القيمة الدرامية… خارج الدراما

د. منصور نعمان

كيف تُفهَم الدرامية؟ وما مسوّغاتها وأشكالها وتجلّياتها؟ وهل الدرامية خاصيّة الدراما ذاتها دون غيرها؟ لقد قرنت الدرامية بالدراما، منذ عرفت الدراما إغريقيا، وشدّد أرسطو على أصنافها الأربعة: التراجيديا والكوميديا، وتولّد عن الأول صنف آخر هو الميلودراما، أما التراجيديا، فقد تولّد عنها الفارس أو ما يعرف بالمهزلة.

هكذا عرفت البشرية الدراما وأصنافها، وهي ذاتها تملك صفة الدرامية سواء كانت مأساة راقية أو ميلودراما فجّة يكثر فيها القتل وغياب منطقية المعالجة والقفز على الأحداث.

إن الاختلاف الجوهري بين المأساة والميلودراما كبير وشاسع وعميق، إلا أن ذلك لم يلغِ لأيّ سبب من الأسباب وجود إحداهما، بل بقيتا محافظتين على المسافة الفاصلة بينهما، والمسألة ذاتها تنطبق على الكوميديا، رغم الاختلاف بينهما، فضلاً عن الاختلاف الآخر مع صنفَي المأساة والميلودراما.

المقدّمة التي تم سوقها، لتدعيم القيمة الدرامية: فلسفية وفكرية وجمالية، التي التصقت قلباً وروحاً بالدراما، من أولى لحظات تاريخ فنّ الدراما، والمتتبع لا يغفل هذه الحقيقة، إنما يؤكدها، وها هنا السؤال الجوهري الذي يقول: هل القيمة الدرامية صفة اقترنت بالفنون والآداب الأخرى، أم بقيت طابعاً مميزاً إلى الدراما فحسب؟

أليس بالإمكان تقصي الدرامية في: الرواية، القصة، الأقصوصة، الخاطرة، المقالة والشعر… إلخ، ألم تكن تأخذ من الدراما؟ أليست الدراما تتعامل مع عناصر هي في حقيقتها من صنع الرواية والقصة وكذلك الشعر، أليس تركيب الصور الأدبية، وبناء صور مبتكرة وخلق نسيج من العلاقات المؤثرة، دليل على تعامل الآداب مع بعضها الآخر بعملية التداخل والتناصّ والتعاطي؟ ألم تكن هناك نصوص خالدة كتبت شعراً؟

لم تنتقص قيمة الشعر عندما اكتسب الصفة الدرامية بل ازدادت فاعلية الشعر نشاطاً وحيوية في التداخل وتشظّي خلايا النصّ بين الأنواع الأدبية وأصنافها المختلفة. ألم تتفتح النصوص أكثر من ذي قبل، وصارت أكبر مما كانت عليه؟ أليست الدرامية هي التأثير؟ ألم تكن الدرامية أوقع أثراً بهذا الانفتاح والتآزر مع الرواية والقصة والشعر وغيرها؟

وفي ضوء ما أشيرَ إليه، نعود أدراجنا إلى السؤال الذي سبق طرحه والقائل: هل الدرامية صفة لصيقة بالدراما فحسب؟

لنقف معاً نتأمل الرواية، على سعة أحداثها وشخوصها وأمكنتها وأزمنتها والموضوعات الكبيرة التي تتطرّق إليها الرواية، فإن شيئاً ما مؤثراً سيبقى لصيقاً بالقرّاء، يتجذر مع الأيام، لابل تعضده التجربة الانسانية فيها، فيزداد ثباتاً ورسوخاً. إن تنويع الأحداث في الرواية واتّساع رقعة الحدث لا يمنع بأيّ شكل من الأشكال، اللحظة الدرامية المتّسمة بالضغط والقوة والطاقة والالتصاق بالقارئ. إن الدرامية لا تتأتى على غفلة، إنما من خلال هندسة أفعال الأبطال، أي ما يقومون به أو ما يبوحون به أو يقدمون أو سيقدمون عليه. لهذا، فإن التخطيط المنظّم حركة الصراع الكلّية، سيحتّم تلك اللحظة الدرامية. ففي الرواية تتسع الأحداث وتتجاور وتتعدد الخطوط، إلا أنه في لحظة ما سيتم الاشتباك، ويخرق الأبطال بعضهم. فالصراع أساس في الأدب المسرحي أو الروائي، ولاحقاً سيتم التنويه عن الصراع القائم بألوان الفنون الأخرى التي سيتم التطرّق إليها.

خلاصة الكلام أن الدرامية تعدّ واحدة من الخصائص في القصة والرواية، ويكفي أن ذاكرة القراءة لم تزل تحمل عبق المشاهد والحوار أو الوصف المذهل لكبار الأدباء في العالم: تولستوي، دستويفسكي، شتاينبك، كامو… لكن ثمة ميزة في درامية الرواية أنها لا تكون حادّة. بكلمة أخرى يكون تأثيرها بإيقاع بطيء لكنه كثيف التأثير. فإن الأحداث الدرامية ـ أعني من حيث تقنيتها ـ يكون تأثيرها من خلال الشعور بالتناقض أو التحدّي، أو صورتين للصدام الحاد. أقول وفي ذهني رواية «عناقيد الغضب» لشتاينبك، وصورة العجوز المتضوّر جوعاً والمرأة التي تخرج ثديها لترضع منه العجوز كطفل لتنقذه من الهلاك، وصورة رسمها آلبير كامو للفنان في رواية «الغريب»، فكلما ازدادت شهرة الفنان انكفأ على نفسه وازداد عزلة عن الآخرين، وهو يتوارى عن الآخرين، في غرفة شبه مظلمة يمارس فيها الرسم. إنها لحظة درامية، مؤثرة ومؤلمة في الوقت ذاته وتثير شغفنا بالفنان وطبيعة مشاعره المتحركة. بينما عولجت الفكرة ذاتها في واحدة من روايات كولن ولسون بطريقة هازلة وفجّة، إذ صوّر الفنان الذي ذاعت شهرته جماهيرياً بأنه مطارد من وسائل الإعلام، وإليكم التوصيف: الفنان يبتعد عن عدسات التصوير والصحافيين وذلك بالركض مبتعداً عنهم بعدما عرفوا مكانه، أما الباقون فكانوا يطاردونه في الشارع لتقصّي أخباره. يلاحظ أن الفرق بين بنيتَي الصورتين، وأن معالجة كامو الدرامية، مختلفة وذكية وتختزل المعاناة الحقة للفنان، إذ شكل صورة كاملة الحقوق وراسخة وعميقة. نتفهم مما تقدم أن معالجة الصورة والكيفية التي تظهر عليها تساهمان بشكل فاعل في خلق التأثير الدرامي وتجذّره.

وقد تكون الدرامية في صلب الغنائية بوصف الشعر يبحث في الذات ويحفر فيها، لمسك المشاعر والتقاط الصور الدفينة في الذات وكأنها وتد شاخص داخل جسد القصيد. والشعر قد يكون فيه الحوار، لكنه خاضع للضرورة الشعرية ومقتضياتها، ومع ذلك فالشحنات الدرامية تتشكل وتتّخذ موقعاً في لبّ القصيدة.

إنّ الدرامية الشعرية تتّكئ إلى الصراع أيضاً. إنه صراع الكلمة ونقيضها من الكلمات، أو الصورة ونقيضها من الصور، أو الحرف وما يناقضه من حروف. إنّ التناقض ها هنا ليس لبناء الشكل بقدر بناء الصورة الشعرية حاملة الطابع الفريد والدلالة التي يصوغها الشاعر بدقة متناهية.

إنّ الصراع الذي تتولّد عنه القيمة الدرامية، يختلف في الوسيلة، إلا أن القصيدة تبقى لها لحظات الذروة التي تتولد منها الصورة المؤثرة والعميقة التي تحفر في الذاكرة الإنسانية وتؤسّس نفسها.

وهنا يفرض سؤال نفسه: أتحافظ الدرامية على تواجدها باختلاف الأصناف؟

من الطبيعي أن الأصناف بحسب تقسيم أرسطو لها كانت ثلاثة وهي: الدرامي والملحمي والغنائي. رغم وجود تصنيفات أخرى وضعها جيرارد جنيت في كتابه «تجنيس الأدب»، إلا أننا نجتهد الآن بالمسألة الدرامية، ويمكن القول في هذا الباب الآتي: إن أفق الدرامية يتّخذ مسارات متنوّعة ومختلفة باختلاف الوسائل الفنية ذاتها. بمعنى ليس بالضرورة أن تتطابق العناصر الدرامية كما في النصّ الدرامي على سبيل المثال، مع عناصر فنّ آخر مثل الرسم، وغيره من الفنون كالنحت… إلخ، وسيتم لاحقاً التطرّق إلى فنّ الرسم.

مما لا ريب فيه، أنّ اللوحة تعتمد اللون أساساً لها. لهذا، فإن الصراع اللونيّ سيكون السبب في إحداث القيمة الدرامية، فضلاً عن العناصر الأخرى. إلا أننا نشدّد على اللون بوصفه العنصر المميّز في اللوحة. إن قراءة اللوحة لونياً فضلاً عن الموضوع من: كثافة اللون، درجة تدرّجه، تضادّه مع الألوان الأخرى وحركة اللون ببلورة الأشكال، كل ذلك يساهم بدرجة كبيرة في خلق القيمة الدرامية. فإن سطوع اللون، واشتباكه مع الألوان الأخرى، يبرزان القيمة الدرامية وإن كانت اللوحة بورتريه أو حياة جامدة. إن تنشيط الدرامية في بنية اللوحة قد يتّخذ مساراً آخر يتعلق بكيفية عرضها على الجدار بحيث تشكّل مجموع اللوحات، وإن اختلفت في موضوعاتها، إلا أنها بتجاورها وتسلسل قراءتها معاً تُقرأ درامياً. بكلمة أخرى، إن التضادّ اللونيّ في سطح اللوحة، يكشف عن فضائها، إضافة إلى الموضوعات المختلفة أحياناً في اللوحة الواحدة، كما الحال مع اللوحات الكولاجية، إذ تتجلّى القيمة الدرامية، في ضوء ما يُكتشَف في اللوحة، وهي في جوهرها تطرح قلق الفنان، وقد يكون قلقاً ميتافيزيقياً، اجتماعياً، نفسياً، تاريخياً، أسطورياً… ومع ذلك، فإن اللوحة سؤال، ضمنيّ، متخفٍ وسط الألوان، وعلينا تفهّم السؤال، لِمَ طُرح؟ وماذا أُريدَ من طرحه؟ وبالتالي يتم استنطاق الألوان. باختصار، يتم خرق سطح اللوحة لفهمها، واكتشاف المعنى الخفيّ، والمقاصد غير المعلنة. إن تعمّقاً كهذا إنما يساهم في استدراج القيمة الدرامية، تلك التي ستؤطر كلّية التذوّق الجمالي، لا لفنّ من الفنون، ولا لأدب من الآداب، إنما لمجمل الأنشطة الجمالية الصرفة منها والتطبيقية. إن ذلك يمنح الآداب والفنون عمقاً مضافاً إلى ما هي عليه، بوصفنا نكشف عن سرّية القيمة الدرامية في أعماقها، لنزداد معرفة وتغلغلاً في الآداب الفنون.

ناقد وباحث عراقي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى