراً سرياً على سلطات الانتداب الفرنسي التي من أولى مهماتها أن تراقب كل حركة نهضوية، وكل عمل قومي يهدف إلى تحرير وطننا من الاحتلال.

يضيف سعاده في خطابه المشار إليه آنفاً: «ولكن الشعور بوجود الحزب السوري القومي واتصال هذه الشعور بدوائر الاستخبارات والأمن العام لم يكونا كافيين لجلاء حقيقة هذا الحزب وطبيعته ومبلغ قوته، فكان لا بد من اكتشاف خائن لأن رجال الحزب المركزيين كانوا كلهم مخلصين ومنزهين وكانوا قد أصبحوا ثابتين في مراكزهم. وتمكنت هذه الدوائر من اكتشاف أكثر من خائن ومأجور واحد ولكن واحداً منهم فقط تمكن من انتهاز فرصة تشعب أعمال الحزب والوصول إلى معلومات وثيقة عن أماكن أوراق الحزب وأسماء جميع العاملين المركزيين، فأعطى هذه المعلومات إلى دائرة الأمن العام التي اتخذت تدابيرها في الحال وكان أمر القبض علينا في السادس عشر من تشرين الثاني سنة 1935».

عن انكشاف وجود الحزب ينقل الأمين جبران جريج في الجزء الأول من مجلده «من الجعبة» ما رواه الزعيم له ولمعاونيه، بالآتي:

«اطلع أحد موظفي المفوضية الفرنسية أحد رفقائنا على وجود ملف جديد في الدائرة التي يعمل فيها يحتوي على ورقة وحيدة مسجل عليها بالفرنسية تحت عنوان «الحزب السوري القومي» أسماء عدد من الأعضاء المنتمين إليه، منها اسم الرفيق المذكور جميل صوايا.

« منذ ذلك الحين أخذ الزعيم يفكر في هذا الأمر ويراقب تطورات الموقف فاكتشف بعد الدرس صاحب الإخبارية، كان صاحبنا هذا يتردد إلى منتدى فتوح صاحبه الرفيق نعيم فتوح في ساحة الشهداء حيث كان يجتمع ببعض الأعضاء وقد تعرّف بواسطتهم على الحزب ثم انتمى إليه، فقدم إلى المفوضية الفرنسية أسماء هؤلاء الأعضاء بالإضافة إلى اسم الزعيم وأعضاء مجلس العمد، إن ورود أسماء الأعضاء الذين يرتادون المنتدى حصر تهمة الإخبارية فيه خاصة أن هذا الواشي لم يغفل عن اسم واحد من المرتادين القوميين الاجتماعيين إلى المنتدى إلا اسمه ، الصفحة 40 الجزء الثاني «من الجعبة» .

وقد قاده سياق البحث في هذا الموضوع إلى اكتشاف أكثر من عضو له علاقات مشبوهة مع أجهزة الأمن العام الفرنسي فوضعهم تحت المراقبة المتواصلة وغيّر وبدل في أمكنة حفظ الأوراق الحزبية وسجلاتها.

كيف اعتقل سعاده

فجر السادس عشر من شهر تشرين الثاني 1935 داهمت منزل سعاده في شارع جان دارك في رأس بيروت المعروف «بالكوخ» قوة من رجال الأمن العام تريد تفتيشه واعتقال الزعيم، كانت الأوراق الحزبية الخاصة بالزعيم في مكان أمين تحت أرضية الغرفة، ولكن بعض المراسلات والأوراق التي كانت بين يديه للدرس موجودة في حقيبة على كرسي مكتبه فألقى عليها عباءته واستأذنهم للحلاقة الصباحية وأخذ الحمام، فسمح له بذلك.

قام بهذه الأعمال الصباحية على عادتي كأنه لم يحدث أمر يستوجب القلق، حتى أنه راح ينشد أغنية وهو يستحم، وقبل أن يرافقهم إلى دائرة الأمن العام سأل المفتش إن كان يحسن به أن يأخذ منشفة وصابونة وفرشاة أسنان ومعجوناً لها، فأذن له، وتأبط كتباً وغادر المنزل برفقة رجال الأمن إلى دائرتهم حيث وجد أن عدداً من المسؤولين قد اعتقل.

فكتور موسى، السكرتير الأول في مديرية الأمن العام المقرب جداً من مدير الأمن العام الفرنسي، الذي تولى في ما بعد مناصب عدة منها إدارة كازينو لبنان، يقول عن اعتقال سعاده:

« استقبلنا أنطون سعاده في المكتب استقبالاً رسمياً جافاً كما كنا نستقبل أي موقوف عادي خصوصاً أولئك الذين يعملون في السياسة، ونحن في مديرية الأمن العام أدرى الناس بنفسيتهم ولكن سرعان ما تبدد الجفاء ليحل محله التقدير والاحترام، فتبدلت الصورة التي كانت مرسومة سلفاً وذلك عند أول جواب للسؤال الذي وجهه مدير الأمن العام. فكان جواباً رزيناً جدياً يحمل كل شروط الأدب والمسؤولية، وجدنا أنفسنا أمام موقوف من نوع خاص يفرض على من يتعاطى معه، وإن من موقع السلطة تجاهه، الاحترام والتهذيب «.

ومثلما اعتقل سعاده، اعتقل أيضاً العديد من المسؤولين المركزيين والمحليين منهم: عبدالله قبرصي ليلة عرسه ، نعمة ثابت، زكي نقاش، مأمون أياس، فؤاد خوري، فكتور أسعد، فؤاد مفرج، صلاح لبكي، جورج حكيم، جورج حداد، يوسف الدبس، جورج صليبي. أما الرفيق جبران جريج فلم يعتقل لأنه كان موجوداً في الكورة فبقي متوارياً، كذلك الأمر بالنسبة إلى الرفيق كامل أبو كامل.

التحقيق

تولى التحقيق مع الزعيم ومعاونيه القاضي الفرنسي تمبال، يعاونه فريد حبيب من كوسبا، سفير لاحقاً مدوناً لوقائع التحقيق الذي دام نيفاً وشهراً ومعه جورج بويز بوظيفة كاتب.

باشر القاضي تمبال التحقيق مساء السبت 16/11/1935 واستمر مع سعاده ومعاونيه ومع رفقاء مسؤولين اعتقلوا تباعاً، منهم من أخلي سبيلهم لاحقاً ومنهم من أصدر المحقق مذكرات توقيف في حقهم، حتى الرابع من كانون الثاني 1936 عندما ختم المستنطق الفرنسي التحقيق وأحالت النيابة العامة زعيم الحزب وأعضاءه على المحاكمة ناسبة إليهم التهم الآتية:

أولاً: تشكيل جمعية سرية هدفها الإخلال بالأمن العام والأضرار بأراضي الدولة وتغيير شكل الدولة.

ثانياً: تأليف جمعيات سرية لتحقيق هذه الغاية.

ثالثاً: تنظيم اجتماعات سرية غير مرخص لها.

رابعاً: جمع أموال وتشكيل شركة تجارية بصورة مخالفة للقوانين .

خامساً: القيام بتشكيل هيئات من الميليشيا بصورة مخالفة لأنظمة البلاد وقوانينها.

المحاكمة

تألفت هيئة المحكمة المختلطة على النحو الآتي: الرئيس فرنسي واسمه جان روسيه، عضو اليمين فرنسي أيضاً واسمه مانيين، عضو اليسار لبناني ناصر رعد، من سير الضنية المدعي العام فرنسي واسمه فورنييه، وتعين للمحكمة مترجم هو غبريال باسيلا الذي تولى أيضاً مهمة كاتب المحكمة.

وفي 24/1/1936 بدأت محاكمة سعاده ومعاونَيْه نعمة ثابت رئيس مجلس العمد عميد الداخلية وزكي النقاش عميد الحربية .

قاعة المحكمة ازدحمت بالحضور من رفقاء متهمين أطلق سراحهم بكفالات مالية، ورفقاء غير متهمين، ومواطنين، فامتلأ المكان «وصار الوقوف أكثر من الجلوس»، كما يروي الأمين جبران جريج .

أمام رئيس المحكمة صحائف مكدسة من أوراق الحزب المصادرة بينها نسخة من خطاب الزعيم في أول حزيران 1935 ومن تقارير قاضي التحقيق والمدعي العام.

رفع الرئيس رأسه عن الأوراق ونادى:

أنطوان سعاده .

لم يجب أحد. كرر المناداة: أنطوان سعاده، فلم يلق جواباً، راح الناس يتلفتون ويتساءلون، وتوجّه المحاميان حميد فرنجية وحبيب أبو شهلا إلى الزعيم قائلين:

الرئيس يناديك، فأجاب الزعيم بهدوء تام: لم أسمع الرئيس يذكر اسمي، ولاحظ الرئيس حديث الأستاذين مع الزعيم فسأل مستوضحاً فأجابه المحامي أبو شهلا أن المقصود بالمناداة حاضر ولكنه لا يجيب لأنه يقول إنه لم يناد باسمه.

فسأل الرئيس: ما اسمه؟ فقال الزعيم لمحامييه ليبلغا الرئيس: اسمي أنطون سعاده، فنظر الرئيس في وجه الزعيم الهادئ ثم أمر المكتب بتصحيح اإسم: وصدرت المناداة من جديد، أنطون سعاده، فنهض الزعيم وأجاب: حاضر.

وشخصت الأبصار إلى سعاده الذي فرض شخصيته وطريقة تفكيره على المحكمة منذ أول احتكاك بينه وبينها.

وسأل رئيس المحكمة الزعيم: هل تفهم الفرنسية؟ فأجاب الزعيم: نعم. فأخذ الرئيس يشرح قضية الحزب بالاستناد إلى التقارير والوثائق التي بين يديه، كان الرئيس في أثناء شرحه الطويل يسأل الزعيم بين الفينة والفينة: هل يتبع الشرح، وكان الزعيم يجيب بالإيجاب، ولما رأى الزعيم أن الشرح يطول ويتناول نقاطاً متعددة، تناول أوراقاً من دفتر المحامي فرنجية وأخذ يدوّن عليها ملاحظاته على شرح رئيس المحكمة.

لمّا فرغ الرئيس من شرحه وتهمه وجاء دور دفاع الزعيم عن نفسه وحزبه سأل الرئيس الزعيم هل يريد التكلم بالفرنسية فأجاب الزعيم أنه سيتكلم باللغة القومية، فطلب إليه الرئيس أن يتكلم باللغة الفرنسية لأنه يحسنها، وألحّ على ذلك، فأجابه سعاده ذلك الجواب الذي هزّ المحكمة والجمهور وتجاوب صداه في كل سورية: حضرة الرئيس إني سوري وفي بلادي وإني أقود حركة تحريرية ترمي إلى إقامة السيادة القومية وجعلها مطلقة، فلست أقبل أن أحمل على الكلام وفي بلادي بغير لغتي دفاع سعاده التاريخي منشور في الجزء الثاني من «الآثار الكاملة» .

استمرّت المحاكمة أربعة أيام استجوب خلالها معاونو سعاده ورفقاؤه، وفي 28/1/1936 صدر الحكم بسجن الزعيم مدة 6 أشهر مع غرامة 25 ليرة جزاء نقدياً، وسجن كل من نعمة ثابت، عبدالله قبرصي، زكي نقاش وأسعد الأيوبي شهراً واحداً مع تأجيل التنفيذ، وبجزاء نقدي على كل منهم قدره 25 ليرة.

وبسجن كل من جورج حداد، جورج حكيم، فؤاد مفرج، مأمون أياس، فكتور أسعد، روبير أبيلا، صلاح لبكي، عمر لبّان، منح راسي، فؤاد خوري، جورج صليبي، محمد نقاش، سامي قربان، محمود حافظ، عفيف فاخوري، أسبوعين مع تأجيل التنفيذ.

وبتبرئة كل من: عادل عيتاني، سميح علم الدين، جميل صوايا، يوسف الدبس، شفيق الشرتوني، عادل ماهر، جان جلخ، رفيق الأيوبي ونجيب الفيكاني.

الوضع الحزبيّ خارج الأسر

أما بالنسبة إلى وضع الحزب خارج المعتقل، فمن المفيد أن نشير إلى ما يقوله سعاده في رسالته الرابعة إلى غسان تويني، تاريخ 26 أيار 1936: «كنت في السجن ولم يكن في أيدي القوميين الاجتماعيين غير المبادئ، والدستور وخطاب الزعيم في أول حزيران 1935 ونص كتاب خصوصي موجه مني إلى سائل رأيي في العالم العربي». ويضيف «دافع الأعضاء بهذه الوسائل وبما اكتسبوه من المحادثات مع الزعيم وما نقل عنه».

لقد أحدث اعتقال سعاده ومعاونيه فراغاًً في القيادة المركزية للحزب، علماً أن الدوائر المركزية لم تكن مكتملة الأجهزة، وكذلك في المنفذيات، فأصبح من الضرورة الملحة إيجاد قيادة مركزية قبل أي شيء، وهذه «العقدة» حلّت على الوجه التالي كما يوضح الأمين جبران جريج في الجزء الثاني من مجلده «من الجعبة»: « حضر الرفيق زكريا لبابيدي، وكان نقل من وظيفته في الكورة إلى وظيفة مماثلة في الدوائر القضائية في بعبدا، إلى بيت جرجس حداد والد الرفقاء فؤاد، يوسف وعفيفة حداد فإذا به يفاجأ بالرفيقة عفيفة تسحب مرسوماً بخط الزعيم ينص على تعيينه وكيلاً لعميد الداخلية، وعلى تعيين الرفيق فؤاد أبو عجرم ناموساً للعمدة. كان تاريخ المرسوم 14 تشرين الثاني أي قبل اعتقال سعاده بيومين. وكان الزعيم قد كلفها بتبليغه للرفيق لبابيدي وهو بدوره يبلغ الرفيق أبي عجرم.

«تهيّب الرفيق لبابيدي الموقف وهو حديث الانتماء من جهة وقليل الخبرة في الأمور الإدارية من جهة أخرى، لكنه تشجّع وتناول المرسوم وانصرف مصمماً على القيام بأعباء هذه المسؤولية على أحسن ما يتمكن.

«وتشاء الصدف أن يدعوه الرفيق رفعت زنتوت، أحد المسؤولين في منفذية بيروت إلى اجتماع يعقد في بيت الرفيق ناجي تميم في محلة «جل البحر» فيغتنمها فرصة ليتعرف على الوضع الجديد الناشئ، خرج من الاجتماع وقد قرر أن يطلع رفيقين اثنين على صفته الحزبية الجديدة: رفعت زنتوت والمحامي عادل عيتاني.

كان الرفيق زنتوت مكلفاً من قبل المنفذ العام أسعد الأيوبي للقيام بأعمال المنفذية بسبب حالة الاعتقالات الطارئة وهكذا، بعد عملية الاطلاع والدرس، قرر مع الرفيقين المذكورين تشكيل قيادة موقتة يرئسها الرفيق زنتوت محتفظاً لنفسه بمسؤوليته وأشرك بعض الرفقاء الآخرين بمهمات أخرى وانحصر همهم بادئ ذي بدء بجمع بعض التبرعات لتسديد بعض النفقات وتأمين بعض الإعانات».

أوّل هيئة مركزيّة رسميّة

حمل عميد الدعاية والنشر الرفيق عبدالله قبرصي عند الإفراج عنه، وكانت نقابة المحامين تحركت في هذا الصدد، مرسوماً من الزعيم يعينه فيه وكيلاً له مع تعيين الرفيق الدكتور جورج باسيل من بلدة غلبون قضاء جبيل أمين سر عام، وبناء على هذه الصلاحيات عيّن العميد قبرصي بتاريخ 26 تشرين الثاني لجنة تنفيذية برئاسة صلاح لبكي الذي كان أُفرج عنه في ذلك النهار تحديداً وعضوية كل من الرفقاء زكريا لبابيدي، رفعت زنتوت وعادل عيتاني، أما العميد قبرصي فبقي ملازماً مكان إقامته الجبرية في بتعبورة، الكورة.

لم يستمر العمل باللجنة التنفيذية التي كان شكلها العميد قبرصي بصفته زعيماً بالوكالة، فقد استصدر الزعيم مع انتهاء التحقيق مرسوماً بتعيين صلاح لبكي نائباً للزعيم وألغى كل تدبير سابق، بعدما مارست الإدارة الموقتة الأولى مدة عشرة أيام تقريباً والإدارة الثانية نحو شهر.

المعلومات المتوفراة أن الرفيق صلاح لبكي شكل مجلس مفوضين من المهندس جورج حداد للداخلية يعاونه قاسم حاطوم، ومأمون أياس للمالية يعاونه جميل عازار، أما الإذاعة فبقيت من ضمن مسؤوليته.

وعين نائب الزعيم الرفيق عبدالله الجميل منفذاً عاماً لبيروت بدلاً من الرفيق أسعد الأيوبي، كذلك عين الرفيق مصطفى المقدم منفذاً عاماً لطرابلس بدلاً من الدكتور سميح علم الدين، وأصبحت مديريات الكورة الأربع منفذية وعيّن الرفيق جبران جريج منفذاً عاماً لها .

في هذه الفترة تحديداً كانت للحزب مشاركته الجيدة في الحفلة التأبينيه الكبرى التي جرت في دمشق في كانون الثاني 1935 لمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة ابراهيم هنانو رئيس الكتلة الوطنية في الكيان الشامي.

فمن طرابلس توجه وفد حزبي ضم الرفقاء مصطفى المقدم، جبران جريج، سعدي الذوق، ومن البقاع شارك الرفيق يوسف الدبس مع عدد من الرفقاء، إذ كان أحد خطباء المناسبة، وفي هذا الصدد يقول الأمين يوسف الدبس في كتابه «في موكب النهضة»:

«طلبت من صديقي فخري بارودي، وهو أحد أقطاب الكتلة الوطنية أن أكون أحد الخطباء فوافق دون تردد، ولما وصلت الى دمشق ودخلت بيت صديقي فخري البارودي وبصحبتي بعض القوميين ومنهم سليم معلوف، نائب زحلة اليوم، دوّنت اسمي في سجل التشريفات وإنني أحد الخطباء باسم البقاع. لم يمض وقت طويل حتى اقترب مني الدكتور توفيق الشيشكلي نائب حماه وطلب مني أن أخطب باسم الحزب القومي فأفهمته أني لا أملك هذا الحق قبل أن أعود إلى زعيمي وأستأذنه. وهكذا فعلت: فأذن لي.

ثم حان موعد الحفلة ومشى الموكب إلى الجامع الأموي: جحافل من البشر يتقدمهم سعدالله الجابري، عبد الرحمن الكيالي، هاشم الأتاسي، توفيق الشيشكلي، جميل مردم، لطفي الحفار، نسيب البكري، رياض الصلح، نجيب البرازي، علي الأطرش وغيرهم كثيرون.

الجامع الأموي ضاق على رحبه بهذا البحر الضخم والحشود العجيبة، بعد أداء فريضة صلاة الجمعة وقف الأستاذ فخري بارودي وألقى كلمة، ثم أعقبه الدكتور توفيق الشيشكلي، ولم يكد ينتهي من إلقاء كلمته حتى وقف فخري البارودي وأوقفني إلى جانبه ووضع يده على كتفي وصاح بصوت عال:

أيها المسلمون، هذا أول مسيحي يخطب في جامع بني أمية، فصرخ الجميع بصوت واحد: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.

لا أزال أذكر تلك الوقفة التاريخية من حياتي، وكلما فكرت بها يخفق لها قلبي، وازداد إيماناً بحبي لبلادي. موقف مهيب، الجماهير المحتشدة في جامع بني أمية تهتف كلها وتكبر، كلما ألقيت بيتاً من الشعر ونال الاستحسان».

البيانات الحزبيّة

في 21 تشرين الثاني 1935، أي بعد خمسة أيام على اكتشاف أمر الحزب قام رفقاء مجهولون بإصدار بيان وُزع على الصحف يرد على الحملات التي استهدفت الحزب وعقيدته بالإعلان «أن الحزب لم يؤلف لتقويض كيان الدولة وقلب نظاماتها بل لتحسين أخلاق الشبيبة وزرع الروح القومية المجردة في قلوبهم وتقوية روح التآخي والتضامن بين الطوائف والسعي لرفع الحواجز الاجتماعية بينها عن طريق لتعاون والتفاهم. وبتاريخ 3 كانون أول 1935. وُزع على الصحف أول بيان حزبي بتوقيع الحزب السوري القومي، ومما جاء فيه:

«كثرت الإشاعات عن الحزب السوري القومي وتضاربت الأقوال في غاياته ومراميه. فقد ذكرت بعض الصحف أنه آلة في يد «النازي» يستعملها للوصول إلى مآربه الاستعمارية، وذكرت صحف أخرى أنه مطيّة يركبها «الفاشيّون» لبسط سلطاتهم على هذه الربوع المحببة، وذهب الخيال ببعض المحررين إلى تصويره بجمعية انقلابية هدّامة ترمي إلى قلب السلطة لتحل محلها، ويتقاسم الأعضاء وظائفها، إلى غير ذلك من الأقوال الكاذبة.

«ويرجع السبب في ذلك إلى جهل مبادئ الحزب ومراميه من جهة وعدم النزاهة والتجرد من جهة ثانية. نحن عصبة شاهدنا ما صارت إليه بلادنا من الذل والمسكنة والبلبلة السياسية والتقهقر الاقتصادي فآلمنا ما شاهدناه وحزّ بأنفسنا ما لمسناه فأخذنا نعمل الفكر لتوحيد كلمتنا وتنظيم صفوفنا معتمدين في ذلك على عقلنا وعلمنا واختيارنا ثم أخذنا نطبق مبادئنا بأمان وإخلاص لا نبغي من وراء ذلك إلاّ خدمة هذه البلاد».

أحدث هذا البيان ردود فعل في الصحف، منها ما صدر في «البيرق» بقلم أسعد عقل، أو ما نشره ميشال زكور في مجلة «المعرض»، في 7 كانون الأول 1935 أو مقال مجلة «الكرمل الجديد» بتاريخ 7 كانون الأول، وهذه كانت تصدر في القدس وكان لها موقف إيجابي منذ انكشف أمر الحزب، كذلك في مجلة «المصوّر» المصرية التي نشرت مقالاً جيداً عن الحزب تحت عنوان «الحزب السوري القومي برهان على تطور الحالة الفكرية والنفسية في سورية ولبنان».

توضيح

المعلومات الواردة مستقاة من الكتب الآتية:

الجزء الأول من كتاب الأمين جبران جريج «من الجعبة» .

الجزء الأول من كتاب الأمين عبدالله قبرصي «عبدالله قبرصي يتذكر» .

كتاب الأمين يوسف الدبس «في موكب النهضة» .

الأمناء جبران جريج، عبدالله قبرصي، يوسف الدبس، جورج صليبي، كامل أبو كامل، كانوا رفقاء في فترة انكشاف أمر الحزب لذلك أشير إليهم كرفقاء.

إشارات

تولى الدفاع عن سعاده والرفقاء، المحامون: حبيب أبو شهلا، حميد فرنجية، إميل لحود، يوسف جرمانوس، عبدالله اليافي، شارل عمون، شفيق ناصيف، فكتور حكيم، فؤاد الصغير، مختار مخيش، موريس الجميل، وغيرهم.

الرفيق أسعد الأيوبي كان معاون مفوض في شرطة بيروت، وتولى مسؤولية منفذ عام بيروت، وقد صدر مرسوم بعزله من وظيفته، فكان أول عضو في الحزب يفقد وظيفته لهذا السبب، وكانت مورد رزقه الوحيد في تلك الفترة .

كان الأمين عبدالله قبرصي قد حدد موعد عرسه في بتعبورة، الكورة يوم 17/11/1935 صبيحة 17/11 وكان في منطقة المعرض عندما التقى الرفيق المحامي عادل عيتاني وكان كالح الوجه قائلاً له إن الزعيم في السجن. فوراً توجه مع الرفيق عادل إلى مركز الحزب السري في شارع فوش وكان مستأجراً باسم الشركة السورية التجارية» فاعتقل، فيما كان الرفيق عادل أكثر حذراً، إذ تابع صعوده السلم إلى فندق «الامبريال» الذي كان يقع في البناية فوق مركز الحزب فنجا بنفسه.

يقول الأمين عبدالله قبرصي، في الجزء الأول من كتابه «عبدالله قبرصي يتذكر»:

«حوالي الثالثة بعد الظهر، راح أحد الشرطيين قيل لي يومئذ أنه من الدامور يتهكم إذ وقف قبالة الزعيم وتوجه إليه وقال: هذا الزعيم ؟ وقلب شفتيه، فإذا بالرفيق الدكتور جورج صليبي الأمين في ما بعد وكان لا يزال طالباً في الصف النهائي في الجامعة الأميركية يقفز من طرف القاعة هاجماً على الشرطي مهدداً .

احترم الزعيم وإلا…

ووقفنا كلنا في حالة تأهب، تراجع الشرطي واعتذر».

يفيد الأمين الياس جرجي في مقال نشره في جريدة «البناء» بتاريخ 18/11/1974 بالآتي:

«ما كاد ينكشف أمر الحزب حتى بادر المركز إلى موافاة الفروع بأدق المعلومات الصحيحة عن سير التحقيق واتجاه الاعتقالات الجارية، فضلاً عن أخبار الصحف وتعليقاتها المتنوعة أن في الوطن السوري والعالم العربي أو أنباء الصحف الأجنبية التي واكبت الحدث عن كثب، كما عمم على الفروع تعليمات أساسية يطلب فيها:

إخفاء جميع الأوراق الحزبية في مكان لا تتعرض فيه لأيّ تلف أو الوقوع في قبضة الخصوم والسلطات، فالحرص على الوثائق وتأمين حفظها بعناية والرجوع إليها واجب قومي مهمّ لا يصحّ التهاون به تحت كل الظروف والأحوال، لأنها سجل الأعمال والمواقف.

الاستمرار المعتاد بالنشاط السري وممارسة كامل الواجبات، مع توسيع نطاق الاتصالات الشعبية في جميع الأوساط، ومتابعة السهر على روحية الأعضاء وسلوكيتهم، خاصة أبان الأزمات والمعارك.

رصد جميع ردود الفعل من قبل الرأي العام تجاه الحزب مهما تنوعت وتضاربت وسواء كانت مؤيدة أو معادية ثم رفع التقارير عنها بالتسلسل الحزبي إلى المركز ليتاح له معرفة الحقيقة في حينها ويقوم، بالتالي، بتوجيه العمل الإذاعي والتثقيفي توجيهاً عملياً، يسدد به شتى المتطلبات النفسية الفكرية للجميع، كما يزود القوميين الاجتماعيين البراهين الراهنة عن صحة العقيدة ونظامها الخلاق، والدراسات اللازمة لإعدادهم إلى واجب التلبية الأفضل والأتم.

ورد في الصفحة 109 من الجزء الأول من «عبدالله قبرصي يتذكر» المقطع الآتي:

«يوم الخميس في 21 تشرين الثاني كان يوماً مشهوداً، طلب إلينا سعاده أن نعقد اجتماعاً حافلاً، لنعيد

الذكرى السنوية الأولى لإبرام الدستور، صحيح أن الدستور صنّف في كانون الثاني 1937، أما إبرامه

ووضعه موضع التنفيذ فقد تم فعلاً في 21 تشرين الثاني 1934.

عقدنا جلسة، أقمنا شبه حلقة حول المعلم، وحوالي الساعة الخامسة وقفنا وأدينا التحية وراح سعاده يحدثنا عن

قيمة الدستور، عقيدة ونظاماً، وعن وجوب الاحتفال بعيد إبرام الدستور لأنه الشرعة التي كرست تأسيس

الحزب الفعلي، ولكننا في السياق، عوضاً عن عيد الدستور، شرعنا تقليداً حزبياً آخر بإقامة الاحتفال في عيد

التأسيس بحد ذاته كيوم تاريخي وإبرام الدستور الذي هو حدث حزبي بالغ الأهمية أيضاً».

الرفيق فكتور أسعد الذي كان اعتقل مع سعاده ومعاونيه يقول:

«كنا ثمانية في اليوم الأول وبعد تحقيق استمر إلى المساء نقلنا إلى سجن الرمل وكانت معنوياتنا ممتازة وجو المرح سائداً فينا ووضعونا أولاً في الغرفة السادسة في البناية الثانية بعدما جزّوا شعرنا وكانت ليلة أمطار وأعاصير هائلة فقلنا إن الزوبعة غاضبة».

«ولم يصل إلينا إلا فراشان لأن باب السجن أغلق في المساء دون وصول أمتعتنا، فنام الزعيم ونعمة ثابت وزكي النقاش وعبدالله قبرصي على فراش واحد، ونمت أي فكتور أسعد مع مأمون أياس وفؤاد خوري على الفراش الآخر، واستيقظنا في الليل وإذا ماء المطر قد دخل من نافذة مكسورة في «القاووش» فبلل الفراشين واضطررنا إلى تمضية ما تبقى من الليل جالسين .

« كان عبدالله قبرصي يشرح للسجناء أن موعد عرسه كان في اليوم الثاني وها هي قفازات العرس البيضاء التي اشتراها في اليوم السابق لا تزال في جيب ردائه».

بصدد كتاب «نشوء الأمم» يقول الرفيق فكتور أسعد في العدد الخاص الصادر في أول آذار 1957: «بعد المحاكمة انصرف الزعيم إلى إكمال كتاب «نشوء الأمم» الذي بدأ بإعداده قبل عدة سنوات، وكانت الدروس المفيدة للنظريات الجديدة الواردة فيه مدونة بشكل منظم في بطاقات صغيرة مع الإشارة إلى مراجعها، ولعل تلك البطاقات كانت أغرب مجموعة من نوعها في العالم لأنها كانت مأخوذة من المراجع العلمية بلغاتها الأصلية فالزعيم كان يتقن عدا العربية، الألمانية والروسية والإنكليزية والبورتغالية اتقاناً تاماً، ويحسن إلى جانبها الفرنسية والإيطالية والإسبانية. شاهدته مرة يقرأ بشغف كتاباً المانياً فسألته عن موضوعه فإذا به الانتروبولوجيا، علم جاف في لغة أجف، يتعلق بقياسات الرؤوس ومدلولها السلالي».

يشير الأمين جبران جريج إلى أن الواشي هو عزيز الهاشم، وكان يترأس حزب الاستقلال الجمهوري، قبل انتمائه إلى الحزب.

الأمين عبدالله قبرصي له رأي آخر ننقله كما ورد في الجزء الأول من «عبدالله قبرصي يتذكر»:

«وفي ما كتب المعلم، اتهام شبه صريح للأستاذ شارل سعد أنه هو الواشي، إلا أننا للأمانة التاريخية، نقول أن الحكم على الواشي الخائن، لا يمكن أن يصدر، بقناعة كلية، رغم مرور 37 عاماً عليه، فمقابل اتهام الأستاذ شارل سعد، الذي لم تقم عليه أدلة إلا استنتاج سعاده، هنالك اتهام آخر للأستاذ عزيز هاشم، الذي كان رئيساً لحزب الاستقلال الجمهوري، ودخل الحزب كعضو عامل، وما إن مضى على دخوله أيام حتى كان الانكشاف، خاصة والرئيس شمعون اتهمه صراحة في حديث لي معه سنة 1936 في طريقنا إلى المفوضية العليا لمراجعة إدارية، قال الرئيس شمعون أن عزيز الهاشم في المكتب الثاني الفرنسي ولهذا السبب إنه هو الذي فضح وجود الحزب.

«وهنالك رواية ثالثة، وهي أن أحد أعضاء الحزب كتب رسالة إلى شقيق له في دكار السنغال، ذكر له فيها أنه دخل حزباً سرياً، وعدد له مبادئه، وذكر أسماء زعيمه والعمد وبعض المسؤولين ووقعت هذه الرسالة في يد سلطات الانتداب، فشرعت بالملاحقة انطلاقاً منها.

« إن الجزم في المسؤول عن كشف الحزب بوشاية إلى الأمن العام الفرنسي غير ممكن إذن، حتى الآن، لأن الأدلة القاطعة غير متوافرة، هذا هو رأيي على كل حال».

من ناحيته يشير الرفيق جان دايه: « إلى أن رئيس الجامعة الأميركية، بايرد ضودج هو الذي أعلم الأمن العام بحقيقة وجود الحزب الجديد، وذلك في تشرين الأول عام 1934، وكان عميد كلية العلوم والفنون المستر نيقولي هو الذي أخبر رئيسه حول نشاط سعاده الحزبي» من كتابه «سعاده وهشام شرابي»، ص 21 .

في مرويات الأمين جبران جريج أن الزعيم كان يخطط لكشف الحزب إذ كان يدرك أهمية الكشف القسري، ومردوده الإذاعي. وهذا ما ورد في الصفحة 396 من الجزء الأول في كتابه «من الجعبة»:

« ..أما لدى الزعيم فقد استقر رأيه على خطة لكشف وجود الحزب ووضع المفوضية أمام الأمر المفعول لأنه كان مؤمناً بمتانة بنية الحزب وقوة أعضائه. وعلى كل حال، لا بد من الوصول إلى يوم ينكشف أمر الحزب أما بقرار من المفوضية، أو ربما، لمجرد صدفة من الصدف، إذن فليكن هذا اليوم الموعود، الذي سيكون يوماً تاريخياً مشهوداً، ليكن هذا اليوم مقرراً منه ويكون هو بالتالي قابضاًَ على الزمام بيد حازمة، عارفة، وأخيراً يكون هو بنفسه قد فتح المعركة فيفوت على الأمن العام فرصة المباغتة أو المبادرة الأولى.

كانت الخطة أن يعقد اجتماع في أحد البيوت قرب أحد مخافر الأمن في المدينة ولهذا السبب اختار بيتاً من بيوت طريق الشام حيث يوجد مخفر قريب جداً منه، يرسل أحد القوميين إلى المخفر، يخبر المفوض بوجود اجتماع معقود حالياً هو لحزب سري في البيت كذا وكذا… فيرسل المفوض من مخفره أو ترسل دائرة الأمن العام بعد مخابرتها من يقبض على المجتمعين في الجرم المشهود وهكذا يعلن بدء المعركة العلنية بين النهضة القومية الاجتماعية وسلطات الانتداب وحلفائها.

مرسوم حلّ الحزب

من الجزء الثاني من كتاب الأمين جبران جريج «من الجعبة»، الصفحة 174.

مرسوم رقم 218-E بحل جمعية

إن رئيس الجمهورية بناء على القرار رقم 1 المؤرخ في 2 كانون الثاني 1934 والقرار رقم 1 المؤرخ في 3 كانون الثاني 1936 الصادر من المفوض السامي

وبناء على المواد 2 ، 6 ، 12 من قانون الجمعيات المؤرخ في 27 رجب 1927.

وبناء على المادة 3 من القانون المشار إليه المعدلة بقانون 26 أيار 1928 .

ولما كانت الجمعية المسماة، الحزب القومي السوري، مؤلفة بطريقة سرية وعاملة بطريقة غير قانونية في أراضي الجمهورية اللبنانية .

ولما كان غرض الجمعية المذكورة غير مباح ومخالفاً للقوانين وكان من شأنها أن تمس بغايتها النظام والأمن العامين .

وبناء على اقتراح أمين سر الدولة :

يرسم ما يأتي:

المادة الأولى: حُلّت الجمعية المسماة «الحزب القومي السوري» .

المادة الثانية: ينشر هذا المرسوم ويبلغ حيث تدعو الحاجة إلى ذلك .

بيروت في 17 آذار 1936 الإمضاء : اميل اده

أمين سر الدولة / الإمضاء : الدكتور أيوب ثابت

لا شك في أن خطأً مطبعياً وقع في المرسوم المذكور. فالقرار الثاني لا يصح أن يحمل الرقم 1، إنما الرقم 2.

رئيس لجنة تاريخ الحزب

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى