فصامٌ سعوديّ

جورج كعدي

تُلمس جليّاً وبقوّة الحال الفصاميّة المفروضة على المجتمع السعوديّ وأفراده، من سائر الفئات والطبقات والجذور يمنيّة وغيرها والانتماءات والمذاهب، بسبب ازدواجية الوجه وتضارب أحكام الشرع مع الواقع وتناقض العيش والفعل خاصّة بين الداخل السعوديّ والخارج والتضادّ بين مظاهر الاجتماع وتقاليده من ناحية وشلاّل الصورة المنهمر عبر الفضاء الإعلاميّ المفتوح ووسائل الاتصال والتواصل الحديثة من ناحية أخرى… فكيف لا يُصاب المجتمع السعوديّ، بل الفرد السعوديّ، حكماً بالحال الفصاميّة المشار إليها؟ وكيف لا يتبدّى الإنسان السعوديّ عامة مع استثناءات لدى أفراد سعوديين متنوّرين وعلى درجة عالية من الوعي، وهم كثر للناظر من الخارج أو من بعيد إنساناً فصاميّاً بامتياز، لوقوعه تحت وطأة المتناقضات التي أشرنا إليها والتي تحتاج إلى تفصيل.


معروفٌ لدى العالم أجمع أن السعوديّة محكومة بنظام ملكيّ عائليّ أوليغارشيّ ورأسماليّ متوحّش، ترفده ثروة نفطيّة تستأثر بها عائلة آل سعود وحاشيتها المنتفعة من «أمراء» ومقاولين كبار ورجال أعمال محظيّين ومقرّبين، ولا توزيع لهذه الثورة، أو حتى لفتاتها، على السعوديّين «العاديّين» الذين لا وظيفة لهم ولا حقوق بل عليهم واجب الطاعة والعمل إن وُجد والاكتفاء براتب محدود ليس محسوباً بين الرواتب المرتفعة في العالم، وليس لهذا «المواطن العاديّ» أدنى حقّ في الاعتراض أو الشكوى أو الرفض أو التظاهر، إنّما عليه القبول بواقعه والخضوع المزدوج، للسلطة السياسيّة الحاكمة من جهة، وللسلطة الدينيّة والشرعية المتشدّدة من جهة ثانية، فأحكام الشرع، الوهّابية المنبع والأصول، تحرّم أكثر بكثير ممّا تسمح، والدنيا كلّها تعرف كمّية المحرّمات في المجتمع السعوديّ، وفي مقدّمها الفنون الكبرى على أنواعها، من مسرح وسينما وموسيقى وتشكيل، بلوغاً إلى اللباس للجنسين تقريباً في حدود متفاوتة والنقاب أو البرقع المفروض على المرأة الممنوعة من قيادة السيارة ومن أمور أخرى عديدة تسلبها حرّيتها وكرامتها كفرد مكتمل الإنسانيّة… فضلاً عن منع الأديان والمذاهب الأخرى، غير الإسلاميّة بل غير السنية، من ممارسة طقوسها ومن امتلاك معابدها الخاصة… بلوغاً إلى منع الاختلاط في المدارس والجامعات والكثير من الأماكن العامة، حتى يخال زائر هذه البلاد أنه يعيش في ظلمة قرون وسطى أو بالأحرى قرون بدائية متخلّفة من تاريخ البشرية.

هذا في الداخل السعوديّ. أمّا في الخارج فأمر آخر، على النقيض تماماً. يتصرّف الفرد السعوديّ، إلى أي فئة أو طبقة انتمى، خارج بلاده كأنّه خرج لتوّه من سجن صحراويّ كبير مليء بالقيود والممنوعات والمحرّمات، فيفجّر كامل مكبوتاته مأكلاً ومشرباً وملبساً، والأهمّ جنساً ومجوناً وتهتّكاً، وتبذيراً جنونياً إن كان من فئة الحكّام والأمراء والمحظيّين والمتنعّمين بثروات الشعب ومحتكريها، أمّا الآخرون فلتبذيرهم حدود ضمن إمكاناتهم. بيد أن الجميع متساوون في التنفيس عن الكبت والحرمان داخل مملكة القهر والظلام وسوط المطاوع، كلٌّ على طريقته وتبعاً لقدراته. وبدءاً من هذا التناقض الشديد بين أسلوبي العيش في الداخل السعودي وخارجه، تتشكل الشخصيّة السعوديّة الفصاميّة، ذات الوجهين والنمطين والمعيارين «الخلقيّين» ديناً وممارسةً، فالإنسان السعوديّ الملتزم بأحكام الدين والشريعة وبالتحريم والتحليل والشعائر والتقاليد والعادات المحافظة إلى أقصى الحدود، هو نفسه غير المتقيّد بكلّ ما سبق حين يكون خارج بلده، سائحاً أو طالباً أو في رحلة عمل… فكيف لا يكون هذا المواطن السعوديّ المزدوج الوجه والقناع شخصيّة فصاميّة غير سويّة بامتياز؟!

نأتي ثانياً إلى الإعلام السعوديّ وهنا ذروة التناقض والتضارب والتضادّ بين مجتمع على هذا القدر من التشدّد الدينيّ والتزمّت الاجتماعيّ والتحريم والمنع الفنّي والأدبي مصادرة مئات العناوين في معرض الكتاب الأخير هذه السنة في الرياض أكبر برهان على التضييق والمصادرة الفكريّين ، وفضائيّات مموّلة من الحكم السعوديّ مباشرة، أو من نافذين في الداخل، وهي في أيّ حال غير ممنوعة وغير محرّمة لا قانوناً ولا شرعاً، بل يفاخر بها السعوديون من أعلى مسؤول إلى آخر مواطن، كما أنّها موجّهة أصلاً إلى المشاهد السعوديّ أولاً وتحديداً، عبر الإعلانات والسلع المروّج لها، بحيث لم نسمع يوماً أن مجموعة «إم بي سي» محرّمة مثلاً في السعودية أو صدرت في حقّها فتاوى تحريم مشاهدة، بل على العكس تعتبر «إم بي سي» بقنواتها المتنوّعة والمتعدّدة وإمكاناتها الضخمة «فخر الصناعة الإعلامية السعوديّة»، تماماً مثلما هي «العربيّة» كقناة إخبارية جميع مذيعاتها سافرات ولا واحدة منهن تضع حجاباً أو نقاباً أو برقعاً، مثلما هو مفروض على المرأة في السعودية!

نتساءل هنا باستغراب شديد: كيف تكون قنوات «إم بي سي» وسائر القنوات الفضائية العربيّة والأجنبيّة عبر فضاء البثّ المفتوح أولى لدى المتفرّج السعوديّ الذي يشاهد أفلاماً أميركيّة وهنديّة وعربيّة وتركيّة وسواها لا تخلو من السفور التام وبعض العري واللمسات والقبلات واختلاط الجنسين إلى الدرجة الحميمة، فضلاً عن أفلام الحركة والعنف وغيرها، ولا يكون ذلك متعارضاً مع تقاليد هذا المجتمع المقفل والمتشدّد والمتزمّت والصارم في تطبيق أحكام الشريعة الوهّابية والمطبّق إلى اليوم عقاب الجَلْد والرجم وقطع اليد، إلى ما هنالك من أساليب قرون الظلم والظلام؟! سؤال محيّر، مثير للعجب، إلى أقصى الحدود، وهنا أيضاً واحد من تمظهرات الفصام وعوارضه، بين رجال متعصّبين يؤدّون الصلاة خمساً في اليوم ويُطلق كثر منهم اللحية الأصوليّة أو السلفيّة ثم يجلس مساءً لمشاهدة أفلام عاطفيّة أو تشويقيّة أو مرعبة عبر شاشة التلفزيون؟ أهو الشخص نفسه أم نحن إزاء امرئ ذي شخصيّتين على نحو فصاميّ بيّن الملامح والتصرّفات؟! وماذا عن المرأة السعوديّة التي لا تخرج إلاّ بالنقاب وتُمنع من قيادة السيارة وتتماهى مساءً عبر شاشة التلفزيون مع النساء الأميركيّات أو الهنديّات أو التركيّات أو المصريّات الراقصات والكاشفات عن مفاتنهنّ؟! ألا تشتهي المرأة السعوديّة تلك صورة المرأة الأخرى، تلك الغربيّة و«المودرن»، السافرة والمتبرّجة والحرّة مع جسدها ومفاتنها؟! بلى، حتماً، تفعل وتتماهى، وإذ تسافر خارج السعوديّة تفجّر هذا المكبوت شراءً للملابس وأدوات التبرّج والأكسسوارات النسائية، فأين الحجاب أو النقاب أو البرقع في هذا الوضع؟ وأمام أيّ امرأة وأي وجه حقيقيّ نحن؟! مثلٌ آخر على الفصام الحادّ والفاقع.

ماذا أيضاً عن ألوف الشباب السعوديين الذين يسافرون إلى الولايات المتحدة أو أوروبا، أو حتى إلى لبنان ومصر وسواهما من الدول العربية الأقلّ تزمّتاً من السعودية، للتحصيل الجامعيّ فنرى كيف ينخرطون فوراً في هذه المجتمعات التي تميل إلى الحرية بنسب متفاوتة، خاصة الولايات المتحدة وأوروبا حيث تسود حريّة العلاقات، الجنسيّة بخاصة، وحيث الحريّة المطلقة مأكلاً ومشرباً وملبساً، فلا يبقى الشاب السعوديّ مميّزاً أو معروفاً إلاّ بلون بشرته… أو بقيامه بعمل إرهابيّ من تنظيم «القاعدة» أو سواها. وحين يعود هؤلاء الشبّان إلى السعودية يواجهون صعوبة شديدة في التأقلم مجدّداً مع تقاليد مجتمعهم المتخلّفة والبالية، فتضيع هويّتهم الفرديّة والجماعيّة، ويشعرون بالغربة… وبحالة الفصام عينها.

المجتمع السعوديّ نموذج فريد لحالات الفصام، الفرديّة والمجتمعيّة، ولعلّه المجتمع الوحيد على وجه الأرض يعاني فصاماً بهذه الحدّة، والمثل المناقض له هو المجتمع الإيرانيّ، الذي رغم محافظته وطابعه الدينيّ الغالب، لا نرى في تصرّفات أفراده عدم انسجام بين الداخل والخارج، ولا على مستوى الإعلام جميع المذيعات في المحطات الإيرانية محجّبات ، ولا على مستويات التحريم والمنع والرقابة. ففي إيران شخصيّة إنسانية منسجمة مع مبادئها وأخلاقيّاتها وتقاليدها، أمّا في السعودية فذروة التناقض وضياع الهوية والقيم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى