الانتفاضة الفلسطينية تكسر التوقعات والمُقاربات والخيارات المشوّهة بلا هوادة!

نصّار ابراهيم

انتفاضة فلسطين وشبابها تمضي في طريقها… أربعة أشهر ولم تنكسر الإرادة… بل تواصل كسر التوقعات والمقاربات والخيارات المشوهة وخلط الأوراق وطرح الأسئلة والتحديات الحارقة بلا هوادة…

يواصل الشباب الفلسطيني مقاومته الباسلة وهو يبتسم سخرية من ضحالة التحليلات وغباء التوصيفات ومسخرة التوقعات التي تزدهر في مواسم المؤتمرات وثرثرات الخبراء و«القادة» السياسيين…

كنست الانتفاضة الفلسطينية، بإصرارها ووضوحها وعزيمتها، المقاربات السياسية والسيوسيولوجية والثقافية العقيمة والبائسة… تلك المقاربات التي تحاول، وبدأب، حصر الانتفاضة في زوايا اليأس والإحباط. وكأنّ المقاومة الممتدّة للشعب الفلسطيني وكلّ التضحيات التي قدمها عبر التاريخ هي تعبير عن حالة مرضية أو إحباط نفسي… وبكلمة أخرى هي نوع من «مقاومة» يائسة لشعب مأزوم نفسياً وعاطفياً ويعاني من «الشيزوفرينيا».

للأسف، فإنّ هذا الخطاب تردِّده وتؤكده بعض نخب وقيادات وقوى سياسية فلسطينية بوعي أو بدون وعي. وهي بذلك تقف في الخندق المواجه لنضالات شعب فلسطين وشبابه المنتفض…

لهذا بات بمثابة الضرورة الوطنية والسياسية والثقافية إعادة التأكيد والتذكير بالبديهيات التي نسيها أو يتناساها الكثيرون، وهي أنّ هذه الانتفاضة هي، في جوهرها، مقاومة شعب ضدّ احتلال «كولونيالي» عنصري، وهي تعبير ساطع عن مضمون ومحتوى حركة التحرُّر الوطني الفلسطيني. وبالتالي لن توقف هذه المقاومة الباسلة أية رشاوٍ سياسية أو اقتصادية… إنها حركة شعبية موضوعية وذاتية في مواجهة مشاريع التسوية البائسة التي تجاوزت حقوق الشعب الفلسطيني البديهية في الحرية والاستقلال والعودة…

بهذا المعنى، فإنّ انتفاضة الشباب الفلسطيني هي انتفاضة سياسية ثقافية عميقة ضدّ خيارات سياسية عقيمة وفاسدة في جوهرها وشكلها، وهي أيضاً انتفاضة باسلة ضدّ الممارسة السياسية للعديد من القوى السياسية الفلسطينية التي لم ترتق إلى مستوى قضية فلسطين… بل حوَّلتها إلى مجرد ورقة للمساومات الداخلية والإقليمية…

إذن، يجب إعادة توجيه الأسئلة والتحليل باتجاه آخر… بمعنى أنّ المعضلة والإشكالية ليست في عدم وضوح دوافع وأسباب انتفاضة ومقاومة الشعب الفسطيني… بل في إخفاق القوى السياسية التي لم تدرك أو لا تريد أن تدرك وتعترف بأنها لم ترتق إلى مستوى طموحات وأهداف شعب فلسطين… وبالتالي تواصل الرهان على الخيارات ذاتها التي دفعت بقضية هائلة كقضية الشعب الفلسطيني إلى زوايا أقلّ ما يمكن أن يقال فيها أنها مُهينة… هنا الأزمة… هنا اليأس… هنا الإحباط… وهنا الكارثة…

والمشكلة هنا ليست في ما تحاول بعض المقاربات والخطابات الباهتة الترويج له، بمعنى أنّ الانتفاضة هي استخدام الاحتلال «القوة المفرطة»… أو الضغوط الحياتية… فكلّ هذا هو أمر طبيعي وأكثر… المشكلة هي في من يرهن تحرُّر الشعب الفلسطيني بحسن نوايا وسلوك الاحتلال… ومن الرهان على «عقلانية» هذا الاحتلال، أو على «حسن نوايا» الحلف الذي يدعم الاحتلال منذ نشوئه وحتى اليوم، هنا المشكلة وليست في احتلال يعبر بالضبط عن طبيعته العنصرية والفاشية والاستعمارية.

وبالمناسبة، تبدو هنا مفارقة غريبة وهي أنّ نخب الاحتلال وقادته يلتقون بصورة ما في مقاربة انتفاضة الشعب الفلسطيني ومقاومته مع بعض المقاربات الفلسطينية القاصرة والخاطئة… فهو أيضاً لم يتعلم الدرس بعد سبعة عقود من الاحتلال والقهر والقمع والمجازر… ودائماً يحيل مقاومة الشعب الفلسطيني إلى عوامل نفسية واقتصادية… ولهذا يصطدم كلّ مرة بالعجز والفشل في الحفاظ على المعادلات التي حاول ترسيخها باعتبارها ثوابت أزلية.. أساسها الأمن والقوة والسيطرة كشروط للحياة…

لكلّ هذا يقف عاجزاً ومربكاً… ولا يجد أمامه سوى الركض في ذات الدوائر الفاشلة، القتل والمزيد من القتل والحصار والجدران والغطرسة والكذب… ولكن ألم يفشل كلّ ذلك من قبل؟ فعلى أي شئ يراهن هذا الاحتلال يا تُرى؟

أعتقد أنّ رهان الاحتلال يتركز بالضبط حيث على القوى السياسية الفلسطينية أن تنتبه… إنه يراهن على تعميق الانفصال ما بين المستويات السياسية الفلسطينية وشعبها.. وتعميق التمزيق الجغرافي والسكاني… وإقناع تلك القوى والقيادات الفلسطينية بأنّ هذه المقاومة وهذه الانتفاضة تشكلان خطراً عليها بقدر ما هي خطرة عليه…

وفي هذا السياق، يلحُّ الاحتلال دائماً على مفهوم ويؤكد عليه كلازمة مملة وهي: أنّ هذه الانتفاضة عفوية وليست لها قيادة وهي تشبه ردّ فعل الذئاب المنفردة…

كم هو خطير قبول هذا المنطق… لأنه يستهدف تصوير شعب فلسطين وكأنه قطيع منفلت… وتصوير الشباب المنتفض والشهداء على أنهم حالات فردية يائسة لا يجمعها جامع… وبالتالي فإنّ ظاهرة المقاومة هذه سيتمُّ وأدها وكسرها عاجلاً أم آجلاً بالصبر والقوة والقتل… لأنها هشّة ولا تملك شروط الاستمرار والبقاء…

هذه النظرة تتجاوز أو لا تريد أن ترى أنّ ما تحظى به الانتفاضة من حاضنة شعبية فلسطينية حاسمة وهائلة، تتخطى كلّ التقسيمات والحدود الجغرافية… الأمر الذي يعبر عن نفسه بجلال في أعراس الشهداء والتضامن الشامل مع العائلات التي تتعرض للتنكيل من قبل مؤسسات وأجهزة الاحتلال.

هذا ما يجب على القوى السياسية الفلسطينية الأصيلة والمقاومة أن تنتبه له… بما يعنيه ذلك من ضرورة توفير شروط الاحتضان الشامل والحقيقي للانتفاضة وشبابها… احتضان سياسي وثقافي ومعنوي وعلى كلّ المستويات… هذه مسؤولية وطنية مقدسة، وهي التي ستقرِّر مستقبل ودور أي قوة سياسية فلسطينية في المستقبل…

تبقى كلمة أخيرة.. وهي أنّ استمرار القوى السياسية الفلسطينية الأساسية في التمترس العقيم عند ممارساتها ومقارباتها الضيقة سيضعها في لحظة ما أمام مواجهة ضارية مع أغلبية شعبها ومع أغلبية قواعدها الوطنية الشريفة والمناضلة… لهذا عليها أن تتجاوز لحظة العجز والارتباك والرهانات الفاشلة من خلال الاتفاق السريع على استراتيجية وطنية أساسها مواصلة عملية التحرُّر الوطني، وفق شروط الثورات وشروط تحقيق الانتصار بكلّ ما يتطلبه ذلك من تجديد للذات ووحدة وطنية وتحالفات قومية وأممية وسياسات اجتماعية واقتصادية هدفها الوحيد حماية مقاومة الشعب الفلسطيني وتعزيزها وتطويرها وحماية حقوقه الوطنية حتى تحقيق الحرية ودحر الاحتلال.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى