حرب المعلومات عبر الأطلسي: كيف تهدّد وكالة الأمن القومي الأميركي مستقبل الإنترنت في العالم؟
ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق
كتب هنري فاريل وأبراهام نيومن في مجلة «فورين آفيرز»:
في تشرين الأول الماضي، أطاحت محكمة العدل الأوروبية باتفاقية الملاذ الآمن وهي ترتيب أطلسي يبلغ من العمر 15 سنة، والذي يسمح للشركات الأميركية بنقل بيانات المستخدمين، مثل تاريخ البحث في «غوغل» خارج الاتحاد الأوروبي. في حيثياتها لإبطال الاتفاق، وجدت محكمة العدل الأوروبية أن العلاقة الضبابية بين طرق جمع البيانات والأمن القومي الأميركي تنتهك حقوق الخصوصية للمواطنين الأوروبيين الذين تنقل بياناتهم خارج البلاد. يترك هذا القرار العمليات الدولية واسعة النطاق لشركات التكنولوجيا الأميركية على أرضية هشة قانونياً.
على رغم أنّ بعض المراقبين المطّلعين الأميركيين قد يتوقعون هذا القرار، فإن بعضهم قد بدا حائراً تماماً. وقال ميرون بريليانت، نائب الرئيس التنفيذي لغرفة التجارة الأميركية: «من المقلق أن يتم إبطال هذه الاتفاقية طويلة الأمد من دون أي نقاش حول فترة انتقالية أو توجيهات حول الطريقة التي يمكن من خلالها للشركات أن تلتزم القانون». منتقدو هذا القرار بمن فيهم وزير التجارة الأميركي بيني بريتزكر، يزعمون أنه سوف يعرض الاقتصاد الرقمي عبر الأطلسي للخطر ويكلف الشركات الأميركية مليارات الدولارات. من دون اتفاق جديد، ثمة خطر كبير من أن البيانات الشخصية سوف يتم فرض الحجر عليها داخل أوروبا، وسوف يخلق ما يطلق عليه إريك شميت، الرئيس التنفيذي لـ«ألفابيت» «غوغل سابقاً»، إنترنت داخلي لكل بلد. وإذا حدث ذلك، وفقا لشميت، فإنه سوف يتم تدمير أحد أعظم منجزات الإنسانية.
ويقول المنتقدون أيضاً إن الاتحاد الأوروبي يتصرف من جانب واحد لحماية شركاته من المنافسة الأجنبية، حتى لو ألحق الضرر بالطبيعة المفتوحة والديمقراطية للإنترنت.
ولكن السبب الرئيس لهياج الشركات الأميركية والمسؤولين الأميركيين أنهم هم الذين اعتادوا دائماً على وضع القواعد. على مدى السنوات السبعين الماضية، فقد شكلت الولايات المتحدة النظام العالمي للمعلومات والاستثمار والتجارة العابرة للحدود. وقد خلق هذا الانفتاح عالماً مترابطاً يمكن من خلاله للقواعد التي يضعها بلد واحد أن تشكل القواعد والأولويات بالنسبة إلى الآخرين. وغالباً ما تمنح القوة المبالغ فيها هذا الدور إلى الولايات المتحدة الأميركية.
في أعقاب هجمات 11 أيلول، بدأت الولايات المتحدة في استغلال هذا الترابط، مستغلة قوتها الاقتصادية كأداة للأمن القومي. وعلى رغم الدعوة إلى التدفق الحرّ لرؤوس الأموال، فقد استخدمت منهجية العقوبات لإلزام البنوك الأجنبية والمؤسسات المالية على عزل الشركات والأفراد والدول غير المرغوبة من النظام المالي العالمي. وعلى رغم أنها كانت تشجع على العلن الإنترنت المفتوح والآمن، فإنها قد دعمت تقويض هذه العلنية عبر تشجيع تشفير الاتصالات عبر الإنترنت وفرض نظم مراقبة دولية واسعة بالتعاون من حلفائها المقربين، بما في ذلك المملكة المتحدة. باختصار، لقد تمكنت الولايات المتحدة من تحويل اعتماد العالم على اقتصادها إلى رافعة للتأثير والتجسّس على الأجانب.
