كوثر البشراوي لـ«البناء»: ديني هو المقاومة… والكرامة لا تُجزّأ
حاورتها: عبير حمدان
يصعب تأطير مسيرة كوثر البشراوي الإعلامية في حوار صحافي مهما كان شاملاً، فهي تملك شغفاً بهذا المعترك قلّ نظيره على امتداد الخطّ المهني الذي طاولته النكسات والهفوات بشكل بارز، ليصبح انبعاثاً هجيناً يجتاح كلّ بيت من المحيط إلى الخليج ويخترق العقول الهشّة، ليجد طابوراً من المصفقين «لأبطال الواجهة»، كما تصفهم البشراوي، ولو على حساب المعتقد والوطن.
في حضرة القابضة على جمر الموقف الحرّ، يصبح السؤال مادة فيها الكثير من الحذر، كونها تملك زمام قراءة التاريخ بوعي وإدراك قد لا يدركهما الكثيرون، هي المؤمنة بالمقاومة إلى ما بعد الحدود العربية التي ساهمت الجاهلية التي تسكن النفوس في تكريسها، لتنبت الطحالب البشرية القادرة على تغليب السيف على العقل تحت مسمّيات ثورية.
بدأ مشوارها الإعلامي، أو طريق الشقاء والشقاوة كما تحبّ أن تسمّيه، في التلفزة والإذاعة التونسيتين عام 1985، إلى أن اختيرت من قبل إدارة التلفزة مع اثنين من زملائها ليكونوا ضمن «الإعارة المهنية»، مبعوثين للمشاركة في تأسيس أول مشروع قناة عربية فضائية متعدّدة الجنسيات «panaArab» في لندن، وهي «mbc». هناك، استمر برنامجها «السهرة المفتوحة» لعشر سنوات، جابت فيه الإعلامية الرحّالة معظم الدول العربية، مصحوبة بعشق يكبر ويكبر حدّ التخمة للمهنة والأمة وقضاياها… عام 2000، وخلال انتفاضة الأقصى، لم تجد البشراوي خياراً سوى الاستقالة حين طالبت قوانين الإعلام البريطانية كل القنوات على أراضيها الالتزام بمبدأ «عدم وصف الصهاينة بالعدوّ»، وهذا ما يتعارض بشكل قاطع مع مبادئها وانتمائها. لتحطّ رحالها في قناة «الجزيرة» عبر برنامج «إشراقات»، حيث امتد فيه اهتمامها إلى دول كباكستان وتركيا وإيران. لتعود وتستقيل من القناة رفضاً للارتهان.
ثم شاركت كوثر البشراوي في تأسيس قناة «العربية»، وشرطها الوحيد كما معظم من انضم إلى القناة في البدايات، ألا يُفتح أيّ رابط أو بثّ مباشر مع أيّ ضيف صهيونيّ… وهذا ما تعهّدت به الإدارة العامة في حينه. وبعد أقل من سنتين، تراجعت الإدارة عن تعهّدها ليطلّ الصهاينة على شاشتها بِاسم الرأي والرأي الآخر… لتغادر البشراوي إلى فضاء يشبهها، فكان لبنان ميدان حضورها خلال عدوان تموز 2006 كشاهدة ومواكِبة لأيام العدوان لحساب قناة «الحوار» التي تتخذ من لندن مقراً لها.
تقول «أم يوسف»: عشت المواجهة بين المقاومة والعدوّ الصهيوني بشكل حيّ ومباشر خلال حرب تموز، ما زادني إصراراً على التمسّك بقضاياي المحقّة والمحورية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية والوحدة العربية.
الثورة التي تنبع من الذات البشرية القادرة على تحديد هوية العدو بوضوح وتجرد لا يمكن إخمادها، هكذا هي «أم يوسف» التي لا تخشى تهديدات القتل طالما أنها تنطق بالحق والحقيقة. ولأنها تحمل على عاتقها مسؤولية احترام الإنسان لنفسه ولغيره ممن قد يختلفون معه، تسعى إلى فتح عدد من الملفات التي تغيب عن وسائل الإعلام الغارقة في حلقات الصراخ والشتائم العشوائية من خلال برنامجها «جدل عربي»، الذي تنتجه وتبثّه قناة «المنار» هذا المساء في محاولة للوصول إلى صيغة حوار بين طرفَي النزاع في العالم العربي، كي لا ننسى نحن وأجيالنا المقبلة أن عدوّنا الوحيد هو الكيان الصهيوني.
«جدل عربي» للجمهور العربي
«البناء» التقت الإعلامية المميزة كوثر البشراوي، ويبدأ الحوار معها من فضاء الجدل العربي، ونحن نعرف عبارة «جدل بيزنطي» وكيف يمكن لأيّ جدل أن يشكّل فرقاً، لتقول البشراوي: الإشارة إلى الجدل البيزنطي ملاحظة مهمة تستحق البحث عن أصول هذا المصطلح، ولكن باعتقادي، هو الجدل الذي لا نهاية له والعبثي الذي لا يصل إلى نتيجة. برأيي، لا شيء عبثياً، وماهية الجدل أن نتكلم ولو كنا مختلفين في الرأي علّنا نصل إلى خلاصة مفيدة لنا جميعاً. «جدل عربي» يأتي بعد خمس سنوات من الفوضى المحزنة التي نعيش فيها، وأعتقد أننا جميعاً مشاركون فيها من حيث نعلم أو لا نعلم. كلنا شاركنا في ما يحصل في العالم العربي. الساكت والذي صرخ بغضب ومن لم يكظم غضبه شاركوا فيه. واليوم، وبعد خمس سنوات ماذا بعد؟ إذا استمررنا على هذا المنوال حيث الزميل يشتم زميله والجار يقتل جاره وحتى الأطفال يذبحون بعضهم. يخبرني أحد الأصدقاء في سورية أنه سمع ضجيج اللعب بالكرة بين فتيان في حارته، ففرح ظناً منه أن هناك مساحة للعب وعودة الحياة بعد كل هذا التقاتل، لكنه حين أطل من نافذته ليراهم، وجد أن الكرة ليست إلا رأس أحد أبناء الحيّ، والآخرون يتقاذفونها في ما بينهم. هذا المثال ألا يتطلب منّا التكلم على الأقل؟ ربما أملك القدرة للصمود مئة سنة، وفي المقابل من هو على الطرف الآخر يمكنه الشتم لمئة سنة، وما هي المحصلة؟ هل نريد لأبنائنا أن يكملوا الطريق على هذا النحو؟ النقطة المحورية تكمن في أن نتكلم مع بعضنا وأن نصغي لبعضنا بدل أن تبقى الصورة العامة للإعلام مجرد جبهات تتناحر من دون أي معايير مهنية وأخلاقية. لذلك، كان لا بدّ من بداية. من هنا ينطلق برنامج «جدل عربي»، وهو برنامج عربي وليس برنامجاً لبنانياً. في هذا البرنامج أتوجه إلى كلّ مُشاهد عربي سواء كان معي أو ضدي، وأدعوه إلى الاصغاء. فمن حقي أن أحكي وأترك لخصمي مساحة للحكي على قاعدة حرية التعبير البعيدة عن الاتهامات والإهانات التي تسود الفضاء الاعلامي اليوم. ومن مهام البرنامج الصعبة في هذا الزمن المخزي الذي نعيشه البحث عن المواضيع التي تُشكّل قاسماً مشتركاً بين الجميع.
وتضيف في الإطار نفسه: لنضع موضوع سورية جانباً، وموضوع اليمن أيضاً، وأيّ موضوع قد يخلق نزاعاً لا نهاية لأفقه جانباً. ولنبحث عن القواسم المشتركة بيننا. أظن أنها كثيرة، ثم بعد ذلك يتسع البيكار ونفتح على المواضيع الحساسة. إذاً، برنامجي غير فتنوي، وهو يخاطب الأطراف كافة. من حقي أن أنتمي إلى المقاومة، ولكن ليس من حقي أن أدعو إلى قتل خصمي. حقي أن أنتمي إلى منظومة معيّنة، ولكن ليس من حقي أن أشمت حين أن أرى خصومي حتى الذين يدعون إلى قتلنا جثثاً مرمية في الطرقات. وأنا أنتمي إلى منظومة لا تفرح وتبتهج حين ترى المغرّر بهم أو الحمقى أو الجهلة يذبحونك. أنا أنتمي إلى منظومة لم يجرؤ أحد فيها أن يفتي بكلّ هذا الدم المراق. في الميدان بحث آخر، فحين تأتي لتقتلني يجب أن أدافع عن نفسي وعن أمتي، لكن هل خرج أي أحد من هذه المنظومة بتصريح يدعو إلى إلغاء الآخرين؟ وهل صدرت أيّ فتوى ولو لمرة واحدة، تدعو إلى إبادة مذهب أو جماعة أو دين مغاير لها؟ أبداً، لا شيء من هذا القبيل ولن يكون. إذاً، فلنعد إلى بعض العقل.
«المنار»
لكن، لماذا على شاشة «المنار» وفي هذا التوقيت تحديداً؟ تأخذنا البشراوي في إجابتها إلى مكان أكثر تشعّباً وعمقاً فتقول: لنتكلم بشكل مباشر وواضح. إذا كنت تشيرين إلى السعودية، فأؤكد لك أن الخصومة مع السعودية لا تجعل منها عدوّاً للأمة. نحن لدينا خلاف مع الفكر الوهابي، وهذا الفكر هو عدوّ الإنسانية وليس عدواً للعرب وللمذاهب الأخرى كالمذهب المالكي الذي أعرفه جيداً، أو المدارس الصوفية التي عشت فيها. لا بل أن الفكر الوهابي هو عدوّ العقل والإنسان الذي كرّمه الله. هو مثل النازية والصهيونية وموسوليني وكل الحالات الشاذة في التاريخ. الحالة الوهابية ليست جديدة في التاريخ، اسمهم «داعش» الآن، ولكن هناك من هم مثلهم وكانوا قبلهم، وما نراه اليوم منهم حصل في زمن عمر الخيام والمغول. إذاً، لا يخلو قرن من مأساة كهذه. تاريخنا العربي كلّه مآسٍ ويكسر الظهر، لكن من حظّ جيلي وجيلك السيء أننا عشنا ذروة قبح التاريخ، لأنها قبلاً كانت محصورة في سورية والعراق… بغداد وأصفهان في المصطلحات القديمة للجغرافيا القديمة، الآن يفتي بكِ السوري يقتلونك في لندن، يفتي بك التونسي يقتلونك في سورية، التونسي يذبح في سورية، السعودي يذبح في الليبي، نحن اليوم نتكلم عن إرهاب عابر للقارات لم يشهده التاريخ من قبل. لكن يجب أن نبحث عن نقطة نبدأ منها.
نحن أعداء أنفسنا
مما تقدّم، نسأل البشراوي عن سبب التصاق هذا الإرهاب بالتاريخ العربي وتمكّنه من عبور القارات بهذا الشكل البشع، ولماذا لا نملك المقدرة على التغيير؟ فتشير إلى أننا أعداء لأنفسنا في الدرجة الأولى، قائلة: هذا موضوع ثانٍ، وأنت هنا تأخذينني إلى التاريخ، وتحديداً تاريخ صناعة العدو. وهناك حلقة سنتكلم فيها عن صناعة العدو. لأن الأميركي يخطّط بعد خمسين سنة من سيكون العدو. بمعنى أنه يخطّط للآتي ويرسم ملامح آتية. نحن لدينا عدوّ جاهز غير نائم، قد يأخذ قيلولة لكنه ليس نائماً بالكامل، نحن لا نخطّط لصناعة عدو لأنه عنصر موجود في داخلنا. أولاً نحن أعداء أنفسنا وثانياً هنيئاً لـ«إسرائيل» بنا، هنيئاً للصهاينة بأعداء مثل العرب جاهزين ليذبحوا بعضهم ويقتلوا بعضهم بأموالهم وهي تتفرج عليهم، يقولون مؤامرة… هنيئاً لأهل المؤامرة، لمجتمع مستعد القيام بمهمة المتآمرين نيابة عنهم، فالمال مالنا والأبناء أبناؤنا والسلاح سلاحنا ونحن وقوده وهذا واقع حقيقي، التاريخ المكتوب مزوّر، وصمتنا ليس صادقاً وحين نتكلم نتقيأ ما لا نجرؤ أن نقوله قولاً واضحاً. كل نقاط الاختلاف بيننا لا نأتي على ذكرها في مرحلة الهدوء والسلم المصطنعين، فإذا كنا اليوم نمرّ بمرحلة من السلام نعيش كذبة التعايش الهشة أساساً. هكذا هو التاريخ كله، هكذا هو عالمنا العربي منذ القِدم. لماذا لم يكتب التاريخ في لبنان كما هو فعلاً؟ وهل تظنين أن الوضع يختلف في العالم العربي؟ كل ما كُتب وسمّوه تاريخاً كتبه المنتصر، والمنتصر على طريقة «داعش»، يبدو أنّ كلّ منتصري العالم العربي قد حققوا انتصاراتهم بقطع الأعناق بالسيوف، وكتبوها على هذا النحو. لا منتصر يحترم نفسه إلا من رحم ربك وهذا يحتاج إلى حلقة طويلة وتفتيش بشكل جدّي ومضنٍ عمّن رحم ربك. الجاهلية لم تمت، نحن ربما هدمنا أصناماً لكننا لم نهدم ذواتنا التي تعبد العفن… أقولها بصراحة. ولاحظي، لمجرد أن نختلف، تخرج لغة لا علاقة للدين فيها، ولا للعقل ولا لشهادات الدكتوراه والوعي والثقافة فيها. لا دخل للمكان والزمان في ما نخفيه وقد لا نعيه.
لكن، هل ترى البشرواي أننا أسرى لمنهجية تعمل على تدمير فكرة المقاومة منذ انتصاراها عام 2000 وهناك من يجاريها؟ تجيب: بالفعل، ولكن هذا الخطّ الممنهج علامَ يتكل مبتكروه؟ هم يتّكلون بكل بساطة على دراستهم لنا تاريخياً. بمعنى أن هناك دراسة من قبلهم للإنسان العربي نفسياً وفكرياً وتاريخياً، لرؤية ردّ فعله ثم العمل على هذا الأساس، وقد نجحوا في ذلك. وأنا في هذه الفترة لا يمكنني أن أغفر لا للواعي ولا للجاهل ولا للصامت ولا للشاكي ولا حتى للإعلام، وحتى الجمهور لا يمكنني أن أغفر له. إذ إن صمت الجمهور على بذاءات الإعلام العربي ساهم في ترسيخ وجوده وقوّته.
قدرة الردّ
أين هو الإعلام القادر على نقل الصورة الحقيقية للفكر المقاوم في مواجهة كلّ هذا الانحطاط؟ تردّ البشراوي: هل هذا ما ترينه فعلاً من المشهد العام؟ إذا أنت تضحكين على نفسك، الحقيقة أن عشر قنوات تضع يدها على الجمهور العربي. في رمضان تتنافس على المسلسلات، وخارج هذا الموسم تقدّم لك مشاهد القتل والذبح والحرق. وخلال خمس سنوات تتنافس على ترويج مبدأ من قتل وذبح أكثر من غيره، ولو كانت أفلام ملفقة ومركّبة. والجمهور نفسه يضع «لايكات» ويصفق لكلّ ما يدعو إلى الفتنة. وجزء من هذا الجمهور صامد مع الصامدين، ولكن هناك غالبية تصرخ مع الصارخين ولو لم نسمع صوتها لكنها تساهم في «اللايك» والتصفيق… حتى حين تبدي إعجابها وتقول نعم للذي يدعو إلى قتل الناس، فأي ثناء لمشاهير الإعلام العربي دعوة إضافية ليستمروا في عبثيتهم وجنونهم وإجرامهم.
الإعلام و«الربيع العربي»
تأخذنا البشرواي إلى إشكالية هذا العبث الإعلامي السائد الذي تمكّن من تحريك الشارع في ساحات محدّدة وسلّط الضوء على شعار «الربيع العربي» الذي لم ينسحب على الأنظمة العربية كافة، وعن ذلك تقول: إذا أردت الإشارة إلى الثورات التي بدأت من تونس ومصر ووصلت إلى هذه الدرجة من العبث اليوم، أقول لك بكل صراحة أنا كنت من الذين فرحوا بثورة مصر، وخرجت مع الناس لأنني كنت أؤمن بالحرّية، وأننا شعوب تستحق حياة أفضل وقوانين تحترم حقوق المرأة وكل فرد في المجتمع. ولكنني لو علمت حين خرجت في يناير 2011، أنني كنت أدعو لأن تُضرب المرأة في الشارع لأنها غير محجبة أو أن يُذبح إنسان لأنه يخالفني الرأي لما خرجت. في ذلك الوقت أنا كنت صادقة مع نفسي كي لا تتم محاسبتي ضمن صورة محددة، ومنذ الأسبوع الأول لبداية الأزمة في سورية كنت مع الناس الذين يشعرون بالظلم، وأعلم أن الظلم موجود أيضاً في سورية ونحن نعرف عنه أكثر من غيرنا. ولكن، حين خرجت الشعارات المذهبية والطائفية أدركت الحقيقة، ولا ننسى ليبيا الجحيم وهي جارة تونس، وأكثر ما يؤلم أن أرى التونسي الذي تربى على المدرسة الصوفية وهابيّاً، والسؤال الذي يستحق البحث والتحليل هو ما الذي يجعل التونسي وهابياً. وإلى الآن أقول إنه لو «كرافات» الأخوان المسلمين لما دخل «داعش»، هي الخديعة الكبرى والصنارة وباب الجحيم، لو كنت أعرف أن الحركات الأخوانية التي ستأتي بالسلفي الذي يقتلني بِاسم «دولة الخلافة الراشدة»، ولو كنت أعرف أن كرافات الاعتدال التركي والمصري والتونسي يعني أن معظم أتباع النهضة سيتحولون إلى «داعش»، لما كنت معهم بشكل مؤكّد.
إذاً، ما هو مفهوم الاعتدال والقومية العربية؟ تجيب: هي نكته كبيرة، الاعتدال والقرية الكونية وحوار الحضارات والقومية العربية كلها شعارات فارغة، تخيّلي إنسان خارج من البار يتكلم لغة الوهابيّ، وآخر كان يسخر من صوم شهر رمضان ويعتبره تخلفاً. هو نفسه يتكلم بمنطق «داعشي». وحين يذكر سورية يقول المجوس يريدون قتل أهل السنّة والجماعة. الوهابي أصدق من نماذج كهذه… نحن مع الثورة ولكن ليس أيّ ثورة، نحن مع الثورة لا مع الزريبة، نحن مع حرية التعبير ولسنا مع الحظيرة، كيف نقول نحن مع الثورة التونسية ولسنا مع سواها، كثيرون وقعوا في فخّ «الربيع العربي». تخيلي قومي عربي يقول لك في البحرين لا وجود للثورة ولا وجود للظلم وفي اليمن لا ثورة. حتى الناصريين انقسموا، إذا كان رئيس المؤتمر القومي العربي هو وزير خارجية اليمن ضد الحوثيين فكيف يمكن أن نفهم المشهد، هو انتحار فكري. أنا لا أفهم كيف تكون في لبنان مع المقاومة وفي بلدك تسمّي الأشياء بقاموس طائفي. ما يحصل في اليمن يفوق الجحيم.
ونسألها إلى أيّ مدى الصورة سوداوية، وهل إعلامنا المقاوم سقط في هفوات التقسيم حين يُسمّي الأطراف المتنازعة بمسمياتها الطائفية؟ فتقول: التفاؤل موجود، هم يشتمون ونحن نصبر ونصمد، ولا نجيب بأسلوبهم لأن لغة الشتيمة تعكس نفسية أصحابها ولا تعكس صورة المشتوم، ونحن منتصرون ولدينا الكثير من المحطات المشرّفة. في سورية صامدون ولم يتمكنوا من اقتلاع الجميل في نفوسنا، ولم يستطيعوا على رغم كل بذاءاتهم أن يجعلوا منّا نسخة عنهم. أما عن التسميات التي تشيرين إليها في إعلامنا فهي ليست خاطئة، التعدّدية مطلوبة وليست عيباً والتنوع يغني مجتمعاتنا، لا يمكنك أن تقولي العرب لأنك لست كل العرب، ولا يمكن أن تقولي الوحدة العربية لأن لا وحدة عربية. هناك خلل في هذا المصطلح الذي كنت أؤمن به ضمن إطار عشقي لفلسطين، وأقرّ أني ساهمت في تشويه المعنى الحقيقي للواقع لأنني كنت أؤمن بمصطلح «الوحدة العربية»، ولكنني حين سافرت ودخلت الدول العربية وتعرفت إلى الناس في قراهم وأحيائهم وبيوتهم وجدت أنهم حقيقيون ونحن جماعة المؤتمرات والندوات الزيف الفعلي للواقع ووقحون، ولدينا سماسرة لكل ما هو جميل. وبسمسرتنا نقسّم حقيقة ليست بشعة إلى هذا الحد. الناس العاديون في حياتهم العادية يدركون أن الأمة موجودة والمذاهب الأخرى موجودة والأعراق الأخرى موجودة حتى ولو لم يلتقوا بهم يوماً لكنهم يعرفون أنهم موجودون… نحن واجهة مشوّهة في داخلها وبرّاقة في ظاهرها. هل رأيت يوماً أيّ إعلامي غربي يتكلم ضد مصلحة بلده؟ لا أظن، هل رأيت جمهوراً في الغرب يصفق للإعلامي فقط لأنه نجم، في الغرب الإعلام يخدم الجمهور، ولكن في عالمنا العربي الجمهور في خدمة الإعلامي الذي قد يدين بلده وفقاً لأجندة مديره الذي لا يظهر أمام الناس. جزء كبير من إعلاميينا يقولون ما يُكتب لهم من مديرهم الذي يسهر في مكان ما ولا يخشى أي تهديد مفترض، لكن الواجهة الوسخة له تخرج للناس وتنطق بما قد يخالف المنطق. أنا أعرف زملاء المفترض أنهم مقاومون لكنهم يخرجون على قنوات ضدّ المقاومة. لدي زميلة عائلتها قدّمت الشهداء في غزّة، تطل على الجمهور في حرب غزة وتتلو ما يلقّنونها حتى لو كان ضدّ أهلها. فهل من يفسّر لي كلّ هذا التناقض؟ أنا كوثر البشراوي لست إعلامية واعتبروني ما شئتم، ولكن هل النماذج التي ذكرتها يمكن وضعها في خانة الإعلام؟ كيف يمكن لشخص أن يحمل وجهين؟ هؤلاء ليسوا إعلاميين إنما صُنّاع مؤتمرون بمن يدفع لهم، والمؤسف أنهم في الشارع العربي ينالون الألقاب البطولية وقد يرشّحهم الجمهور للقيادة… كلّنا نحتاج إلى المال ولكن حين يكون المال ثمناً للخضوع والتخلّي عن المبادئ والمقاومة فليحترق هذا المال.
البشراوي تتمسك بالأمل وعن ذلك تقول: ما أقوله يشدّ عزيمتنا، ولولا الأمل لما كنا هنا اليوم نتكلم، ولولا يقيني وإيماني لما أطلقت صرخة الغضب، الأمل بأن تكون حياة أبنائنا أفضل هو الذي يحثنا على البقاء. سألني أحد الصحافيين الشباب منذ قليل إذا كنت أبحث عن الشهرة فقلت له يا بني أكيد لا. نتنياهو مشهور وموسوليني مشهور والشاب الذي قتل أمه مشهور وأصغر راقصة مشهورة.
مكمن الخطورة
هذه الحالة الشاذة التي تجسّدت بشاب تمكّن من قتل أمه كيف تراها البشراوي؟ تردّ: هذه هي خطورة الفكر الوهابي، هذا نموذج بحت وخالص للوهابية من دون «رتوش»، ويجب أن يفهمها الجميع، حين نقول أننا ضد الوهابية عليهم أن يفهموا ماهية الموقف، قد يقول البعض أنه مغرر به وجاهل ولا يفهم في دينك أجيبهم ليتحمل مسؤولية ما فعله أمام الله وأمام الناس وأمام والدته قبل كل شيء، والتهمة الغريبة أنها أحبت أن تخرجه من المكان فاتهمها بالخيانة. انظري إلى أين يريدون أخذ أبنائنا!
لكن، إلى مدى يمكن لهذا الفكر التحكّم بمصير المنطقة؟ تجيب: المشكلة ليست في وجودها، إنما المشكلة أن نتركها مرتاحة ولا نواجهها، ونسمح لها بالتمدّد، هي موجودة ونتيجة فكر ثابت منذ قرون، وهي الأقلية في العالم الإسلامي لأنها أتت في مكان فيه سلطة مالية ونفطية وسياسية، ودخلوا بأساليب عدّة. على سبيل المثال هم بعد الثورة يضمّون إليهم كاتباً مشهوراً مسيحياً، أو أحد ناشطي حقوق الإنسان العلمانيين كي يقنعوا الناس أنها ثورة تعددية، وحين يحققون هدفهم يقصونهم وقد يقتلونهم، وهذا ما حصل في ليبيا. فهل سأل أحد ما عن محمود شمام الذي كان مسؤولاً عن مطبخ الأخبار في «الجزيرة» في الملف الليبي، أين هو اليوم محمود شمام؟ لا مكان له في ليبيا لأنه علمانيّ ومنفتح. وماذا عن ميشال كيلو؟ أين هو اليوم؟ ألم يخبره أحد أن الوهابيين يلعبون به؟ وهل يمكن لأحد أن يضع يده في يد أشخاص متعدّدي الأقنعة؟ بداية بالأخوان ثم السلفيين ثم المتشدّدين لتجد نفسك أخيراً في حضن البغدادي؟ التونسي الذي لم يعرف في حياته إلا حركة إسلامية معتدلة هي «النهضة» أصبح الآن الرقم الأول في «داعش»… هل شككت يوماً خلال عدوان 2006 أن تلك القناة لم تكن معنا في التغطية المباشرة لما يحصل أنت الإعلامية التي تتابع وتراقب. هل يذكر أحد الحلقة التي أطل بها القرضاوي متحدثاً عن المذاهب الخمسة ويقول أنه يجوز للمسلم أن ينتقي من هذه المذاهب ما يقنعه لأن المذهب ليس ديناً، هو نفسه الآن يتكلم عن النصيري والشيعي وأهل السنّة والجماعة، ونحن من نظن أنفسنا أذكياء لم نتنبه لذلك.
وتضيف في الإطار نفسه: كان من المفروض ألا ننتصر بكل بساطة، سواء كانت المقاومة من لون واحد أو لم تك. ممنوع الانتصار ولكنه حدث. ستجبرينني أن أخبرك أن هناك أناساً فنانين وشعراء ومغنّين لم يعرفهم الجمهور إلا بأغاني الفداء والثورة وفلسطين والقدس والشهيد، وحين أنجز النصر لو تعزّيهم لقبلوا العزاء، للأسف هذه هي الحقيقة. علينا أن ندرك أن الإيراني ليس عدوّنا وكذلك السعودي والتركي. قد نتخاصم مع السعودي ولكننا لن نقبل بقتله، وشهداء مرمرة هم شهداؤنا وأردوغان خان بلده وشهداءه الأتراك قبل أن يخوننا، و«إسرائيل» هي العدوّ الذي يجب ألا يشعر بالراحة أبداً. لنفكر قليلاً ونسعى إلى تقويم البوصلة وبناء النفوس التي تهشّمت في سورية. علينا ألا نلوم المقاومة لأنها صُبغت بلون واحد، ومن يختار الذهاب إلى الجبهة لقتال «الإسرائيلي» يستحق الاحترام. وهذه المقاومة لم تطلب منّي أنا كوثر التونسية أن أكون معها. أنا اخترت أن أؤيدها وفي المقابل لا يمكن أن أضحك على نفسي وأقول أن الجميع مع المقاومة. المقاومة أمر فطري ودين ومعتقد… وأنا أعتنق هذا الدين!
تجدر الإشارة، إلى أنّ برنامج «جدل عربي» يُبث هذا المساء في تمام العاشروة والنصف على شاشة «المنار».