«تحت نقطة الصفر» لموسى سمحان الشيخ… رواية تعرّي صلف العدوّ الصهيوني وعدوانيته
محمد شريف الجيّوسي
صدرت حديثاً رواية «تحت نقطة الصفر» للروائي الأردني الفلسطيني موسى سمحان الشيخ.
يقول المناضل ياسين جابر إن الرواية تناولت تجربة كاتبها وبداية مسيرته النضالية، ما أكسبها واقعية ومصداقية عالية.
ويعطي الروائي موسى سمحان الشيخ في روايته، دوراً للمرأة الأمّ والمناضلة والحبيبة. فالأم زوجة شهيد استشهد في معركة القسطل، نذرت نفسها لوليدها الوحيد وللحفاظ على الأرض التي ورثتها، و«سعاد» في البدايات التي شكّل رحيلها ألماً مبرحاً له، و«عروبة» المناضلة الحبيية ابنة يافا التي رافقته حتى النهايات، ودور النساء المساند للمتظاهرين.
تعكس الرواية جوانب من مفاهيم كاتبها في الريف ومعاناة الفلاحين وفي الصوفية والمدينة وما بينهما من فوارق اجتماعية وطبقية، وطريق تحرير فلسطين وما اعترى الأمة والشارع العربي من تراجع وإحباطات.
وتعرّي الرواية صلف العدو الصهيوني وعدوانيته، وجوانب من النضال السياسي في مواجهته، وما تعرضت له الحركة الوطنية المناهضة للاحتلال الصهيوني من عسف واضطهاد واعتقالات.
عموماً، تعكس الرواية مفاهيم ذات بعد ثنائي، أولهما طبقي اجتماعي بالحديث عن معاناة الريف والفلاحين من جهة وفوارق الحياة في المدينة، ووطني سياسي من جهة أخرى، على صعيد القضية الفلسطينية وما يتصل بها من احتلال وأعمال عدوانية متصلة ضد الشعب الفلسطيني من جانب، ورفض له ومحاولات للتوعية بمخاطره من جانب آخر. الأمر الذي طوّر قناعات بضرورة التحوّل إلى الكفاح المسلح، خصوصاً بعد ما لقيه العمل السياسي السلمي من اعتقالات.
وعلى هوامش الرواية، تلمّس الروائي موسى فرض رجال دين مسيحيين غير عرب على الكنيسة، ما يوضح عميق قناعاته القومية، وحديثاً عابراً عن الصوفية من زاوية إيجابية نسبها إليها.
أماكن الرواية الرئيسة القدس والخليل وبلدة الكاتب بيت سوريك التي باتت تتبع لمحافظة رام الله بعد احتلالها عام 1967 كانت قبل الاحتلال تتبع للقدس وتمتد الرواية زمانياً من نكبة فلسطين حتى أيامنا، وفي جوانب من الرواية يتضح أنها شملت عواصم عربية أخرى.
تتميز الرواية بالسلاسة والتلقائية والوضوح حتى يكاد القارئ تحديد الشخوص والأماكن والأحداث والمواقف بمنتهى البساطة، كما تتميّز الرواية بالابتعاد بمسافة كافية عن الفذلكة واستعراض مخزونات فكرية أو فلسفية أو لغوية أو سواها، ما يمنح القارئ متعة المتابعة حتى نهاية الرواية.
وهي إلى جانب كل ما سبق، رواية ذات بعد وطني قومي تقدّمي، غير صديقة لأيّ شكل من التعصب أو الانغلاق.
مما جاء في الرواية من إشارات تعكس قناعات الكاتب:
الفلاحون في الهمّ شرق، حياتهم تسير في وتيرة واحدة، كان الله خلقهم للشقاء وحده، حياة ولا أقسى…
هذه الأرملة «أم عمر» هي أكثر من يحس بوطأة الزمن، ربما لأن الحياة حرمتها من الأمن والأمان. ومع هذا، فهي تكتب أيامها بطريقتها الخاصة، من دون أن تمسك القلم.
فلسفة الجدّة بسيطة ومتواضعة، ما حاجة المرأة صغيرة أو كبيرة للذهاب إلى المدرسة، فالمرأة هنا منذ قرون بعيدة لا تعرف الدرب إلى المدرسة، ومع هذا وذاك فهي أعقل من كثيرين من الرجال، أليست هي التي تكدح في الحقل والبيت، وتنجب الأطفال وتربيهم؟ شيخة واحدة في القرية تكفي، وللاحتياط شيختان واحدة للحارة الشرقية وأخرى للحارة الغربية.
ثمة جرح يجب التخلص منه، قد يحتاج إلى وقت أكثر من اللازم، كل شيء يستغرق بعض الوقت، يتأمل ما وراء خطّ الهدنة الموقت، ويتأفف، لقد وضعتهم الحياة في ظروف صعبة، ويفتح صفحة في كتاب التاريخ الذي يحمله…
آفة قريتنا النسيان، أمر واحد لا يمكن أن يُنسى، هو ظهور هذا السرطان الذي يمتد ويكبر كل يوم، حتى ابتلع معظم أراضي القرية…
مع الظهر، وبعد الصلاة تحديداً، بدت مواكب الشهداء الثلاثة تزفّ إلى القبور، القرية بقضها وقضيضها والقرى المجاورة وجنود الحرس الوطني كانوا كلّهم في وداع الشهداء…
المستحيل صخرة تتفتّت تحت صربات العزيمة، لا يدري من هو قائل هذه الكلمات، ربما كان نابليون أو خلافه، للنجاح منطقه ودربه، وإذا كانت المجاهَدة هي السبيل إلى الحكمة، فإن الدراسة هي الطريق الذي يوصل إلى بوابة العلم.
الحياة أصبحت المعلّم الأكبر له، أما ما هزّه حقاً، وهو يطالع أحد الكتب المستعارة، وجود ورقة صغيرة مكتوب عليها بخطّ اليد «رماني الناس بالحجارة فجمعتها وبنيت بيتاً»، غاندي. تطلع إلى الأعلى وهمس: متى سأبني بيتاً كبيت المهاتما غاندي؟
يتساءل «عمر» في سره، لماذا جاء هذا الرجل من اليونان ليقود كنيستنا؟ وبمسوح الرهبان يتملاه ويستدرك لماذا هو على هذه الشاكلة؟ عموماً لا حاجة لعمر وأقرانه بمهمات هذا الراهب من قريب أو بعيد.
حين ماتت «سعاد» مات شيء في «عمر». ماتت بهجة صغيرة. ظلت «سعاد» عصية على التطويع، موت رفيقة دربه جعل حياة «عمر» أصعب قليلاً… كم مأساة شهدتها القرية: العدو الجوع والعفن الذي يعتري كل شيء، وحدهما الأرض والخضرة وطيبة الناس تقف في وجه المثلث الأول.
طلب إليه أن يتدبر أمر الكتاب بوضعه في عبه مثلاً أو أي وسيلة إخفاء أخرى، هنا مدن عربية لا تحتمل المزاح، وعلى «سي عمر» أن يعي الدرس جيداً، التهم سندويشة فلافل حرّاقة وانطلق.
الطريقة الصوفية تقول النهايات لا تصحّ إلا بصحة البدايات… هذا كلام حق لا يراد به باطل.
تنتابه أحياناً فورة من الذكريات فيحنّ إليهما معاً: أمه و«سعاد»، القرية وأقرانه تمنح المدينة بقدر ما تمنع.
حزّ في نفس «عمر» وأرقه إلى حدّ بعيد موت مجنونة القرية، كانت قريبة إلى نفسه لأسباب لا يعرف كنهها، ربما لأنها تعوّدت قول الحق، واعتنقت مناكفة السلطة من المختار حتى القائممقام الرابض في مكتبه في القدس، ولا يعرف من القرية سوى اسمها.
اطّلع على المنشور وتفهّم مضمونه ولم تعجبه صياغته، أخفى الأوراق في مخبأ سرّي لا يعرفه الجنّ الأزرق على حدّ تعبيره، اضطجع على السرير وراح يسترجع صورة «عروبة».
كلّ ما حولهما بنايات شبه حديثة يقطنها أثرياء مترفون، فلل وسفارات أجنبية ومراكز أمن ومارة قليلون غير معنيين بهم من قريب أو بعيد.
أطلّ القمر على استحياء، نظر إليه خطفاً، وجده كحاله ممتقعاً وشاحباً، القمر في كل مكان له وجه، هو في الريف كما يشهد «عمر» ويعي غيره في المدينة، قمر القرية أشد صفاءً من قمر المدينة.
جلس الرجلان يتحدثان، أخبره «الحاج يوسف»، عن العدوان الأخير على الخليل، حيث قامت كبانية «كفار عتصيون» بالهجوم على مدينة خليل الرحمن ليلاً وبغتة وبدعم من مدفعية جيش العدو.
لطمه سؤال، لماذا لم تكتب جرائد القدس عن هجومَي الخليل وبيت سوريك، لماذا الصمت والتعتيم؟
داعبت الآلة باليد اليمنى، بينما أخرجت من حمالة صدرها منشوراً صغيراً، يتحدث عن الهجمات التي قام بها العدو الصهيوني على مجموعة قرى ومدن في القدس والخليل وينتقد حالة الاسترخاء العامة في البلاد.
انهمك «عمر» في سحب المنشورات على الآلة البدائية الناسخة والإسهام في توزيعها بمساعدة «عروبة» وآخرين.
من يتحدث اليوم عن الوحدة العربية وتحرير فلسطين وجبهة التحدي والتصدي وكل شيء للمعركة بات يعتبر حتماً مارقاً أو نزيلاً رسمياً في العصفورية.
أما النساء، فتعدّى دورهن بالزغاريد والإيواء لمن تطاردهم الشرطة من الطلاب إلى وضع الماء المثلج في الساحات وعلى أبواب البيوت.
بغضّ النظر عن الأصول والمنابت، فأنا أحبك، نعم أحبك، هكذا من دون مقدمات، احمرّ وجه الفتاة، وبدا وكأنها فوجئت.
يوماً بعد يوم، تأكد أن الطريق لاسترداد بلاده هو العمل المسلح، فهنا عدو جاء ليبقى، ليستوطن، ليمحو كلّ شيء كلّ ما هو عربي فلسطيني.
هذه الأسرة المنحدرة من «حيّ العجمي» في مدينة يافا، اقتلعت عنوة من جذورها الساحلية لتحيا آلام النكبة… إنه وشم فلسطين الخاص.
أقول لك يا ولدي إن هؤلاء الأوباش لا صلة لهم بموسى أو بعيسى…
على رأس التظاهرة زعماء الأحزاب المقموعة والنقابات المهمشة والطلاب بمن فيهم «عمر» و«عروبة» و«جورج» وكلّ مَن على شاكلتهم، يتقدّم التظاهرات «غوشة» و«الحسيني» و«زيادين» و«الدزدار» وغيرهم.
حرص «عمر» أشدّ الحرص ألا يبلغ خبر اعتقاله أمَّه المريضة. ومن أجل هذه الغاية طلب من «عروبة» التي تمكنت من الهرب بأعجوبة، أن ترسل إليه ابن عمه «جابر»…
وأخيراً، رحلت «أمّ عمر» من دون أن يحقّق «عمر» لها أيّ شيء، على الأصحّ لم يحقّق لنفسه شيئاً بعد.
ألغت إدارة السجن موعد العشاء وقسّمت الساحة إلى مربّعات عدّة، وبدأت هجومها الصاعق. خراطيم المياه وقنابل الغاز مصمّمة للمساحات الصغيرة، وهراوات جديدة استُخرجت للتوّ من المخازن الحصينة. قوتان من الأمن والجيش باشرتا على وجه السرعة محاولة قهر الرجال وإخضاعهم.
جاءت الرواية في 190 صفحة من القطع الوسط، وصدرت عن دار «فضاءات» في العاصمة الأردنية عمّان.
يذكر أنه صدرت للكاتب ثلاث مجموعات شعرية هي: «أمّي إذ تعانق ريحها»، «تضاريس الجرح النازف»، «لم تزل نوافذ المطر تضيء».كما صدرت له أربع مجموعات قصصية هي: «الأرض والأطفال»، «رجل يريد أن يحيا»، «امراة في حالة انتظار»، و«قد ينتهي الشقاء». وصدرت له أيضاً رواية عنوانها: «مكان يتّسع للحبّ».
وجاء على غلاف الرواية: «مدينة القدس غاضبة وهي لا تستطيع السكوت إلى الأبد، في أحشائها يمور ألف بركان، إنها المدينة التي تأبى أن تسلّم مفاتيحها، تاريخها، أسوارها، مآذن قبابها، كنائسها، أزقتها كلّ شيء فيها يقول ذلك، مدينة تأبى الخضوع، وحيدة تسرح خيولها، تجود بدم أبنائها من دون حساب».