أميركا في ذكرى الاستقلال: مكابرة… ارتباك… وتصدّع في بنى مؤسسات الدولة
انتقل مركز ثقل الاهتمامات الشعبية والرسمية من تدهور الأوضاع الأمنية في العراق الى مواكبة قرارات المحكمة العليا التي سدّدت سلسلة ضربات متتالية إلى الرئيس باراك أوباما وسياساته، في ظلّ أجواء احتفالات ذكرى استقلال البلاد.
أثبت النظام الأميركي في صيغته الراهنة قدرته النسبية على التعامل بصعوبة مع التحديات الداخلية أما الخارجية فهي مسألة شائكة لا تدعو إلى الطمأنينة والارتياح بالنسبة إلى عامة المواطنين. في الشأن الداخلي برز بقوة صراع النفوذ بين السلطتين، التنفيذية والقضائية في أعقاب إقرار المحكمة العليا سلسلة أحكام قضائية مخالفة لتوجهات الرئيس أوباما وسياسات السلطة التنفيذية، رافقته نتائج استطلاعات للرأي متدنية بالنسبة إلى مكانة الرئيس الأميركي ومدى التأييد الشعبي له الذي شهد انخفاضاً حاداً لم تشهد المؤسسة الرئاسية مثيلاً له منذ سبعين عاماً.
يستعرض قسم التحليل آليات النظام الأميركي وركائزه القائمة على مبدأ الفصل بين السلطات وإرساء توازن بين أحجام نفوذها وتوصيف للتداعيات التي تهدّد لحمة النسيج الاجتماعي.
العراق
أعرب معهد الدراسات الحربية عن اعتقاده بأنّ تنظيم «داعش» يمضي في استكمال استعداداته للانقضاض على بغداد، لا سيما أنه «يملك قوة هائلة، فضلاً عن يسر التنبّؤ بخطواته المقبلة بعد كشفه عن عناصر أساسية من استراتيجيته… ولم يبلغ أوج إنجازاته في العراق بعد». ويضيف أنّ الهدف المقبل المرجح لـ«داعش» سينصبّ على ممرّ الحديثة الرمادي «للانقضاض على مقارات الحكومة المركزية في بغداد».
يلقى مركز السياسة الأمنية مسؤولية الفشل الأميركي في العراق على كاهل «الساسة وصنّاعها وليس على الأجهزة الاستخبارية… لا سيما أن سيلاً غنياً من المعلومات تمّ تداولها في الوسائل الإعلامية السنة الفائتة تشير الى انفجار وشيك للحرب الطائفية في العراق وتنامي قوة «داعش» في كلّ من العراق وسورية». ويرى أنه كان يتعيّن على إدارة الرئيس أوباما الاتعاظ بسيطرة «داعش» على مدينة الفلوجة ومناطق أخرى في محافظة الأنبار «واتخاذ الاجراءات الكفيلة لتعديل سياستها العراقية…». ويذكر المركز بشهادة مدير وكالة الاستخبارات العسكرية، مايكل فلين، أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، شباط 2014، محذراً من «سعي «داعش» إلى السيطرة على أراضٍ في العراق وسورية جنباً الى جنب مع احتفاظها بعدد من الملاذات الآمنة لنشاطاتها داخل سورية».
تصاعد وتيرة تصريحات قادة إقليم الحكم الذاتي في كردستان العراق كان محط اهتمام معهد هدسون، معرباً عن اعتقاده أن «التحدي الأكبر يكمن في القدرة على ترسيم الحدود التي لا تمتّ بصلة قوية لحق تقرير المصير أو حتى الثروة المادية، بل إلى التحولات الجيوستراتيجية وتموضع دول أكبر وأشدّ قوة». ويضيف أنه في هذا الجانب «تنفرد «إسرائيل» عن غيرها من اللاعبين الإقليميين والدولين، وفي مقدمها تركيا وإيران والولايات المتحدة، بامتلاك الرغبة في ترويج انفصال استقلال كردستان».
بينما يوضح معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى أنّ «تركيا تبدي استعدادها لرؤية دولة كردية على حدودها وظيفتها تشكيل منطقة عازلة… وشكل اندفاع «داعش» السريع ضغطاً مضاعفاً على تركيا لتطوير علاقاتها مع أكراد العراق وما يتطلبه ذلك من تراجع تركيا عن بعض الخطوط الحمراء التي رسمتها سابقاً وعدم تجاوز الأكراد لها…»، مضيفاً أنه لدى إقدام اقليم كردستان على إعلان استقلاله «ستكون أنقرة في الصف الاول لاستغلاله والاعتراف به… وباتت التطورات تشير بوضوح الى أن «داعش» تشكل خطراً داهماً أوسع على تركيا مقارنة بإعلان أكراد العراق الاستقلال».
إيران
ناشد معهد كارنيغي دول الاتحاد الأوروبي إجراء مراجعة لمواقفه من إيران «بالتعاون الوثيق مع الولايات المتحدة، وخارج نطاق سبل التعاون الراهنة بين فريقيهما للتفاوض… لا سيما أن دور دول الاتحاد حيال الملف الإيراني لا يعطى حقه من قبل الشعب الأميركي في حين يدخل عامل الكونغرس ليمارس دوراًً حاسماًًً في عدد من قرارات المقاطعة الأميركية… وتسخير نفوذه الجماعي لضمان الحصول على موافقة أميركية لتخفيف العقوبات لدى التوصل الى اتفاق شامل مع إيران أو ابتداع مسار جماعي جديد نحو إيران في حال فشل المفاوضات الجارية معها.»
مستقبل حلف الناتو
في تقويم نادر، طالب معهد كارنيغي دول حلف الناتو «مراجعة أولوياته» الاستراتيجية على ضوء ما أفرزته الأزمة الأوكرانية التي أثبتت أنّ «الحلف لم يوفر مبرّرات كافية لاستمرارية وجوده… بل على العكس فإنّ التباينات الواضحة في مواقف أعضاء الحلف حول خطورة تهديد روسيا قد تدفع بدول الحلف الى مزيد من التباعد، كما أثبتت بولندا خيبة أملها وشكوكها في استمرار تماسك الحلف». وحذر من تحوّل الحلف الى «صندوق حافظ للأدوات والمعدات يستخدم لمصلحة تحالف الراغبين متى أرادوا، ولن يستطيع الحفاظ على ديمومة تماسكه. إلاّ باستعادة أعضائه مفهوم مشترك لطبيعة التحديات والأخطار». ومما دلت عليه الأزمة الأوكرانية «تسليطها الضوء على ما ينبغي لأعضاء الحلف القيام به على وجه السرعة».
التحليل
يشبّ الفرد الأميركي منذ نعومة أظفاره متشبّعاً بنموذجية واستثنائية نظام بلاده السياسي، ويزجّ به في اتجاه أنه النظام الأمثل والأفضل في العالم، مرجعيته نصوص الدستور وفصل السلطات في ما بينها، من ناحية، وبينها وبين السلطة الدينية من ناحية ثانية، لما يتميّز عن نظام أسلافه في الإمبراطورية البريطانية واحتكاره المزايا والخصوصيات والتحكم في مقدرات الشعوب البشرية.
في ذكرى احتفال الولايات المتحدة بـ«استقلالها» عن أصولها الإمبراطورية وزهوها بنص دستوري يعطي مواطنيها الحق في إسقاط الحكومة التي تنتهك حرياتهم، برزت حديثاً مؤشرات تدلّ على تصدّع آليات الحكم والأجهزة المتعددة وتوارث التوازنات في ما بينها، بالتوازي مع تنامي مشاعر جماعية ضدّ استغلال الحكومة نفوذها للحدّ من الحريات المدنية المصونة بدلاً من تعزيزها وحمايتها. مؤشرات استطلاعات الرأي، التي ابتكرتها القوى النافذة في السلطة لتشريع تدخلها في الوقت الأنسب لخدمة مصالحها، تشير أخيراً بوتيرة ثابتة الى حالة الإحباط العامة من القادة والمؤسسات السياسية، وانحراف مؤسسة المحكمة العليا عن رسالتها في الانتصار لأولوية النصوص الدستورية على الممارسات المُخِلّة بالتوازن والاصطفاف الى جانب فريق ضدّ آخر، ما استدعى قوى كبيرة وفئات متضرّرة الى الاحتجاج والتظاهر باستمرار ضدّ توجهاتها المقيّدة للحريات.
في الجانب التقني البحت، أصدرت المحكمة العليا قرارات أربعة متتالية الأسبوع الفائت، أرضيتها المشتركة أنّ ادارة الرئيس أوباما «تجاوزت نطاق صلاحياتها الدستورية» وقوّضت مساحة الحرية ليس صوناً لنصوص الدستور كما تفترض مهمّتها ومبرّر وجودها، بل اصطفافاً إلى جانب القوى المناهضة لسياسات الإدارة الداخلية، أبرزها برنامج الرعاية الصحية الشامل أوباما ـ كير، ومصالح الشركات والمصالح الاقتصادية الضخمة. أيضاً، عززت قرارات المحكمة العليا جنوح القوى الاجتماعية المحافظة في توجيه غضبها وإحباطها السياسي نحو ما تصرّ على تسميته بـ «الهجرة غير الشرعية» لمواطني دول أميركا الوسطى واللاتينية الى الأراضي الأميركية، واحتجاز الناجين من عذاب الرحلة، صغاراً وكباراً من الجنسين، في معسكرات اعتقال لإذلالهم قبل إعادتهم قسراً الى المناطق الحدودية المشتركة مع المكسيك. في المقابل، سارع الرئيس أوباما، في ذكرى الاستقلال الى ترويج «تاريخ البلاد الغني كدولة مكوّنة من المهاجرين تمتثل لسلطة القانون…» التي تشكل إحدى ثوابت الخطاب الرسمي الأميركي، داخلياً وعالمياً.
تدلّ الاحتجاجات الشعبية على تنامي الشرخ الاجتماعي بجذوره السياسية والاقتصادية، ما يستدعي التساؤل حول ما إذا كان المجتمع الأميركي على أبواب انشقاق أوسع وتصاعد موجات الاحتجاج. المرجح أن المشهد الأميركي مقبل على تنامي وتيرة الاحتجاجات والتظاهرات يعززها تفاقم الفروق الاجتماعية والاقتصادية وتراجع مساحة الحريات وتنامي المعارضة للمتضرّرين من سطوة الأجهزة الأمنية التي لا تزال أسرار تدخلاتها في صغائر الحياة اليومية للمواطنين تتوارد باطراد. أوضاع وصفها أستاذ القانون في جامعة هارفارد، لورنس لَسيغ، بالقول: «يعتقد الأميركيون من انتماءات الطيف السياسي كافة أن النظام السياسي الأميركي محطم ومعطل. ما ينوف على 90 في المئة منا كمواطنين يرجح جذر الفشل الى دور المال الطاغي على السياسة والسياسيين». ويضيف محرّضاً المواطنين على التحرك «إنّ مراكز القوى في واشنطن معطوبة ولن تبادر إلى إصلاح نفسها يتعيّن على المواطنين اتخاذ مبادرات» لوضح حدّ لفساد رأس المال والسياسيين.
تنوّعت المساهمات والتحقيقات الساعية إلى إماطة اللثام عن آليات نظام الحكم الأميركي. قلة منها لامست جوهر النظام وتركيبته والغوص في القوانين الاجتماعية والتاريخية الناظمة، ولجأ الجزء الأكبر منها الى إطلاق الأحكام الجاهزة والمعلبة طمعاً في التغني بمحاسن النظام مقارة بالنظم الأخرى، لا سيما في عدد من الدول النامية وضمنها الدول العربية، في حين تنعدم أرضية المقارنة العلمية بين نظم معظمها جيء به لأداء وظيفة أو جملة وظائف محدّدة خدمة للنظام السائد ومفاضلة النمط الغربي والأميركي تحديداً.
بجرعة واقعية وموضوعية تدعمهما دقة السرد والتحليل، نسلط الضوء للتعرف نقدياً إلى كنه الآليات والعلاقات الناظمة بين المواطنين الأميركيين والسلطة السياسية وتقديمه إلى الجمهور بمقاربات واقعية لما أضحى ملموساً لديه من اتضاح الشرخ الفاصل بين الدعاية والواقع.
سلطات حكومية محدودة فصل بين السلطات وسيادة مشتركة
تقف تركيبة النظام الأميركي على دعامة «فصل» السلطات بعضها عن بعضها الآخر وتعزيز مبدأ الحكم بالتوافق والشراكة بين المكوّنات الثلاثة: التنفيذية الرئاسة والتشريعية الكونغرس بمجلسيه والقضاء ممثلاً بالمحكمة العليا ، درءاً لاحتكار السلطة من قبل إحداها على حساب الأخريين. مسألة السيادة «الوطنية والقومية» هي ايضاً مسألة مشتركة بين الحكومة المركزية وسلطات الولايات المحلية والشعب، تم التوصل الى صوغها بعد صراع بين التجربة والخطأ استمر لنحو 15 عاما قبل رسوّ الاختيار على الصيغة الراهنة.
صيغة الحكم الأولى أضحت تعرف بمجلس «الكونغرس القارّي» الذي التأم يوم 5 أيلول 1774 وانتخب بيتون راندولف رئيساً له وبات الرئيس الأول للاتحاد الأميركي. ورغم اضطلاعه بالسياسة الخارجية وصلاحيات شن الحروب، إلا أن سلطته الحقيقية كانت محدودة الطابع نظراً إلى طبيعة تكوين المجلس كإطار جامع لـ«دول ولايات سيادية» تحدّ من سلطاته إلاّ إذا توصلت الى إجماع في ما بينها.
مع نشوب الحروب وامتدادها في تلك الفترة أثبتت صيغة «الكونغرس القارّي» عن قصورها وعمق مواطن ضعفها، ما استدعى «المسؤولين» استبدالها بنظام يحتكم الى إعلان مواد كونفدرالية ورسم حدود السلطات المتاحة في أيدي الحكومة المركزية، مقابل إقراره بمبدأ السيادة التامة للولايات المحلية على أراضيها واستمر العمل بتلك الصيغة نحو عقد من الزمن بين 1779 و 1788.
عقب اكتشاف مواطن ضعف بنيوية في تلك الصيغة، تم التوصل الى طرح مشروع دستور الذي أضحى بعد المصادقة عليه دستوراً معتمداً حتى الزمن الراهن. بيد أن ذلك لم يبدد مخاوف الولايات المحلية من تمركز السلطات الحقيقية في يد الحكومة الفيدرالية، الى أن تم التوصل الى وضع بعض الكوابح القانونية في النص، وبمجموعها أرست أرضية التوترات وتعارض الصلاحيات التي نشهدها راهناً بين السلطات المركزية والمحلية.
بين تلك الكوابح أضيف بند على الدستور يقر بسيادة المواطنين/المحكومين مقارنة بالصيغ السابقة التي أرست مبدأ السيادة لسلطات الولايات المحلية، عزّزتها فقرة افتتاحية الدستور التي تنص على «نحن أفراد الشعب الأميركي …» أثارت جدالاً في مراكز القوى إذ اعتبرت بأنها تقوض نطاق نفوذها. للدلالة قال أحد «الأباء المؤسسين» باتريك هنري، تندراً بتلك الافتتاحية: «ماذا تعني نحن الشعب في الديباجة؟ الصيغة التي نحن في صددها هي اتحاد كونفدرالي بين الولايات». وشاطره الرئيس المقبل للبلاد، صموئيل آدامز، الرأي قائلاً: «أجد نفسي أمام عثرة منذ البداية. نحن عبارة عن اتحاد كونفدرالي بين ولايات».
بناء على ذلك، أرسيت قواعد النظام السياسي على أركان توافقية بين سلطات توزعت على هيئات عدة على خلفية الاعتقاد السائد آنذاك بأنها الصيغة الأمثل لحماية حقوق الشعب والولايات، مع الأخذ في الاعتبار أنّه لا يشكل صيغة كفوءة وفاعلة لنظام الحكم، بل يحجم نفوذ السلطات المركزية من مراكمة سلطات أخرى.
نظراً الى صيغة التوازنات المنشودة بين السلطات المختلفة نجد الآتي:
الحكومة الفيدرالية تستمدّ سلطاتها من الدستور
الرئيس يطبق القوانين الناظمة ويمارس السياسة الخارجية الى جانب موقعه كقائد أعلى للقوات المسلحة
مجلس النواب يتحكم في إقرار الموازنات ومنوط به التقدم بموازنة مقترحة وفرض الضرائب
مجلس الشيوخ الذي يعدّ الممثل الأول للولايات أضحى يمارس دوره كمجلس تشريعي أعلى، تتضمن صلاحياته إقرار القوانين والمصادقة عليها
المحكمة العليا تقتصر وظيفتها على إضفاء التفسير الدستوري على القرارات والإجراءات والتيقن من امتثالها لنصوصه.
سلطة الولايات المحلية وصلاحيات الشعب
تشمل الصلاحيات الفردية ممارسة حق الانتخابات لاختيار ممثليهم في مستويات الحكم المختلفة: قومياً ومحلياً ومناطقياً، ورد ذكرها نصاً صريحاً في الدستور وإعلان حقوق المواطنين مواد التعديل الدستورية 1 الى 10 ، تشمل حريات العبادة والتجمهر والتعبير واقتناء الأسلحة، وتحرّم إيواء الجنود الهاربين إبان زمن السلم، والحصانة ضد التفتيش الشخصي، وحقوق المتهمين لإجراءات محاكمة عادلة بحضور وكيل قانوني ومحاكمة أمام هيئة محلفين، وحظر العقوبات المفرطة، والإقرار بأن الصلاحيات الأخرى كافة غير المنصوص عليها لمصلحة الحكومة الفيدرالية أو مجالس الولايات المحلية هي ملك الشعب.
تجدر الإشارة الى أن في إعلان الاستقلال ونصوص الدستور الأميركي إقراراً بأن «السيادة هي في يد الشعب في نهاية المطاف، وبأن الحكومات تستمد سلطاتها من موافقة المحكومين. وأينما نجد نظام الحكم مهدّداً الغايات المقصودة من حق الشعب النهوض لتغييره أو إزاحته وتنصيب حكومة جديدة».
أعيدت المصادقة على هذا النص من قبل المحكمة العليا عام 2008 أثناء البتّ في قضية مرفوعة ضد السلطات المحلية في واشنطن العاصمة، إذ أكدت العليا على «حق الشعب اقتناء السلاح كأحد عناصر الدستور المهمّة بحكم أنه أوفر قدرة لمقاومة الاستبداد». نظرياً، توفر النصوص الحقوقية للشعب الأميركي التمتع بصلاحيات غير متوافرة في عدد من الدول والنظم الأخرى، ويتم استحداث النص وإدخاله في الخطاب اليومي كوسيلة تذكر الأميركيين بـ«تفوق» نظامهم السياسي ودلالة على فشل المساعي المتتالية للهيئات الحكومية للحدّ من انتشار السلاح الفردي بين أيدي المواطنين الأميركيين.
في هذا السياق، تنبغي الإشارة الى سعي الحكومة المركزية، خاصة السلطة التنفيذية ممثلة بالرئاسة، بثبات وإصرار على تركيز السلطات في يدها، ومضت قُدماً من دون استشارة السلطة التشريعية، بل حاولت الاستيلاء على صلاحيات تخص الحكومات المحلية حصراً، الى جانب جهودها لتقييد مجال الحريات العامة. ما أثار غضب قواعد شعبية متعددة.
أوباما في مواجهة المحكمة العليا
تلجأ السلطات التنفيذية، المركزية والمحلية في الولايات، إلى الاحتكام إلى المحكة العليا للبتّ في مسألة استقواء السلطة المركزية وتعدّيها على صلاحيات الآخرين، اتساقاً مع نصوص الدستور المركزي. يشار الى أن تسليم الحزب الديمقراطي بسطوة اليمين وأقطابه من المحافظين الجدد على السلطة التشريعية، إبان فترة الرئيس جورج بوش الإبن بشكل خاص، أخلّ بمعادلة التوازن المرجوة وأدى لاحقاً الى إصدار المحكمة العليا عدداً من القوانين بعيدة المدى المناهضة للرئيس أوباما وحزبه، رغم دعمه وترشيحه قاضيين من أعضائها خلال ولايته الرئاسية. ومنذ مطلع عام 2009 تعرضت إدارة الرئيس أوباما الى ما لا يقل عن عشرين قرار هزيمة على أيدي المحكمة العليا، وفقاً لما ذكره السيناتور عن تيار حزب الشاي، تيد كروز. ويقول كروز: «إن صافي خسارة الرئيس أوباما من معدل قرارات العليا بالإجماع هو ضعف المعدل تقريباً لما تكبده سلفه الرئيس بوش وما يعادل 25 في المئة مما لحق بالرئيس الأسبق بيل كلينتون».
امتداداً لهذا السياق، أصدرت المحكمة العليا قراراً بالإجماع، 9 مقابل 0، اعتبرت أن الرئيس أوباما تجاوز حدود صلاحياته الدستورية لدى لجوئه إلى تعيين ثلاثة مسؤولين خلال فترة إجازة الكونغرس ليتفادى خضوعه للابتزاز السياسي. أهمية القرار تكمن أيضاً في تأييده حق مجلس الشيوخ الدستوري التصويت على مرشحين لمناصب حكومية رفيعة.
وأتبعت قرارها بصدمة أخرى للحكومة والأجهزة الأمنية إذ صوتت بالإجماع أيضاً على قرار يحد من صلاحيات الحكومة وأجهزتها تفتيش الهواتف الشخصية من دون توافر أمر قضائي مسبق يسمح بذلك نصاً، وفشل إدارة الرئيس أوباما إنقاذ مشروعها للسطو على صلاحيات إضافية تقيّد الحريات الفردية. واستندت المحكمة الى نص مادة التعديل الدستوري الرابعة التي تحصّن المواطنين من تلك الممارسات التفتيش من دون إجازة قضائية.
كما قضت المحكمة العليا ببطلان جهود الإدارة الأميركية إلزام العمال بعضوية نقابتهم وتسديد رسوم العضوية لدى اعتراضهم على توجهاتها السياسية وقضت أيضاً بحق المواطنين المناوئين للإجهاض والتجمهر والاحتجاج على مقربة من المستوصفات الطبية التي يتم الاجهاض تحت سقفها بذريعة التمتع بحرية الرأي.
بين القرارات المثيرة للجدال صادقت المحكمة العليا على حق الشركات والمؤسسات الخاصة برفض ضم وسائل منع الحمل كجزء من برنامج الرعاية الصحية، كما ينص عليه «أوباما ـ كير» بدافع أنها تتناقض مع المعتقدات الدينية لأصحاب تلك المصالح.
في المسائل الداخلية الصرفة، اصطفت العليا بقراراتها الى جانب السلطات المحلية في الولايات تعزيزاً لسيادتها على قراراتها لدى تعارضها مع القرارات المركزية، ما أعاد عقارب الساعة الى الوراء بضعة عقود في مسألة صلاحيات الدولة المركزية لتطبيق بعض مواد قانون التصويت، مثلاً، وأقرت بمعارضته النصوص الدستورية.
انحسار هيبة الحكومة المركزية
تسارع وتيرة قرارات المحكمة العليا ومناهضتها توجهات الإدارة الأميركية الراهنة قوّض مقام ووقار الأداء الحكومي وألحق أضراراً جمة بسمعة الرئيس أوباما تحديداً، ما ساهم في انخفاض معدلات شعبيته في استطلاعات الرأي التي أجريت حديثاً واعتبره أحدها «أسوأ رئيس أميركي على مدى 70 عاماً».
تتالت الأخبار السيئة تباعاً للرئيس أوباما مع إصدار يومية «انفستر بيزنس ديلي» نتائج استطلاع أشرفت عليه يفيد بأن 59 في المئة من الأميركيين يحمّلون الرئيس أوباما مسؤولية أزمة تفاقم «الهجرة غير الشرعية» إلى الاراضي الأميركية و56 في المئة يحمّلونه مسؤولية تدهور الأوضاع الأمنية في العراق نتيجة قرار الانسحاب و 65 في المئة منهم يعتقدون أن إدارته تجهد لإخفاء الممارسات والتدابير الخاطئة التي أقدمت عليها مصلحة الضرائب باستهدافها منظمات سياسية مناوئة لها في الرأي.
إمعاناً في إحراج الرئيس أوباما والأداء الحكومي العام، أصدر معهد غالوب المشهور نتائج استطلاعات للرأي منتصف الأسبوع تشير الى أن 79 في المئة من الشعب الأميركي أعربوا عن اعتقادهم بأن الفساد يستشري في جميع الأجهزة الحكومية، مسجلاً ارتفاعاً بنحو 20 نقطة عن الآراء نفسها المستطلعة عام 2006، ما يجعل الولايات تحتلّ مرتبة مرتفعة بين الدول المشهورة بالفساد. بالمقارنة، أفادت الاستطلاعات أن نسبة المؤيدين للرئيس لم تتعدّ 29 في المئة، بينما بلغت 36 في المئة في مطلع ولاية الرئيس أوباما. أما الكونغرس فلم يحظَ إلاّ بنسبة 7 في المئة من الرضى الشعبي، بينما حصدت المحكمة العليا نسبة 30 في المئة، وهي الأعلى بين المؤسسات الرسمية كافة.
ترافقت نتائج الاستطلاعات مع انخفاض نسبة الأميركيين الذين يقرون بمركزية بلادهم في مجال الحريات الفردية المتاحة بين الشعوب الأخرى، وانخفض معدل الزهو بالامتيازات بينهم الى نسبة 79 في المئة عام 2013 مقارنة مع 91 في المئة عام 2006 وفق إحصائيات معهد غالوب سالف الذكر.
تداعيات الانحسار على المشهد الأميركي
النظرة الموضوعية إلى ما يمور تحت سطح التحوّلات الأميركية تؤشر إلى هشاشة النسيج الاجتماعي بمعدلات مقلقة تفوق توقعات الكثيرين وتتمثل عوارضها في: انخفاض حاد في معدلات مستوى المعيشة تنامي القلق من تقلص مساحة الحريات فضلاً عن تصاعد معدلات الإحساس الشعبي بفساد الأجهزة الحكومية التي تتآكل مكانتها باطراد.
في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة الى تصاعد موجة الاحتجاجات لاسيما التي شهدتها ولاية كاليفورنيا حديثاً بإقدام نحو 200 مواطن على التعرض بأجسادهم لمنع سير ثلاث حافلات كانت تنقل «مهاجرين غير شرعيين» والإلقاء بهم على الجانب الآخر من الحدود المشتركة مع المكسيك، تعبيراً عن مشاعر الإحباط التي تنتاب الطبقة الوسطى في المجتمع من الأولويات المقلوبة للفئة السياسية مذكراً بحادثة مربي البقر «بندي» في ولاية نيفادا وتصدي مسلحين من مؤيديه الى ممثلي الحكومة المركزية فضلاً عن توالي معلومات تفيد بتشكيل ميليشيات خصوصاً من سكان الولايات الجنوبية، تكساس وأريزونا، تجوب المناطق الحدودية المشتركة بحثاً عن الموجات البشرية من»المهاجرين غير الشرعيين.»
تصدّع النسيج الاجتماعي، على ما تدلّ التجارب التاريخية، لا يوقف تدهوره إلاّ خطوات وتدابير تراجعية تبادر إليها الحكومات المركزية أما تجاهل الأمر فسيؤدي الى تصاعد الاحتجاجات وانزلاق الأوضاع من سيّئ الى أسوأ كما دلت تجربة القيصر الروسي نيقولاس الثاني وسواه.
السؤال الذي يتبادر الى الذهن هو: هل سيبتعد الرئيس أوباما عن بعض الممارسات التي جلبت له توبيخاً من المحكمة العليا وانهياراً في معدلات شعبيته بين المواطنين؟ الإجابة بالنفي هي الأكثر ترجيحاً، لا سيما أنه أعلن عن نيته الإقدام على تعديل قانون الهجرة من جانب أحادي، في موازاة تدابير أخرى وعد بها، مع إدراكه عدم تقبّل الشعب لها، ما سوف يؤدي الى تغذية مسببات الاحتجاج.
يصعب الجزم بالمدى المرئي الذي يمكن الرئيس أوباما المضيّ نحوه، بيد أن الثابت هو عقم المضي في المسار الراهن من دون المجازفة بتداعيات سلبية تهدم البنية الحكومية والمجتمع عامة.