ولكن هذه الاستراتيجية قد تعدت حدودها، وقرار إلغاء اتفاقية الملاذ الآمن يوضح بقوة أن واشنطن بحاجة إلى الاستيقاظ والنظر في تكاليف هذه الاستراتيجية. عندما تستخدم الولايات المتحدة الثقل الاقتصادي العالمي لتعزيز أمنها القومي، فإنها تجعل من المستحيل على الدول الأخرى استبعاد سوء النية في أنشطتها الخارجية. من الصعب على دول الاتحاد الأوروبي الردّ بقوة، سواء بسبب القوة الهائلة للأجهزة الأمنية الأميركية أو لأن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تطفو بالفعل على بحر من القدرات الاستخبارية والعسكرية والتكنولوجية الأميركية. ومع ذلك، فإن الاتحاد الأوروبي وجد طريقة لإجبار الولايات المتحدة على دفع ثمن هيبتها. على رغم أن محكمة العدل الأوروبية لا اختصاص لها في أنشطة وكالة الأمن القومي الأميركية، فإنها تملك ولاية قضائية على العمليات الأوروبية مع الشركات الأميركية. توضح المحكمة في حيثيات حكمها أن واشنطن تحاول الاستفادة من الترابط بين النظام العالمي لتحقيق الأهداف الأمنية الخاصة بها، وأن على الدول الأخرى ومحاكمها أن تقاوم تمحور الاقتصاد العالمي حول الولايات المتحدة.
واحدة من الأدوات الفاعلة لمنظومة الهيمنة هي القدرة على الوصول إلى العالم. وقد أزالت العولمة التي تقودها الولايات المتحدة العوائق أمام التدفق الحر للمال والبضائع والمعلومات. إزالة هذه الحواجز كانت لها تكاليفه السياسية، ولكن هذه التكاليف قد تم تحمل معظم أعبائها من قبل الدول الأخرى، والتي اضطرت لضبط قواعدها المحلية بحيث يمكن أن تستفيد من الانفتاح الاقتصادي العالمي.
تحويل التكامل العالمي إلى سلاح للهيمنة الأميركية
يفيد الاقتصاد العالمي الأكثر تكاملاً الشركات الأميركية، نظراً إلى أنه يسمح لها بإيجاد أسواق جديدة وبناء سلاسل التوريد الدولية المعقدة التي تؤدي إلى انخفاض تكاليفها. استغلت الشركات، مثل «فايسبوك» و«غوغل» هذا الانفتاح من أجل تكرار نماذج الأعمال الخاصة بها في جميع أنحاء العالم الصناعي المتقدم، وغالباً ما تتحدّى عمداً القواعد المحلية والوطنية في بلدان أخرى. وفي الوقت نفسه، فإن هذا الانفجار في التبادل العابر للحدود قد زاد من أهمية الدولار الأميركي والسوق الأميركية. حيث تسعى الشركات الأجنبية من أجل التمتع بأحقية الوصول إلى البنوك الأميركية والمستهلكين الأميركيين من أجل جمع الأموال وبيع السلع.
خلال السنوات الـ15 الماضية، مارست واشنطن هذه السياسة على نحو متزايد بوصفها سلاح، متحكمة بذلك في تشكيل قرارات الحكومات الأجنبية والشركات التي تعتمد على الوصول إلى عملة الولايات المتحدة، إضافة إلى قطاع المعلومات. بدلاً من أن تنشر الولايات المتحدة قواعدها وتفضيلاتها من خلال آليات السوق المعتادة، فإنها تسخّر القوة القسرية لأسواقها وشبكات المعلومات التي تتحكم فيها لتحقيق أهداف الأمن والسياسة الخارجية ومحاربة الإرهاب الدولي، ومعاقبة الدول المارقة.
وطالما استخدمت الدول الكبرى سياسات الحصار وفرض القيود على التصدير وتطبيق العقوبات للتلاعب بخصومها في سوق البضائع المادية. ولكن الولايات المتحدة لديها الآن القدرة على التلاعب والسيطرة على التدفقات المالية وتدفقات المعلومات أيضاً. المؤسسات المالية الأجنبية التي تعتمد بشكل حاسم على المعاملات الدولارية تكون أكثر عرضة لسيطرة المنظمين في الولايات المتحدة، وقد تفرض عليها عواقب وخيمة في حال لم تتوافق مع القواعد الأميركية. واحدة من هذه الاستراتيجيات يطلق عليها اسم «حرب الخزانة» وقد هندسها شخص يدعى خوان زاراتي، والذي خدم في عهد إدارة جورج دبليو بوش في منصب مساعد وزير الخزانة الأميركية لتمويل الإرهاب والجرائم المالية. وتعمد هذه الاستراتيجية إلى قيام الولايات المتحدة بممارسة الضغوط على المؤسسات المالية الأجنبية لخدمة مصالح وكلاء واشنطن. وبموجب المادة «311» من قانون «باتريوت الأميركي»، فإن وزارة الخزانة الأميركية لديها القدرة على تصنيف أي مؤسسة مالية أجنبية باعتبارها «مؤسسة مشتبه في تورطها بغسيل الأموال». هذا التصنيف يمكن أن يؤثر على قدرة البنك أو المؤسسة على العمل في الولايات المتحدة ويسمح واشنطن ممارسة الضغط على المؤسسات المالية العاملة في الأسواق الأميركية.
تقويض الأصدقاء
بعض أهداف الولايات المتحدة، من بينها إيران وكوريا الشمالية، لديها عدد قليل من المتعاطفين. ولكن الولايات المتحدة تقوّض أيضاً أصدقاءها. في خدمة مكافحة الإرهاب، على سبيل المثال، تم إجبار أحد الكيانات المالية التي تقع في بلجيكا على الإفصاح عن كنز من المعلومات حول التحويلات المالية الإلكترونية في جميع أنحاء العالم، وكسر قوانين الخصوصية المتبعة في الاتحاد الأوروبي. وقد تم استغلال الترابط العالمي أيضاً من أجل لدفع الحكومات الأجنبية لتغيير الممارسات المحلية حول قضايا لا يبدو أن لها علاقة بالأمن مثل السرية المصرفية، والرشى وغسيل الأموال. البنوك السويسرية، التي طوّرت نماذج أعمالها لمساعدة الأثرياء على تجنب دفع الضرائب في العالم، تجد نفسها الآن في بؤرة الاهتمام من قبل سياسات الأمن القومي الأميركية. كما استيقظ المسؤولون الأميركيون إلى أهمية التدفقات المالية التي تمول شبكات إرهابية، لذا فإنهم قد بدأوا في استهداف الممارسات المصرفية غير المشروعة.
في مواجهة الشركات الأميركية
أحياناً، يفترض صنّاع القرار في واشنطن خطأً أن المصالح الذاتية الضيقة للولايات المتحدة وشركاتها يجب أن تسير دوماً بمحاذاة النظام العالمي الذي ساعدت في خلقه. عندما سعت هيئات أجنبية إلى تطبيق القواعد الوطنية لشركات التكنولوجيا الأميركية، فقد اتهمتها الولايات المتحدة بأنها تحمل دوافع خفية. الرئيس الأميركي باراك أوباما، على سبيل المثال، فسّر الجهود المبذولة من قبل الحكومات الأجنبية لحماية مواطنيها ضد الشركات الأميركية بأنها سياسات حماية كاذبة. وقال متحدّثاً في مقابلة في شباط 2015 حول التحقيقات الأوروبية المتعلقة بـ«فايسبوك» و«غوغل»: «شركاتنا قامت بتأسيس الإنترنت وبسطه وتطويره بطريقة لا يستطيع الأوروبيون المنافسة معها. وفي أحيان كثيرة فإن ما يتم تصديره على أنه مواقف سامية حماية المستخدمين مصمّم فقط لتحقيق بعض المصالح التجارية».
هذه الادّعاءات خاطئة وغير مستدامة من الناحية السياسية. في وقت قريب، فإن الولايات القضائية في الدول الكبرى سوف تتوقف عن التسامح مع الإكراه الذي تمارسه الولايات المتحدة. عندما تستهدف الولايات المتحدة الدول أو الأفراد التي ينظر إليها على أنها كسرت القواعد، مثل إيران أو روسيا، فإنه يمكن في العادة إقناع الدول الأخرى بالانضمام إليها لإعطاء أفعالها غطاء من الشرعية. ولكن عندما تكسر الولايات المتحدة نفسها القواعد وتسعى إلى تقويض المبادئ التوجيهية الدستورية الأساسية للبلدان الأخرى، فإنه يجب أن نتوقع ردّ فعل عنيفاً. كلما سعت الولايات المتحدة إلى إساءة استغلال النظام الذي خلقته فإن الدول والشركات الأجنبية سوف تبدأ في تحدّيها.
وقد تم الشروع بالفعل في تطبيق سياسة الاعتماد المتبادل في مواجهة الولايات المتحدة بدلاً من تطبيقها معها. مع دخول الشركات الأميركية إلى الأسواق الدولية فقد أصبحت أكثر عرضة لقواعد الدول الأخرى وأكثر قلقاً حول السياسات والإجراءات التي تثير غضب حكوماتها. وهذه هي مشكلة حقيقية خاصة لشركات التكنولوجيا والتي لا تشبع من جمع المعلومات الشخصية المفصلة التي تغذّي بشكل كبير دولة المراقبة الأميركية. وإذ إن البلدان الأجنبية لا تميل إلى توجيه الاتهامات المباشرة نحو وكالة الأمن القومي، فإنها تميل إلى اللجوء إلى الأهداف التي يمكنها أن تؤثر على سلوك الولايات المتحدة عبر إجبار الشركات الأميركية على تغيير نظامها.
وبفضل ما كشفه ناشط الخصوصية الأميركي والمقاول السابق في وكالة الأمن القومي الأميركي إدوارد سنودن، فإن الاستياء تجاه الدولة الأمنية الأميركية قد نما إلى معارضة نشطة. وأظهرت ملفات سنودن أن الولايات المتحدة، جنباً إلى جنب مع حلفائها الرئيسيين، قد استغلوا نقاط الضعف التقنية للتجسس على العالم، وجمع كميات هائلة من البيانات من الاتصالات الشخصية لمئات الملايين من البشر وتمشيطها من أجل الحصول على المعلومات الأمنية ذات الصلة. وهذا يعني أن واشنطن التي أمضت سنوات في الدعوة إلى الإنترنت المفتوح وأدانت المراقبة الرقمية التي فرضتها بلدان مثل الصين وروسيا قد استغلت هذا الإنترنت المفتوح لأغراض خبيثة. وكانت الولايات المتحدة تبشّر علناً بالتدفق الحرّ للمعلومات، في حين أن هذا التدفق كان يتم توجيهه سرّاً إلى خوادم وكالة الأمن القومي. وقد أيدت بشدة التوسع العالمي لشركات التكنولوجيا، وعلى سبيل المثال، فإنها قد دافعت عن استخدام «تويتر» من قبل نشطاء «الربيع العربي»، في وقت طالبت تلك الشركات، بمنتهى الهدوء، بتسليم هذه الكنوز الدفينة من البيانات.
بطبيعة الحال، فإن الولايات المتحدة ليست وحدها في هذا الموقف المثير للسخرية. بعض السياسيين الذين أعربوا علناً عن غضبهم مما كشف عنه سنودن، بما في ذلك وزير الداخلية الألماني توماس دي مايتسيره، قد حاولوا فرض أنظمة رقابة مماثلة على المدنيين في بلدانهم. ولقد حاولت وكالات الاستخبارات الأجنبية التي تعتمد على وكالة الاستخبارات المركزية التقليل من الفضيحة خوفاً من عزلهم عن برامج تبادل المعلومات الاستخباراتية مع الولايات المتحدة. وعلى رغم ذلك، فإنه بسبب تعارض إجراءات الولايات المتحدة مع الحقوق الأساسية للمواطنين في الخارج، فإنها قد أثارت حفيظة مجموعة مختلفة من الممثلين الذين يصعب تخويفهم مقارنة بالسياسيين، وهم القضاة الذين كثيراً ما نرى دورهم في حماية الضمانات الدستورية الأساسية بدلاً من شرعنة التنازلات الدولية. قامت محكمة العدل الأوروبية بالفعل بإلغاء تشريع يسمح لشركات الاتصالات الأوروبية بالاحتفاظ ببيانات العملاء لمدة تصل إلى سنتين، ويرجع ذلك بشكل رئيس إلى أن هذه المعلومات قد يتم تمريرها إلى خارج الاتحاد الأوروبي.
الآن، فإن المحكمة قد ذهبت خطوة أبعد، متحدية القاعدة الأساسية لنقل المعلومات الشخصية من الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة.
وينبع الخلاف حول اتفاقية الملاذ الآمن من حقيقة أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لديهما فهم مختلف جذرياً للكيفية التي ينبغي أن يعمل بها مبدأ عمل الخصوصية في العصر الرقمي. بداية من التسعينات، وضعت الدول الأوروبية قواعد شاملة تنظم جمع ومعالجة المعلومات الشخصية، والتي تشرف عليها وكالات تنظيمية مستقلة تسمى «سلطات حماية البيانات». هذا النهج من الخصوصية رُقّي إلى حق دستوري أساسي عندما اعتمد الاتحاد الأوروبي ميثاق الحقوق الأساسية الخاصة به عام 2009. الولايات المتحدة، في المقابل، تفتقر إلى نهج شامل في الخصوصية، وتعتمد بدلاً من ذلك على خليط من القواعد غير المنظمة. المشكلة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، أن الأنظمة الأوروبية طالما كانت تحظر نقل البيانات إلى البلدان التي يعتبر الاتحاد الأوروبي ضعيفة في حماية الخصوصية ومن بينها الولايات المتحدة.
ونظراً إلى الفوائد الاقتصادية من تبادل البيانات، فإن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قد شرعا في التفاوض في شأن اتفاقية الملاذ الآمن عام 2000 من أجل تجاوز هذه الخلافات. وكجزء من هذا الترتيب، وافقت الشركات الأميركية على الخضوع لمجموعة من المبادئ الأساسية للخصوصية يتم الإشراف عليها من قبل من قبل لجنة التجارة الاتحادية في الولايات المتحدة. خلال السنوات الـ15 الماضية، استفادت أكثر من 4 آلاف شركة أميركية من اتفاقية الملاذ الآمن لتسهيل التجارة الإلكترونية ونقل البيانات عبر الأطلسي وتفادي الولايات القضائية. ويأتي قرار المحكمة الأوروبية الأخيرة ليهدد كل هذه الأمور.
في أعقاب ما كشف عنه إدوارد سنودن، بدأ نشطاء الخصوصية في أوروبا في استكشاف القنوات القانونية للحدّ من المراقبة الأميركية. في عام 2013، رفع ماكس سكريمز، طالب القانون النمسوي، قضية في إيرلندا ضد اتفاقية الملاذ الآمن استناداً إلى المعلومات التي كشف عنها إدوارد سنودن. وقال إن فضائح تجسّس وكالة الأمن القومي أظهرت عدم وجود نظام فعال لحماية البيانات في الولايات المتحدة وأن الاتفاق الملاذ الآمن لا يمكن أن تحمي المواطنين الأوروبيين من المراقبة الجماعية. ويبدو أن المحكمة العليا في إيرلندا قد اتفقت مع الأمر، إذ وجدت أن «ما كشف عنه سنودن يبرهن على وجود تجاوز كبير على جزء من السلطات الأمنية، مع عدم اكتراث لخصوصية المواطنين العاديين. حقوق حماية البيانات صارت مهددة بشكل كبير بسبب برامج المراقبة غير خاضعة للرقابة». وقد أشارت المحكمة الأوروبية في حكمها إلى النتائج التي توصلت إليها المحكمة الإيرلندية العليا والتي ربطت بين الوثائق التي كشف عنها سنودن وبين اتفاقية الملاذ الآمن في ما يتعلق بغموض قواعد جمع البيانات بالنسبة إلى القطاع الخاص وبرامج المراقبة العامة في الولايات المتحدة. وخلصت إلى أن متطلبات الأمن القومي والمصلحة العامة في الولايات المتحدة تتغلبان على خطط الملاذ الآمن، إذ تقوم الولايات المتحدة بتجاهل تعهداتها الملزمة في هذا الصدد ولا تلتزم بالإجراءات الوقاية التي تتعارض مع مصالحها. وبالتالي فإن خطة الملاذ الآمن يتم العبث بها من قبل السلطات في الولايات المتحدة ما يمثل انتهاكاً لحقوق الأفراد الأساسية.
نحو نظام جديد
عن طريق تحويل شركات التكنولوجيا الأميركية إلى أدوات للاستخبارات الوطنية، فإن واشنطن قد أضرّت بشكل بالغ بسمعة هذه الشركات، كما أنها تعرّضها للوقوع تحت طائلة العقوبات الأجنبية. أرباح هذه الشركات، التي تمثّل حصة كبيرة في الاقتصاد الأميركي، تعتمد بشكل رئيس على التدفق الحر للمعلومات عبر الحدود. المسؤولون الأجانب والنشطاء السياسيون والقضاة الذين يعملون على الحدّ من هذه التدفقات لحماية مواطنيهم هم في واقع الأمر يوجهون ضربة إلى قلب هذه الشركات. وقد أجبر قرار محكمة العدل الأوروبية في شأن اتفاقية الملاذ الآمن واشنطن الآن أن تقرر ما إذا كانت تقدر القدرة المطلقة للتجسس على الأوروبيين أكثر مما يقدر الإنترنت المفتوح والرفاه الاقتصادية لشركات الأعمال الأميركية القوية. في الواقع فإن الاتحاد الأوروبي يستخدم تكتيكات الولايات المتحدة نفسها ضدها.
أعطت سلطات حماية البيانات الأوروبية واشنطن مهلة بضعة أشهر لبلورة إجراءاتها، ولكنها هددت باتخاذ إجراءات إذا لم تقم الولايات المتحدة بإصلاح قواعد الخصوصية الخاصة بها بحلول نهاية كانون الثاني 2016. إنهم يطالبون الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالتوصل إلى ترتيب قانوني ملزم يضمن حقوق الخصوصية الأوروبية عن طريق الحفاظ على البيانات من عبث وكالات الاستخبارات الأميركية. وإذا لم تقم الولايات المتحدة بتعديل قوانينها لحماية الأوروبيين، فإن الشركات الأميركية على الأرجح سوف تكون مطالبة ببلقنة تدفق البيانات الخاصة بها والحجر على البيانات الأوروبية ضمن مراكز البيانات الأوروبية تجنباً لمواجهة عقوبات محتملة من سلطات مكافحة البيانات.
رئيس شركة «مايكروسوفت» براد سميث، يحذر من أن تقسيم الإنترنت بهذه الشاكلة يهدّد بالعودة إلى العصور المظلمة للمعلومات، وهم أمر بإمكانه أن يعطل كل شيء بداية من أنظمة الدفع ببطاقات الائتمان إلى حجز الطيران، كما أنه سوف يكلّف الشركات المليارات من الدولارات ويهدّد طموحاتها العالمية. وسوف تدفع محاولة الولايات المتحدة استغلال هذا الترابط أوروبا نحو حجب البيانات الشخصية عن الشبكات والأسواق العالمية.
بحكم طبيعته، فإن الاعتماد المتبادل يمكن أن يكون مصدراً للضعف كما يمكن أن يكون سلاحاً. كما توضح حالة الملاذ الآمن، عندما يتم تقديم التفضيلات الأمنية للولايات المتحدة على الحقوق الأساسية للمواطنين في ولايات قضائية أخرى فإنه من المرجح أن تتم مواجهة ذلك بردّ فعل عنيف. الولايات المتحدة بحاجة إلى التعاون العالمي في شأن مجموعة من القضايا الحساسة، بدءاً من غسل الأموال والعقوبات. ومع ذلك فإنه لا تزال مصرة على الأحادية، حتى عندما يهدد ذلك قدرة الشركات الأميركية على العمل عبر الولايات القضائية.
في سياق التحقيق الجنائي، على سبيل المثال، فإن الولايات المتحدة تطالب الآن شركة «مايكروسوفت» بتسليم البيانات الموجودة في مركز البيانات الخاص بها في إيرلندا. بدلاً من طلب البيانات من خلال عمليات التبادل الحكومية الدولية، عبر قيام الحكومة الأميركية بتقديم طلب رسمي بذلك إلى المسؤولين في إيرلندا، فإن الولايات المتحدة تستخدم الانتشار العالمي لنظامها القانوني للمطالبة بالبيانات حتى في مواجهة معارضة من قبل الحكومة الإيرلندية وشركات «وادي السيليكون» التي تخشى أن تساهم هذه الخطوة في المزيد من الإساءة لسمعتها. مجموعة من عمالقة التكنولوجيا القوية، بما في ذلك شركة «آبل» وشركة «سيسكو سيستمز»، قد قدّمت «عريضة دعم» في المحكمة لدعم «مايكروسوفت» وضدّ موقف الحكومة الأميركية. وإذا ما استمر هذا النوع من السلوك من جانب حكومة الولايات المتحدة، فإنه سوف يضر بشكل حاسم بتطلعات الشركات الأميركية لبناء حوسبة سحابية عالمية. بدلاً من السحابة المشتركة، فإن الشركات سوف يتعين عليها حينئذٍ محاولة الاستفادة من مساحات بيانات وطنية مجزأة مخفية وراء غابة من الأنظمة ومخططات الحماية بالتشفير. هذا سوف يؤذي اقتصاديات مقدّمي الخدمة السحابية داخل النطاق، كما سيؤذي مقدّمي الخدمة الرئيسيين في الولايات المتحدة.