لبنان والتحوّل في موازين القوى الإقليمية والدولية…
إبراهيم ياسين
من الواضح أنّ ما يجري في المنطقة، لا سيما في سورية من تحوّلات في موازين القوى الميدانية على أثر الحضور الروسي العسكري النوعي إلى جانب الجيش العربي السوري وحلفائه في الحرب ضدّ قوى الإرهاب قد قطع الطريق على المخططات الأميركية الغربية والتركية – السعودية في إدامة حرب الاستنزاف ضدّ الدولة الوطنية السورية، وصولاً إلى فرض إملاءاتهم السياسية لحلّ الأزمة، والهادفة إلى فرض الوصاية على سورية وإعادة تشكيل نظام الحكم فيها بما ينسجم مع الاستراتيجية الأميركية.
فالحضور الروسي مكّن الجيش العربي السوري وحلفائه من الانتقال من الدفاع إلى الهجوم، ورجّح خيار الحسم العسكري ضدّ القوى الإرهابية من ناحية وأسقط رهانات الغرب وتركيا على إقامة منطقة عازلة في شمال سورية من ناحية ثانية، وأدّى إلى حدوث انهيارات في مواقع المسلحين الإرهابيين ومعنوياتهم من ناحية ثالثة.
وقد أدّى ذلك إلى مفاقمة مأزق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نتيجة تلاشي أحلامه في سورية وارتكابه حماقة إسقاط طائرة السوخوي الروسية التي أدّت إلى دفع روسيا للردّ بزيادة حضورها العسكري النوعي في سورية ونشر صواريخ أس 400 التي شلت أية قدرة للطائرات التركية من الاقتراب من الأجواء السورية، في حين أصبحت أيّ طائرات أخرى تريد دخول الأجواء السورية تحتاج إلى إذن روسي مسبق، كما قامت روسيا باتخاذ سلسلة إجراءات عقابية سياسية واقتصادية وعسكرية ضدّ تركيا، أصابت الاقتصاد التركي لا سيما السياحة والصناعات الغذائية والاستثمارات التركية في روسيا بأضرار جسيمة، فيما دخلت روسيا على خط تغذية التناقضات داخل تركيا عبر استقبالها رئيس حزب الشعوب الديمقراطي الكردي في تركيا.
هذه التطورات أدّت إلى إضعاف وشلّ الدور التركي في سورية، وترافقت أيضاً مع تنامي المأزق السعودي نتيجة غرقه في حرب استنزاف كبيرة في اليمن، وفشله في تحقيق أهدافه منها، وكذلك نتيجة الضربة الموجعة التي وجهها الجيش العربي السوري بتمكنه من قتل زعيم جيش الإسلام الإرهابي زهران علوش أحد أدوات السعودية في سورية إلى جانب العديد من القيادات الإرهابية في الغوطة الشرقية، والتقدّم الكبير الذي حققه الجيش العربي السوري في محافظة درعا، لا سيما استعادته السيطرة على مدينة الشيخ مسكين الاستراتيجية واقترابه من الحدود الأردنية.
وكان من الطبيعي أن تؤدّي هذه التطورات إلى إصابة القيادتين السعودية والتركية بحالة من فقدان التوازن والتخبّط عكسهما هروبهما إلى الأمام، بالإيغال أكثر في السياسات التي تؤدي إلى تعميق مأزقهما، وهو ما ظهر جلياً من خلال الخطوة الحمقاء التي ارتكبها النظام السعودي في اغتياله للمعارض السعودي العلامة الشيخ نمر باقر النمر في سجنه بعد اعتقاله لمدة ثلاث سنوات، وقبل ذلك في مسارعته إلى إعلان «التحالف الإسلامي» للتغطية على فشله في اليمن، في حين أقدم أردوغان على الإيغال أكثر في حربه ضدّ حزب العمال الكردستاني في جنوب شرق تركيا، مما يدخل تركيا إلى مزيد من حالة انعدام الوزن والاستقرار، الذي ينعكس سلباً على الواقع الاقتصادي.
ومن الطبيعي أن يؤدّي كلّ ذلك إلى تعزيز الموقف السياسي للحلف الروسي السوري الإيراني في مواجهة الحلف الأميركي الغربي التركي السعودي، وهو ما ظهر بوضوح في مؤتمر فيينا الذي جاءت مقرّراته لترجح وجهة النظر الروسية السورية الإيرانية لحلّ الأزمة في سورية، في حين أنّ محاولات الانقلاب السعودية الأميركية على نتائج مؤتمر فيينا عبر مؤتمر الرياض الذي استهدف تلميع صورة بعض الجماعات الإرهابية التي تموّلها السعودية وإعطائها صبغة الاعتدال لإشراكها في المفاوضات مع الدولة السورية استباقاً لتصنيفها المنتظر باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من المنظمات الإرهابية في سورية.
فشلت كلّ هذه المحاولات بسبب الموقف الروسي السوري الإيراني الصلب في رفض الانقلاب على نتائج مؤتمر فيينا، واضطر وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى التراجع والسفر إلى موسكو للاتفاق مع المسؤولين الروس حول الصيغة التي ستصدر عن اجتماع نيويورك، وهي الصيغة التي صدرت مؤخراً عن مجلس الأمن على نحو ينسجم مع مقرّرات مؤتمر فيينا.
كلّ ذلك يعكس موازين القوى الجديدة التي باتت هي ترسم المعادلة السياسية. وكلما تقدّم الجيش العربي السوري وحلفاؤه في الميدان واقترابهم من ساعة الحسم مع الجماعات الإرهابية، كلما كانت شروط الحسم السياسي أكثر انسجاماً مع المصلحة الوطنية السورية، وبالتالي المزيد من الفشل الأميركي في محاولات التدخل في شؤون سورية الداخلية.
من الطبيعي أن تنعكس هذه التطورات على المشهد اللبناني، لا سيما أنّ الأزمة اللبنانية تفجّرت على إيقاع الصراع الإقليمي الدولي على خلفية سعي واشنطن وحلفائها إلى محاولات فرض الهيمنة على المنطقة والقضاء على المقاومة وتصفية القضية الفلسطينية، وصولاً إلى تمكين العدو الصهيوني من إعلان دولته اليهودية العنصرية، وتعويم مشروع الهيمنة الأميركي الأحادي القطب على العالم، ومنع روسيا والصين من المشاركة في القرار الدولي، واستطراداً تشديد الخناق على الجمهورية الإسلامية الإيرانية لإخضاعها للإملاءات الغربية.
فالفشل الأميركي في تحقيق كلّ هذه الأهداف والتسليم أولاً بحقوق إيران النووية عبر الاتفاق النووي ومن ثمّ التكيّف مع الحضور الروسي العسكري في سورية، والتسليم بالمعادلة التي فرضها الروسي في الحرب ضدّ قوى الإرهاب، كان من الطبيعي أن يؤدّي إلى توجيه ضربة قوية لكلّ رهانات قوى 14 آذار على تغيير موازين القوى الإقليمية والدولية للإستقواء بها لإعادة إنتاج هيمنتهم على السلطة في لبنان، واستئناف هجومهم ضدّ المقاومة والقوى الوطنية.
ولذلك فإنّ أيّ حلّ للأزمة في لبنان سيكون بالتأكيد نتاج هذه المعادلات الجديدة في موازين القوى التي تصبّ في مصلحة قوى المقاومة وحلفائها على الساحة اللبنانية.
ناشط سياسي