المطران غريغوار حدّاد… مناهضٌ للطائفية لأنها عامل تمزيق وتفتيت
زهرة حمود
المطران الجليل الراحل غريغوار حداد، قيمة إنسانية كبيرة. هو رجل الدين المميّز والمتمايز، هو المثقف والمفكر والمتنوّر، أدرك بالعقل والمعرفة أهمية الإنسان، فاجترح «معجزة» أداء دور رجل الدين، المؤمن بوحدة المجتمع وإنسانه، والمناهض للطائفية بوصفها عامل تمزيق وتفتيت لوحدة المجتمع.
لم يسبق لرجل دين من وزن المطران الراحل غريغوار حداد، أن تجرأ على كسر «التابو» الذي يحصر دور رجال الدين بسقوف رعوية. أما المطران الجليل غريغوار حداد، فقد تجرّأ، وكرّس حقيقة أنّ الدين لا يقيّد الإنسان بعطائه ولا يعطل مداركه وحريته، بل أنّ الدين رسالة تذخير للقيم الإنسانية وكرامة الإنسان وعزته.
هو حامل لواء الإنسانية الصافية، وأحد رُوّادها، هو مطران البحث عن المعرفة، الذي وجد في الكتابة عملاً إبداعياً موصلاً إلى المعرفة، فكان له نتاج ثريّ، تناول فيه السيد المسيح والمؤسسة الكنسية، الوطن والإنسان، واللغة والشعر والمرأة، وقضى حياته يقرأ ويقرأ باحثاً عن الحقيقة، مؤكداً ذلك بالقول: «أبحث دائماً عنها».
أدرك باكراً أنّ حصن البشرية يقوم بالاجتماع الإنساني، وليس بالتجمُّعات الطائفية والمذهبية، وتواضع حتى بلغ أرقى مراتب الكبر، عمل من أجل وطنه والإنسان، لم يجحد بموقعه الكهنوتي، لكنه رأى أنّ «بقاء الكنيسة مشروط بجدواها روحياً وإنسانياً»، وتمسّك بالتعاليم المسيحية التي قالت «بحبّ القريب، لأنّ خدمة الإنسان الضعيف تأتي قبل خدمة المسيح»، وهو خدم الضعفاء والفقراء، حتى لقّب بمطرانهم.
كان يشدّد على عدم الخلط بين المسيح والمسيحية، معتبراً أنّ الهدف هو «الإنسان وليس المسيح، المسيح أسير الكنيسة وعلينا تحريره، تحرير المسيح أساسه تحرير الإنسان»، لذا رفض اللقب الأسقفي «سيدنا» وكان يردّد دائماً: «كلنا متساوون أمام الله».
وهو الكهنوتي المدافع عن حقوق الفرد المدنية والسياسية، المؤمن بأهمية العمل الاجتماعي، ووجوب وجود الدولة المدنية، عبر نشر هذا الفكر بين جيل الشباب الذي كان يؤمن به أداة للتغيير، وقد طرح العلمنة كحلّ جذري لمأزق النظام الطائفي، لذلك أسّس «الحركة الاجتماعية» عام 1957، ومن ثمّ أسّس «تيار المجتمع المدني» ودعا من خلاله إلى تحقيق العلمنة الشاملة، فهي برأيه تشكل حياداً إيجابياً تجاه جميع الأديان، وظلّ يردّد حتى الرمق الأخير «أنّ العمل من أجل الإنسان هو جوهر الحياة».
عرَّف نفسه بالقول: «مؤمن بالله ولذلك أنا علماني، ومؤمن بالعلمانية دعماً لإيماني بالله». إيمانه هذا جعله يساعد الفلسطينيين، ويعتبر المسألة الفلسطينية من أفضع جرائم القرن العشرين، وكم تألم يوم عرض بعض الفلسطينيين أمامه مفاتيح بيوتٍ اقتُلعوا منها، ورأى أنّ ذلك دليل ارتباطهم بالأرض.
نخلة: مملكته ليست من هذا العالم
«مترفّع عن المادّة، خلوق، بريء، متمرّد على المؤسّسة، لا يحبّ السلطة ولا التسلّط، تخلّص من كلّ نقاط الضعف البشري في هذه الأرض، مملكته لم تكن من هذا العالم كما قال السيد المسيح، فهو مسالم يرفض العنف، علمانيّ بعمق وبحقّ، زاهد، صادق»، هكذا عرَّفه عميد الثقافة والفنون الجميلة في الحزب السوري القومي الاجتماعي الدكتور ميشال نخلة.
«رجل دين بكلّ ما للكلمة من معنى، رأى في الإنسان كلّ مباهج الدنيا، حمل رسالة السيد المسيح، رسالة المحبة والتسامح مع الناس، ولقب بـ»الأبونا غريغوار»، يقول عضو الكتلة القومية الاجتماعية النائب الدكتور مروان فارس.
ويضيف فارس: «هو المتقدّم في الرأي والرؤية، والداعي إلى فصل الدين عن الدولة، يحمل رسالة التسامح والتواضع والعلمانية، يطمح إلى لبنان الوطن والمواطنة، لا لبنان الممزّق طائفياً، يرفض حضور جلسات المجلس الأعلى الكاثوليكي وهو العضو فيه، لأنه كان يريده مجلساً علمانياً لا مؤسسة كنسية».
ويختم فارس، لافتاً إلى أنّ المطران غريغوار يرى أنّ «أنطون سعاده جسّد في العقيدة والمبادئ التي وضعها لحزبه وفي فكره الحقيقة الكاملة لأمته وإنسانها، وهو الرجل العلماني الأول في الوطن السوري».
وعن المطران الراحل غريغوار حداد، قال مدير الدائرة الإعلامية في الحزب السوري القومي الاجتماعي العميد معن حمية: «إنه إنسان صادق مع نفسه ومع طرحه، وقد انحاز منذ بداية حياته وعطائه الى الإنسان ـ المجتمع وإلى الوحدة الاجتماعية، ومن موقع رجل الدين الذي يُبشِّر برسالة المحبة والإخاء، أحدث فرقاً، وتمايزَ في طرحه وموقفه. فهو رأى في الطائفية عامل تمزيق لنسيج الوحدة الوطنية، ونحن الذين نعتبرها داءً يسمِّم المجتمع ويشظي وحدته».
ويضيف حمية: «في حمأة الأزمات التي شهدها لبنان، وهي أزمات يولّدها النظام الطائفي الذي لا يزال قائماً حتى يومنا هذا، جاهرَ المطران غريغوار حداد بموقفه الحادّ ضدّ البنية الطائفية، ونأى بنفسه عن اصطفافات طائفية متنابذة ومتناحرة، وهو كان يعتبر في نفسه أنّ هذا النأي لا يتناقض ولا يتعارض مع جوهر الدين الذي هو رسالة تدعو إلى المحبة والإخاء».
ويشير حمية إلى «أنّ هناك مفاهيم دينية ومفاهيم أخلاقيّة مغلوطة نتجت عن سوء فهم وتدبّر للدين وللأخلاق معاً، وهذا ما انعكس سلباً على حياة الناس، فأبعدها عن ممارسة السياسة بالمعنى الخلاق والمنتج والمتطوّر. ونحن نعتبر أنّ المطران حداد، لامس هذه الحقيقة، فأبدع في ترجمة المفاهيم الدينية والأخلاقية سلوكاً وطنياً علمانياً بوصلته كرامة الإنسان وتحصين وحدة المجتمع».
يتابع حمية: «الراحل غريغوار حداد، كاهن العلمانية بامتياز، فهو حرص في كتاباته ومحاضراته العديدة على تأكيد أنّ العلمانية المرتجاة، هي تلك التي تنبع من مقتضى أوضاعنا الاجتماعية والسياسية والثقافية، وتتبنّى المواطنة الواحدة المؤسّسة على المساواة والعدل والحرية. وهذا موقف ينسجم مع طبيعة طرحنا، لإنقاذ مجتمعنا وإنساننا من براثن الطائفية».
ويختم حمية قائلاً: «أمتنا تواجه تحديات كثيرة، أخطر هذه التحديات غريزة الإرهاب المتمثلة بالاحتلال الصهيوني العنصري، وغريزة التطرف الديني التي تتجسَّد بالمجموعات الإرهابية التي تقتل شعبنا، ولذلك، نترحّم على المطران غريغوار حداد الذي كرّس حياته منحازاً إلى فكرة الإنسان المتحرّر من لوثة الطائفية والتطرف والعنصرية… مع التشديد على إبقاء المواجهة مفتوحة ضدّ الاحتلال والإرهاب، إلى أن ننتصر بتحصين الإنسان والمجتمع ورسالة الحق والخير والجمال».
«في حياته كان مدوّياً، وصامتاً ما في رحيله»، يقول عضو المجلس الأعلى في الحزب السوري القومي الاجتماعي الدكتور خليل خير الله، ويتابع: «يدعونا المطران غريغوار حداد إلى التأمّل في تجربته الجريئة، الخارجة عن مألوف الممارسات الدينية السائدة ومؤسّساتها المتحالفة بمعظمها مع الصيارفة ونفوذ القيصر».
بوضوح وصدق وتصميم ارتكز المطران الراحل إلى ينابيع الإنسانية وجذورها، مؤكداً احترام كرامة الإنسان وحريته وحقه في أن يكون على صورة مسيحه، مسيح الفقراء ومحرّرهم من رقّ وعبودية الحزبية الدينية والطبقية.
ويختم خيرالله قائلاً: «فضّل الجليل غريغوار كهنوت الشعب على كهنوت السلطة، فأنكره الكثيرون من لابسي ثوبه، حاربوه وتعاملوا معه بوصفه خارجاً على الصفّ، لكنه بقي صامداً في فكره وموقفه، مشدوداً إلى نجمة رأى فيها خلاصاً له ولمن شاءه من المحبّين».
منارةٌ يُستدلّ بها
رحل الأبونا غريغوار حداد، لكنّ طروحاته النيّرة ومواقفه الصلبة تظلّ منارة يُستدلّ بها على أهمية الخروج من كهوف التقوقع الانعزالي والطائفي والمذهبي.
أسهم المطران غريغوار حداد في أن قدّم أفكاراً وطروحات لحلّ معضلات مجتمعه، والتصق بالناس وهمومهم وقضاياهم، لكنه اصطدم بواقع تجسّده عقلية وأنظمة طائفية ومذهبية، واقع استلب من الناس حقّ المواطنة، وأحالهم إلى رعايا طوائف ومذاهب، واقع استعصى على سماع صرخات الجياع والمعذبين، وسخّر الدين والطائفية لتأبيده وتكريسه ضدّ الإنسان والإنسانية.
رحل المطران غريغوار حداد، الكاهن العلماني، وبقي الواقع الطائفي والمذهبي واقعاً مأزوماً مستعصياً على التغيير ومتنكراً لقيم الوحدة والتآخي، لكنّ تراكم النضال المدني الديمقراطي سيقوِّض هذا الواقع حتى يستعيد الإنسان كرامته وحقه وحريته.