مضايا… والحرب الباردة
محمد نادر العمري
تشهد العلاقات داخل النظام ا قليمي لدول الشرق ا وسط، المزيد من التصعيد وحدّة التوتر في معالجة الملفات المتأزمة والمفتوحة، بحيث تحاول بعض دول هذا النظام العمل على إدارة ا زمات، بمعنى افتعال المزيد من ا زمات داخل ا زمة الواحدة، لتزيد من توسيع نفوذها وامتلاك زمام المبادرة لفرض صيغة حلّ تتوافق مع مصالحها ومصالح تحالفاتها، أو لتحدّ من نفوذ المحور ا خر، وتضع العراقيل أمام التسويات والحلول التي لا تناسبها والتصعيد الأخير الذي شهدته العلاقات داخل هذا النظام بين المحورين السعودي ـ ا يراني، يصبّ في هذا الإطار.
فالدولتان تتجنّبان المواجهة المباشرة والشاملة، ولكن في الوقت ذاته أيّ محور لا يوفر وسيلة ممكنة سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً صدام غير مباشر إلا ويستخدمه ضدّ المحور ا خر، في صراع بدأت ملامحه ومعاييره تكتسب سمات الحرب الباردة، وتداعياته التصعيدية لامست الملفات ا قليمية كافة، بما ينبئ بتأجيل مرحلة التسويات إلى فترة أخرى تكون فيها صيغة التشابك ممهّدة لهذه التسويات، في ظلّ نظام دولي يشهد مخاضاً لم تبرز ملامح قطبيته حتى اليوم، بعد تراجع دور ونفوذ القطب المهيمن سابقاً الولايات المتحدة وعودة القطب الروسي إلى الساحة الدولية تدريجياً ونشوء تكتلات وتحالفات تضمّ دولاً ناشئة وصاعدة مثل الصين والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا تبحث عن دور لها في هذا النظام الدولي.
فمستقبل اليمن اليوم مجهول المصير سياسياً وعسكرياً ، وما يحققه الجيش العراقي من تحرير مدن وإنجازات في مواجهة ا رهاب يخطفه الخطاب والتجاذب السياسي المنقسم، وملف الرئاسة في لبنان هو نحو المزيد من التأزم والانتظار، والانتفاضة الفلسطينية تعاني ا مرّين: انقسامات داخلية، وضغوط إقليمية متواطئة مع الكيان الصهيوني لقمع الانتفاضة، والنبرة والاصطفافات الطائفية في قمة بلوغها.
وانعكاس ذلك على المشهد الداخلي السوري، بدأنا نتلمّسه بوضوح في تسييس الملف ا نساني لمدينة مضايا قبيل انعقاد محادثات جنيف بين وفدي الحكومة وأطياف المعارضات، والتي دعت إليه ا مم المتحدة بعد صدور القرار 2254، والحملة الممنهجة الكبيرة التي تناقلتها الوسائل الإعلامية والتواصل الاجتماعي كافة بنشر صور تدّعي بأنها لمواطنين سوريين داخل المدينة يعانون من مجاعات جماعية جراء حصار تنفذه الحكومة السورية والمقاومة ضدّهم. فما تمثله المجموعات المسلحة الموجودة داخل مدينة مضايا والبعد ا قليمي الذي يربطها بدول توظفها وتدعمها وتحاول إعطاءها غطاء سياسياً «يشرعن» وجودها، يجعل هذه المدينة إحدى ساحات الحرب الباردة، مع ضرورة التوقف عند النقاط التالية:
أولاً: تسييس الملف ا نساني لمدينة مضايا من قبل الدول الداعمة للمعارضات ووسائل إعلامها، بغرض الضغط على الحكومة السورية وحلفائها بحصر تمثيل المعارضة بوفد ما يُسمّى الهيئة العليا للتفاوض الذي تشكل بعد مؤتمر الرياض وتحييد باقي المعارضات الأخرى، وقبولها با سماء كافة التي يضمّها الوفد، بما في ذلك ممثلون عن ميليشيات تعتبرها الدولة السورية وحلفاؤها إرهابية كـ»جيش ا سلام» و»حركة أحرار الشام»، وهذا قد يبرّر زيارة المبعوث الدولي الخاص إلى سورية ستيفان دي ميستورا إلى الرياض أولاً، ومن ثم إلى دمشق وطهران وعودته إلى الرياض مجدداً.
ثانياً: هناك حملات لجمع التبرّعات وادّعاء بإيصالها إلى داخل مدينة مضايا من قبل دول وأحزاب ووسائل إعلام إقليمية، ا مر الذي يطرح تساؤلات… كيف يمكن إيصال هذه ا موال إنْ كانت فعلاً المدينة هي في حصار مطبق؟ وما الذي سيفعله المحاصرون با موال؟ وهل من السهولة إدخال ا موال ومن الصعوبة إدخال المساعدات بذات الطريقة؟ وما هو مصير هذه ا موال إنْ لم تدخل وإلى أيّ جهات وما هي ا غراض التي ستصرف من أجلها؟ ومن ثم كيف يمكن لـ700 مسلح في داخل مدينة مضايا أن يقاتلوا من دون أن يحصلوا على ذخيرة؟ كيف يتزوّدون بهذه الذخيرة؟ وهل تهريب الذخيرة لهم أسهل من تهريب وإدخال المساعدات؟ ومن ثم أين المساعدات التي أدخلت إلى المدينة في الآونة ا خيرة؟ وبخاصة أنّ المتحدّث باسم لجنة الصليب ا حمر الدولي أكد أن حجم المساعدات التي أدخلت تكفي لشهرين ولم تنته المدة؟ تزامناً مع معلومات من داخل مضايا تفيد بأنّ هناك مستودعين للأغذية تسيطر عليهما المجموعات المسلحة، واحد مقابل المستوصف الطبي في مدينة مضايا وآخر موجود في جانب جامع البراق بمنزل قيادي في حركة «أحرار الشام» المدعو زياد درويش.
ثالثاً: من النقاط المهمة التي تدلّ على أنّ مدينة مضايا هي إحدى ساحات الحرب الباردة إقليمياً، تكمن في المعطيات المترابطة ابتداء من إصرار «حركة أحرار الشام» وتركيا على ربط الفوعا وكفريا بتسوية الزبداني، وصولاً إلى اتهام حزب الله بأنه هو الذي يمارس هذا الحصار، وتحرك فريق 14 آذار بصفوفه كافة لتوجيه الاتهام لحزب الله ومطالبته بانسحاب من سورية، ا مر الذي قد يشهد توتراً داخلياً في لبنان ويعقّد المشهد أكثر باتجاهه الطائفي والمذهبي، وبالتالي توظيف ذلك لمنع حزب الله من الردّ المؤكد على اغتيال الشهيد سمير القنطار ورفاقه.
با ضافة إلى كلّ ما سبق هناك من يحاول أيضاً أن يُشيطن فكرة المصالحات وما أثبتته من نجاعة، ليشوّه طبيعة ا نجازات والصمود للمؤسسة العسكرية، وتغاضي ما يسمّى المجتمع الدولي عن إرهاب الدول الداعمة للمجموعات المسلحة في ا راضي السورية كافة، وتوظيفها بشكل يتنافى مع المواثيق والمعاهدات الدولية في دير الزور وريف حلب وكفرنبل والزهراء والفوعا وكفريا وفي الغوطة وغيرها.
كلّ ما تقدّم يشكل مؤشرات تؤكد أنّ النظام ا قليمي بكامله دخل ساحة الحرب الباردة ويشهد اشتباكاً قد يمهّد لتسوية ما زالت بعيدة، وإنْ كان تكرار جنيف 2 هو ا قرب بسبب غياب مفاعيل الحلّ الحقيقية والظروف المناسبة وا رادة الجادّة.
كاتب وباحث في العلاقات الدولية