مختصر مفيد «الربيع العربي» والمختبر السوري وسرّ العثمانية

بالعودة إلى زلزال السنوات الخمس الذي عصف بالبلاد العربية، تظهر الحرب التي أشعلت سورية واشتعلت بها، التعبير الأكثر وضوحاً عن أبعاد ما جرى عربياً، والأشد هولاً وفتكاً والأبعد مدى. تبدو في السياسة المساحة الأشدّ وضوحاً عن القوى والتحالفات والمشاريع، فالكثير مما يُراد له أو يريد، أن يبقى مخفياً تضطره شدّة التصادم ومصيرية المواجهة إلى الكشف عن وجهه والتشمير عن زنوده والنزول إلى الميدان. ففي حرب سورية لم يبق مجال لقوى احتياط وقد صار كلّ شيء مكشوفاً. وصارت الحرب مساحة استيلاد نظام إقليمي جديد ونظام عالمي جديد. فما عاد محرجاً أن يظهر تنظيم «القاعدة» بفرعه في بلاد الشام «جبهة النصرة» حليفاً علنياً لـ«إسرائيل» والسعودية وتركيا، يقاتل كلّ منهم لمنحه دوراً إقليمياً شرعياً، ولا أن يظهر صانع خطط الاستخبارات الأميركية في الشرق الأوسط لهذا القرن، ومديرها السابق الجنرال ديفيد بتريوس منادياً بالاعتماد على «النصرة» .

لا يستقيم فهم ما عُرف بـ«الربيع العربي» إلا بتمحيص الحقائق والوقائع التي أفرزتها الحرب السورية، وإعادة فحص قابليتها للتعميم على سائر الساحات العربية التي عبر فيها الزلزال. وهذا سيوصلنا إلى اكتشاف عدم وجود مشروع أميركي إنما أهداف أميركية، تتلخص بتغيير توازنات الجغرافيا السياسية في المنطقة وإرساء معادلة إقليمية تعيد التوازن إلى ما كان عليه قبل صعود قوى محور المقاومة. وفي المقابل لا وجود بالتأكيد لمشروع سعودي، إنما لمطامح وأطماع وأحقاد سعودية، تؤسَّس على السعي إلى استعادة أمجاد الإمساك بالقرار العربي قبل أن تتضعضع الزعامة السعودية مع بدء انتصارات خيار المقاومة، وتراجع الهيمنة الأميركية، وتعطّل مفاعيل السطوة «الإسرائيلية»، وكذلك غياب مشروع «إسرائيلي» بقدر وجود تمنيات ورغبات «إسرائيلية» تتلخص برؤية انهيار الكيانات الوطنية وتدمير الجيوش الوطنية في المنطقة، والتخلص من كابوس حزب الله المتنامي والمتعاظم، ومن خطر تصاعد قوة حلف سورية ـ إيران ـ حزب الله في ظلّ العجز «الإسرائيلي» عن خوض الحرب وصناعة السلام.

كان الجميع يحتاجون إلى مشروع يشكّل الحامل الذي تتحقّق عبره الأهداف الأميركية والأطماع السعودية، وإذا تعذرت فلترتوِ الأحقاد على الأقل، وتتجسد فيه التمنيات والرغبات «الإسرائيلية». وحتى الآن، الواضح في تجربة سورية والمنطقة، أن المشروع الوحيد كان المشروع التركي القائم على حلم العثمانية الجديدة، كإطار افتراضي لإمبراطورية واحدة تعترف ظاهرياً بالكيانات المستقلة للدول في المنطقة، لكنها تقيم بينها رابطاً سرّياً بخضوعها لمرجعية واحدة ضمناً هي مرجعية السلطان العثماني. والأساس الناظم عقائدياً وسياسياً هي المرجعية الواحدة لتنظيم «الأخوان المسلمين» للتشكيلات التي أريدَ لها أن تتولّى الحكم في دول المنطقة. والمشروع القائم على حكم «الأخوان المسلمين» ذو جاذبية لكونه يقدّم تصالحاً مع الموروث الإسلامي الذي يشكّل العمق الثقافي للمنطقة الباحثة عن استقرار فكري بين الحداثة والأصالة، وهو ما تقدّمه التجربة التركية مثالاً يوحي بالقدرة على حلّه. فالحزب الحاكم في دولة علمانية إسلامي وعصري وحداثي وديمقراطي في آن، وصل ويحتفظ بالحكم عبر انتخابات حرّة ونزيهة، ونجح في إنعاش اقتصاد بلاده بالاعتماد على نظريات العلم الحديث، ويتباهي قادته بجمع لباسهم العصري مع اللباس التقليدي الإسلامي لزوجاتهم، ونجح بالحفاظ على عضوية حلف الأطلسي والتحدّث عن مصالح العالم الإسلامي، وإقامة علاقات دبلوماسية مع «إسرائيل» والتظاهر بالتمسّك بالحقوق الفلسطينية.

كان الجميع يدركون الحاجة إلى تركيا كعنوان لهذا المشروع المطمئن لتحقيق غايات وأهداف تنقصها، فوق غياب المشروع، الآلية لبلوغ أهدافها. فسورية التي يُراد تغييرها أميركياً كي تتغير جغرافيا المنطقة، ويراد سعودياً و«إسرائيلياً» تدميرها، كي تلبّى الأحقاد والتمنّيات إذا لم تتحقق الأطماع والتطلّعات، هي سورية التي تشكّل بوابة نجاح المشروع العثماني الجديد وفشله. وهي سورية التي تملك تركيا وحدها فرصة التوغل الجغرافي والديمغرافي والأمني والعسكري عند الضرورة فيها. وهي سورية صلة وصل إيران وروسيا والصين على البحر المتوسط. وهي سند المقاومة وظهرها. وهي نموذج الدولة الوطنية القوية والجيش الوطني القادر، والقرار السيادي الاستقلالي، ويكفي شطب هذه الميزات عن خريطة الشرق الأوسط من سورية، حتى يصبح مباحاً كلّ ما فيه من وجود لنسب أدنى وأقلّ لمفهوم الدولة الوطنية والجيش الوطني ومضامين السيادة والاستقلال .

في الحصيلة، أنه في الألعاب الاستراتيجية كما في الفيزياء، كلّ زجّ بقوّة يستدرج استنهاض قوة كامنة غير محسوبة، وقد تكفلت حرب سورية باستنهاض قوى ودول، ما كان متوقعاً انخراطها إلى حدّ خوضها حرب وجودها من البوابة السورية، كما حال الدورين الروسي والإيراني، ناهيك عن دور حزب الله وسياق تنامي كلّ من هذه الأدوار. وبعد سنوات من المواجهة والاستنزاف والصمود، ورمي كلّ أوراق القوة في أتون الاشتباك، وكشف المستور من التحالفات وقوى الاحتياط، وصولاً إلى ظهور تنظيم «القاعدة» كجيش احتياطيّ لأمن «إسرائيل» ومشاريع أميركا وخطط السعودية، تحوّل اتجاه الحرب، وبدأ الهجوم المعاكس وصارت النتائج المرتقبة سياقاً مرسوماً بوضوح، لمصلحة فشل الحلف الذي تقوده واشنطن منذ سنوات تحت مسمّى «الربيع العربي» .

المؤشر الذي يمكن القياس عليه قبل كلّ شيء هو الخطّ البياني للدور التركي، فهو صاحب المشروع، ومع سقوط الاندفاعة الأولى للأخونة والاستنجاد بالسعودية و«القاعدة» لتعويض الخلل، تهاوت حكومات «الأخوان المسلمين» في مصر وتونس، ورحل أمير قطر. ومع فشل السند الاحتياطي السعودي و«القاعدي»، صارت تركيا خارج الأجواء السورية بقوّة الطرد العكسية للحضور الروسي، وها هو الجيش السوري وللمرّة الأولى منذ سنوات يعود إلى تسلّم نقاط حدودية مع تركيا معلناً سقوط مشروع العثمانية الجديدة. وبسقوط المشروع تصير قضية النصر قضية زمن ليس إلّا.

ناصر قنديل

ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى