يا نار كوني برداً وسلاماً على الطفل المقدسي محمد!

نصّار إبراهيم

عند الفجر… والعصافير لما تزل تحت أجنحة أمهاتها، نهض محمد، الطفل المقدسي وتوضأ للصلاة، ليس بينه وبين الله حدّ أو شيخ أو تنظيم… هو والله وحدهما فقط… خطواته تلامس أزقة القدس الندية… قلبه يهفو برفق… يصلّي وهو يسير الهوينا… فالسير في شوارع القدس فجراً هو نوع من صلاة…

تنام القدس وعيناها مشرعتان على السماء… ومن بعيد جداً يصلها عواء الذئاب الضالة… ذئاب ليس بينها وبين القدس سوى مسافة السكين… وعند الفجر أيضاً، وفي مكان قريب، تهيأ أبو ملجم وشحذ خنجره وعينه على قلب علي، وعند الفجر ذاته فحّ قطيع الذئاب وعينه على قلب محمد أبو خضير… الطفل الذي يصلّي ماشياً الهوينا ونبضات قلبه الفتيّ تعانق البيوت والحواري الغافية… مرّ كالنسيم الرقيق، فيما داعب غرّته بلطف غصن ياسمين تهدّل من فوق شرفة حميمة، غصن ياسمين دمشقيّ أودع في عينيّ الطفل المقدسي فجراً همسة لقاء ووعد.

عند الفجر، وفيما الآذان يهدل فوق القدس كنورس عابر يلاحق عشقه وأحلامه، يستعر الأفق بعواء قطعان وحشية ودموية تمزق قلب المدينة، وهنا في القدس حيث ضوء الله يفيض هدوءاً كان قطيع المستوطنين يزحف في هدأة الفجر ويحاصر الطفل البهيّ الذي تداعب غرّته نسائم فجر يراه للمرة الأخيرة…

حاصر القطيع الطفل الذاهب للصلاة… أخذوه وحيداً… لا أدري كيف كانت نظرته الأخيرة، لا أعرف كيف ومضت عيناه، ماذا كان دعاؤه الأخير… ولا أدري كيف أنهى صلاته… فهل سلّم على النبيّ وعلى من على الأرض… هل لاحظ محمد أبا ملجم بين أولئك المستوطنين وهو يضع على رأسه الكيباة !؟

في ذلك الفجر التقى عليّ بمحمد… كانا ينزفان معاً… قال الإمام للطفل المقدسي: لك الله أيها المقدسيّ!

أخذ قطيع الذئاب الطفل بعيداً، مزقزه وأشعلوا النيران ورقصوا حولها كالشياطين المسعورة الصاعدة من أعماق الجحيم… ضغط الإمام على جرحه النازف وأرسل عبر السماوات صرخته الأزلية: يا نار كوني برداً وسلاماً على محمد، يا نار كوني برداً وسلاماً على هذا الطفل المقدسيّ الجميل…! يا نار احرقي الكون والمعبد والهيكل فوق رؤوس القتلة!

ايقظت صرخة عليّ القدس من غفوتها، فنهضت المدينة من نومها مفجوعة… زلزلت الصرخة أعماقها… فهبّت للصلاة على طريقتها وأشعلت غضبها… نزل المقدسيون إلى الشوارع، لم ينتظروا قيادة أو قراراً، لم ينتظروا مساعدة أو شجباً أو استنكاراً… ماد الأقصى واهتزت القيامة لقيامة الطفل المقدسيّ محمد وهو يمضي صاعداً نحو السماء… ألقى الطفل نظرة أخيرة نحو مدينته الحبيبة، فكان عليّ هناك يضغط جرحه ويقاتل بين الجموع الثائرة… أما قطاع الطرق وأبو ملجم وقتلة الأطفال فجراً في القدس وفي دمشق وفي بغداد وفي القاهرة فقد أرعبهم النهوض وأخافهم أنّ الناس البسطاء يعرفون صلاتهم جيداً، ويعرفون أن الله ليس تنظيماً أو خليفة أو بندقية تطلق النار وتفجر رؤوس الأطفال وتحرقهم.

كان الفجر هادئاً في عيني محمد… هادئاً تماماً…

أما القدس فقد شمّرت مع الفجر عن غضبها وأذّنت: أن أقيموا الصلاة للمقاومة…

والقدس تقيم الآن صلاتها في الشوارع والساحات والبيوت… هي القدس تضع حداً فاصلاً بين الوهم والحقيقة، بين الدين الملتبس والشكليّ والدين الذي يعشق الحياة والناس ويقاوم من أجل الكرامة.

هي القدس تنهض بأثقالها ورهافتها… وتكشف كم هي هشة سلطة الاحتلال وقوته، وكم هي هشة بنيته الأخلاقية، وكم هي هشة وفارغة وكاذبة هلوسات القتلة باسم الدين وباسم الله.

القدس على مرمى بصر… فأين هم؟ القدس تقاوم بعينيها وأطفالها وشبابها وحجارتها… فأين هم؟

غير أنّ القدس… لا تنتظر جواباً… فهي مشغولة بنهوضها… ومشغولة بأن تودع محمدا بما يليق بطفل يرتقي بهدوء نحو السماء بعد أن أضاء دمه سماء المدينة بالغضب المقدس.

صفحة الكاتب:

https://www.facebook.com/pages/Nassar-Ibrahim/267544203407374?ref type=bookmark

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى